عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-10-2023, 05:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,889
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التكامل الإنساني في محمد صلى الله عليه وسلم

الخلق الكامل

  • الرفق :قال الله سبحانه وتعالي لنبيه الكريم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ولقد قال صلي الله تعالي عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «أدبنى ربى فأحسن تأديبى» .
وكمال الخلق لفظ قصير يتناول في معناه كثيرا، فهو يشمل حب الفضيلة والتمسك بها والقيام بحقها، ويشمل حسن العشرة ولطف المودة، ويشمل صلة الرحم والإحسان إلي الجار القريب والبعيد، ويشمل حب الناس والرفق بهم، ويشمل التواضع، وتوطئة الكنف لهم، ويشمل البشر، ولقاء الناس به، ويشمل الأناة والحلم، ومنع الجفوة، ويشمل كظم النفس واجتناب الغيظ، ويشمل الحياء وإقراء السلام علي من عرف ومن لم يعرف، ويشمل الجود بما عنده، والزهد فيما ليس عنده، ويمنع الغلظ والفظاظة، ويشمل العفو عن المسىء، وإقالة عثرته، ويشمل الرد علي المسيء بالإحسان، ويشمل تخليص القلب من الإحن، ويشمل الإعراض عن الجاهلية، وترك المهاترة، والمماراة والمجادلة، ويشمل التيسير، وترك التعسير، والتبشير، دون التنفير.
وفى الجملة الخلق الحسن يشمل تهذيب النفس، وتربية الوجدان، والتالف مع الناس، والقرب إليهم، وتوطيء الكنف لهم، والتواضع، والرفق بالضعفاء، والقرب منهم، والألم لالامهم، والسرور لسرورهم، والاندماج فيهم من غير تأثم، ولا تجانف لإثم.
وإن الخلق الحسن يؤثر فى الدعوة إلى الحق، بما لا يؤثر البرهان وضروب الأقيسة.
وإنه من أوصاف النبوة، ولقد قال الله تعالى فى ثمرات الخلق المحمدى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (11) .
  • العفو: ولقد هيأ الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون الهادى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فوهبه الخلق الكامل، الذى يؤلف القلوب، ويجمع النفوس، إلا من طغى واستكبر، واثر الهوى على الحق، وكان قبل البعثة يحب العشير، ويقرب الصديق، ولا يعنت أحدا بعداوة، بل كان الملاك الطاهر بينهم، يعف عن قول الخنا وفعله، ويبتعد عن الهوى وجموحه، لا يعادى، ولا يصخب، ولا يفحش فى قول أو عمل، وهو الصادق، وهو الأمين، وهو الذى يعين الكل، ويغيث الضعيف، ويعين على نوائب الدهر، يعفو عمن ظلمه إلا أن يكون فى ذلك انتهاك لحرمة من حرمات الله، أو اعتداء على فضيلة.
واذا كان المسيح عيسى بن مريم قد كان خلقه السماحة يعفو عن المسيء كذلك خلق النبيين عامة، وخلق محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وكان ذلك إيجابيا، وليس سلبيا، يفعل الخير ويجتنب الشر، وكان التاجر السمح الصبور، حتى إنه يروى بعض القرشيين أنه بايع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بياعة قبل البعثة، وبقى شيء لم يأخذه من محمد، فانتظره النبى عليه الصلاة والسلام ثلاث ليال، وكان يذهب فيقيم فى مكانه الذى غادره فيه، حتى لا يضل فلا يهتدى إليه، فيضيع حقه الثابت له.
ولقد امتدت هذه الأخلاق إلى ما بعد النبوة، فكانت دعامة الدعوة، فسار بسنة العفو عن الإساءة، والإعراض عن الجاهلية استجابة لقوله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (12) ، وقد كان ذلك الخلق يجذب الناس إلى الايمان من غير دليل ولا برهان، وإن كان الحق واضحا فى ذاته، وزاده وضوحا خلق النبى الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، ولنذكر واقعة كان العفو فيها داعية الإسلام.
تصدى غورث بن الحارث ليفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نائم تحت شجرة قائلا، والناس قائلون، فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا وهو قائم، والسيف مصلت على رأسه فى يد الرجل، وهو يقول: من يمنعك منى؟. فقال عليه الصلاة والسلام بقلب مؤمن ولسان صادق: «الله» ، فسقط السيف من يد الرجل. فأخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: «من يمنعك منى» ، قال: كن خير اخذ، فتركه وعفا عنه. فدنا قلب الرجل بعد نفور، وصار داعية لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن كان يريد قتله، فقد ذهب الرجل إلى قومه يحببهم فى محمد عليه الصلاة والسلام ودينه، يقول: «جئتكم من عند خير الناس» . ولقد قال فى مجمل أقواله هند بن أبى هالة، وهو ابن أم المؤمنين خديجة من غير النبي.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يخزن لسانه. إلا بما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، وبحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة (13) .
وقال هند هذا فى مجلسه: كان إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه، من جالسه، أو قاوله فى حاجة، صابره، حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، وصاروا عنده فى الحق سواء.
مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تغشى فيه فلتاته، متعادلين يتفاضلون بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب (14) .
ويقول: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا ممزاح، يتغافل عما لا نشتهى، ولا يوئس منه راجيه، ولا يخيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثواب، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته، حتى أن أصحابه يستحلمونه فى المنطق (15) . إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز، فيقطعه بانتهاء أو قيام.. ويقول: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما تقديره، ففى تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره، ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شىء ولا يستفزه.
  • أخلاقه خارقة للعادة: ولنقف وقفة فى تجزئة ذلك القول البليغ، ودلالته على ما وراءه مما ينبغى أن تكون عليه أخلاق الداعى إلى الحق، وصاحب الرسالة التى حمله الله تعالى إياها، وأثر هذه فى الإجابة.
لقد قال بعض الكتاب معددا الخوارق التى صاحبت الدعوة المحمدية، قال إن من أعظم الخوارق التى كانت لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أخلاقه، فكانت فى ذاتها أمرا خارقا للعادة بين بنى الإنسان، فهى أعلى من أخلاق الملائكة، لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم: «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» (16) وليس فيه روحانية عيسى عليه السلام المجردة بل كانت فيه الروحانية الإنسانية، بما فى الإنسان من مطالب الجسم، وتجرد الروح، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بين الناس الإنسان الذى تتجلى فيه الإنسانية الكاملة، وفى طبعه روحانية إرادية، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة دخل فى تكوينه، فهو ليس حصورا، ولكنه عفيف لم يتدل إلى خنا قط، ففضيلته كف الشر، وتجنب له، والعفة من حصور، ليست كالعفة ممن له شهوات تغالبه، وأهواء تعانده، وبمعركة بين القوتين تكون النصرة للعفة، والغلب للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس، مما يجيء رخيصا سهلا.
وإن من أول صفات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذى ذكره ربيبه هند، أنه يخزن لسانه، أى يكون لسانه كأنه فى خزانة قد ستر لا يظهر إلا لخير يرتجيه. فلا يشجع على نفرة، بل إنه لا ينطق إلا فيما يعنى الذين يخاطبهم، ويفيدهم، ويكون فيه تأليف لقلوبهم وتقريب لنفوسهم، وتأنيس غريبهم، ويأمر بإعطاء ذى الحق، ولا يتكلم فى مراء، ولا يذم أحدا ولا يكثر فى قول، خشية سقط اللسان، لا يعيب الحرمات، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يشبع نهمة القول، فإذا تكلم هو كان كلامه فصلا، وكان قوله حكما.
وجملة القول فى ذلك أنه قد استولى على لسانه، فلا يتكلم إلا اذا لزم الكلام لرفع حق، أو خفض باطل، أو تأليف، أو زرع مودة، أو إسداء معروف، فلسانه ليس خارجا على إرادته، ولكنه مكملها، ويسير تحت سلطانها وإرادته للحق.
والصفة الثانية من أخلاقه أنه يتألف مع أصحابه، ويمتزج إحساسه الفاضل بإحساسهم لينساب إلى نفوسهم ويكرم كريمهم، ويرفع خسيسة صغيرهم، حتى يحس بأنه منه، ويوزع محبته بينهم، ويعطى نفسه لكل واحد منهم حتى أنه يظن كل واحد منهم أنه موضع الرعاية منه، وإذا رأى أمرا حسنا أعلن حسنه، وإن رأى قبيحا نبه إليه فى رفق الهادى الأمين الذى يؤلف، ولا ينفر، ويقرب، ولا يبعد، لا يسكت عن باطل. وهو بينهم اليقظ الذى لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لا يطوى نفسه لأحد على شر، وينقذهم، وكان حريصا يحذر من يتوهم منه شرا، ويحترس منه من غير تقطيب وجه، أو غلظة فى قول، بل هو فى كل أحواله الأليف المألوف. يقتح قلبه لهم، ليقول خيارهم ما تنطوى عليه نفوسهم، ويستحيى غيرهم من أن يظهر خبيئة نفسه، بل يبقى حبيسا لا يظهر، وربما خبا فيزول، ويستقيم أمره، فإن بعد الرذيلة عن النور والماء يذبلها، بل يذهبها.
والصفة الثالثة التواضع الكريم الذى لا ضعة فيه ولا ذلة، فهو إذا دخل على جماعة جلس حيث ينتهى المجلس وحث أصحابه على ذلك، ويتطامن لهم فى المجلس؛ ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوى بينهم، وبشره مستمر، يلين جانبه لهم، ويغض الطرف عما لا يحسن إلا أن يكون فى السكوت ترك لواجب الإرشاد. وإن أرشد ففى رفق يكتفى بالإشارة. فإن لم يكف كان التعرض، فإن لم يكف كان التنبيه فى تعميم، فإذا رأى بعض الناس يسيء لا يواجهه بالإساءة، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا شك أنه إذا كان التوبيخ فيه معنى العموم كان ألطف، وكان مع ذلك أفعل، وأبلغ أثرا.
ولا يمزح إلا قليلا، وإن مزح فبعبارة فيها حكمة، ولا تخلو من بيان كقوله لعمته صفية: «لا يدخل الجنة عجوز» فبكت، فقال عليه الصلاة والسلام، تكنّ «كواعب أترابا» ألا ترى فى هذا مداعبة لطيفة تخبر عن حال من أحوال الاخرة.
الصفة الرابعة بعده عن الغلظة والجفوة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا عياب، ولا متتبع العورات ولا صخاب ولا فحاش فى القول، وإن كان صادقا فإن النطق بهجر القول، ولو كان وصفا صادقا لمن يرمى به فإنه لا يصح النطق به إلا إذا ترتب عليه ضياع حق أو نصرة باطل، فإنه يذكر موضوعه، ومن غير تخير للفاحش.
الصفة الخامسة: الامتناع عن الذم امتناعا مطلقا، إلا أن يضطره الحق اضطرارا، فإنه يتكلم بالكناية، ولا يرضى للعبارة سترا، وإبعادا عن الفحش فلا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وما يجلب خيرا للناس.
والصفة السادسة: التى يدل عليها هذا الكلام من ذكر أخلاقه، أنه عليه الصلاة والسلام كان يلتزم السكوت كما أشرنا، ولكن ليس سكوت العيىّ الحصر، بل سكوت من يفكر فى القول قبل أن ينطق، ومن يحذر من أن يشيع عنه ما لا يليق بمثله، وهو يقدر، وقد يكون سكوته حلما وعقلا وإغضاء وعفوا عمن يكون فى قوله سوء.
والصفة السابعة: أنه لا يغضب لشيء يتصل بذاته، ولا يستفزه شيء يتعلق به، بل لا يغضب إلا لله أن تنتهك حرماته، فإذا كان ذلك لا يسكت حتى يقام حد الله.
هذا ما وصفه به هند بن أبى هالة، وقد كان رجلا وصافا للرجال، لا تفوته اللمحات، ولا تخفى عليه النظرات، وتنكشف دخائل النفوس من العبارات، وقد لخصنا لك بعض ما تنبئ عنه الكلمات.
ولننقل بعضا من قول من عاشروه وخالطوه، لتعرف كيف كان عشيرا، وفيا، وذا خلق هنيء، لا جفوة، ولا جفاء.
لقد روى عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة، وهى التى عاشرته، وهو يحمل أعباء الإنسانية كلها ويخوض الحروب ويتنقل بين ميادينها- أنها قالت فى أخلاق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده خادما قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يكون إثما، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل» .
ولقد وصف أبو هريرة صاحبه، فقال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبى وأمى، لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق.
وإن هذا الوصف لذلك الصحابى الجليل، ينبيء عما كان عليه الصلاة والسلام من معاملة للناس، وقد وصفه فى هذا بثلاث صفات:
الصفة الأولى: أنه فى لقائه يقبل بنفسه كلها على من يلقاه، فلا يلقاه لقاء جانبيا أو يكلمه بطرف من لسانه، أو يستقبل استقبال المستهين، بل هو واضح فى إقباله، كما هو واضح فى إدباره، فإن تركه لا يتركه إلا بعد أن يتم حديثه، وعندئذ يتركه، فلا يبقى حديثا لم يستمع إليه، ولم يستمع إليه وهو يولى مدبرا.
والصفة الثانية– أنه لم يكن يجبه الناس بفحش، أو بخروج القول عن جادته، وقد أشرنا إلى هذا فى وصف ربيبه هند بن أبى هالة.
الصفة الثالثة– أنه لا يصخب، ولا يغاضب، ولا يجادل فى الأسواق، بل كان كل شيء فيه على سمت حسن وجلال.
وقد أشرنا إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان كما يستفاد من وصف ربيبه له متواضعا أبلغ ما يكون التواضع، ولقد خير عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فاختار أن يكون نبيا عبدا.
هذا هو النبى صلّى الله عليه وسلّم الذى بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وقد بعثه فى قوم شمس، فيهم عنجهية جاهلية وغطرسة نسبية، يخير نبيهم المبعوث لهم بين جبروت الملك، ورق العبد، فيختار رق العبد، لأنه يريد أن يقرب من النفوس، لا أن يعلو عليها، فالرشاد يجيء من القريب منهم، ويبتعد عمن يستعالى عليهم.
روى أبو أمامة رضى الله تعالى عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، وقال: إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وقد جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض: وفى حديث عمر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» . وعن أنس رضى الله عنه أن امرأة كان فى عقلها شيء، جاءته، فقالت: إن لى إليك حاجة. قال صلى الله عليه وسلم «اجلسى يا أم فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك، حتى أقضى حاجتك» (17) .
ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فى أهله موطأ الكنف، يعين أهله فى مهنة البيت، ولا يستنكف، يغسل ثوبه ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، وبأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته.
وكانت الأمة من إماء المدينة إذا احتاجت إلى من يعينها من الرجال، ولقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعانها فى حاجتها، حتى تقضيها، ثم ينصرف عنها موفورا غير منقوص.
هيبة

ومع هذا التواضع الكريم غير الذليل، كانت هيبته فى القلوب أشد ما تكون هيبة الرجل الذى اختاره الله تعالى رسولا للعالمين، وما كان تواضعه إلا لما يعلمه من فرط هيبته، فيلطفها بذلك التواضع، بل إنهما نبعا من هيئة واحدة، فهما متاخيتان، بل إنه لا يتواضع هذا التواضع من غير إن يتضع، إلا من يكون قويا فى نفسه، لا يحس بأنه ينزل إلى المهانة فيما يفعل، وفيما يدع.
ولقد وصف الواصفون مجلس النبى عليه الصلاة والسلام بين صحابته بما يدل على عظيم مهابته، وقوة وقاره، وسمته، فقد كان مجلسه عليه الصلاة والسلام يحفه الوقار، لا يتكلمون إلا إذا أذن فى القول، فإذا صمت صمتوا، لا يخرجون عن قوله، ولا يبعدون عن إرادته. ولكن فى تواضع واطمئنان.
وقد كان أحيانا يحرص على أن ينزل ثم ينزل ليقرب منه الذين يحدثهم، ويريد هدايتهم، وأحيانا كان النساء يسترسلن فى القول فى مجلسه من غير أن يكون منه جفاف القول، وهو قادر على إسكاتهم بنظراته، ولكنه لا يرمضهن، ولا يمنعهن.
وقد كان يرشد بعض النسوة، فكن يتسابقن فى سؤاله، فتصايحن عليه، فدخل عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهن يتصايحن فى تسابق إلى السؤال، فسكتن: فابتسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت سنه، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ما الذى أضحكك؟
فقال الرسول الكريم الرؤف الرحيم: هؤلاء النسوة كن يتصايحن على، فلما رأينك سكتن، فقال عمر:
أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله. فقالت إحداهن: ولكنك أفظ وأغلظ. فأسكتها الرسول وقال القوى المهيب، نافيا الغلظة عن صاحبه: «لا، إن الشيطان لا يسير فى فج يسير فيه عمر (18) » .
ولم يكن عمر أشد هيبة من النبى بل النبى المهيب المحبوب، ولكنه يتطامن ليصل إلى القلوب، وهو لا يترك هيبته ترهب، ولكنها هيبته ما كانت إلا لترشد، فالإرشاد غايته فى حاليه مهيبا ومتواضعا.
وان أخبار هيبته فى مبدأ البعث لها صور ووقائع، ولكن ما كان عليه الصلاة والسلام يسلط هذه الهيبة التى تفرض صاحبها إلا نادرا، لتكون استجابة الدعوة عن الاقتناع المجرد الذى لا يدخله رهبة ولا ترغيب إلا ما يكون من رضا الله تعالى يوم القيامة.
ولكن إن كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بيّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية، ولنذكر من ذلك واقعتين.
إحداهما- أنه يروى عمرو بن العاص أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطوف بالبيت، والملأ من قريش جالسون فى فنائه، فكلما مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غمزوا بالقول، فيبدو ذلك فى وجهه، وكرروا ذلك حتى أتم الطواف سبعا، ثم التفت إليهم، ووقف وقال لهم فى قوة المؤمن، وعزمة الصادق، وهيبة القائل: يا معشر قريش شاهت الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس؛ لقد جئتكم بالذبح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فراعهم قوله وأفزعهم، فما كان منهم أحد إلا كان يرفوه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا. ما علمنا عليك شراقط.
ولا شك أن الهيبة الإنسانية التى منحها إياه رب العالمين كانت هى الفاصلة فى هذا، وما كان النهديد الذى ساقه عليه الصلاة والسلام له الأثر النفسى، إلا لصدوره عن مهيب قوى.
الثانية- أن أشد الناس طغيانا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن هشام الذى سماه التاريخ الإسلامى بحق أبا جهل فقد كان فاجرا، لا شرف فى القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يصابره ليثير عطف الناس على الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلى الشر وصبره له. ولقد كان لبعض العرب دين عليه، فماطله، ثم امتنع عن السداد فرأى أن يستعين ببعض زعماء مكة ممن هم على شاكلته ليستأدوه دينه، فأحالوه تهكما- على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- فذهب إليه الرجل يستعين به، فذهب النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبى جهل الطاغية، وطرق الباب، فخرج إليه، وفرائصه ترتعد، من هول العزمة المحمدية، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: أد للرجل دينه، فذل كبرياؤه كبرياء الجاهلية، وأحضر المال وسدد الدين صاغرا، وصار هو أضحوكة الجاهليين أشباهه.
وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام: «هون عليك، فإنى لست بملك، انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان) ، فيثب التاجر إلى يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال صلى الله عليه وسلم: «صاحب الشيء إحق بشيئه أن يحمله» .
وقليل من الناس من يلتقى فيه التواضع والهيبة، وإن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى أسمى درجات الهيبة، ونزل من التواضع إلى درجة يقرب فيها من كل ذى حاجة وذى ضعف، يأنس به الضعيف ويرجوه ذو الحاجة فى حاجته.
إن أكثر الذين يستكبرون ممن يحسون يضعف فى نفوسهم، ولا يجدون فى أنفسهم قدرة شخصية تفرض هيبتهم فيستعينون بالكبرياء وغمط الناس والتسامى عليهم، ليعوضوا النقص، ويخففوا الضعف، أو يخلقوا هيبة صناعية: مصدرها مال، إن ذهب فقد ذهبوا، أو منصب يتعالون به إذا ألقوا عنه أصيبوا بالصغار والضياع، أما ذو الشخصية المهيبة بتكوين الله تعالى، وبما منحه الله تعالى من علم وفضيلة وقوة نفس. فإنها لا تحتاج إلى المهابة الصناعية والغطرسة والاستعلاء بها على الناس، والاستهانة بهم، واستصغار أمورهم.
والمهابة الفطرية التكوينية المستمدة من العلم والخلق والفضيلة هى والتواضع صنوان ينبعان من معين واحد، فهما لا يفترقان، لأن المهابة الفطرية ليست فى حاجة إلى غذاء صناعى، بل إن المهابة توجب التواضع ليكون التالف والتكامل الجماعى.
العفو والتسامح

ينبعان من قلب سليم وخلق كريم، ولقد قالت عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها فى خلق النبى صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القران» ، فهو يأخذ بهديه، ويتبع منهاجه من غير عوج، ولا التواء، والله تعالى يأمره بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (20) واستمع إلى قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (21) .
وقد هيأه الله تعالى قبل البعثة، ليكون العفوّ عن هفوات الناس، المتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلبا خاليا من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لابد أن يكون نظره إلى ما هو أمامه ولا ينظر إلى الوراء، والأحقاد والأضغان، ومحاسبة كل امريء عليه ما كان منه، إنما هى تشد صاحبها إلى الوراء، فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به فى المستقبل، بل يكون تفكيره فى شفاء غيظ من أسقامه التى كانت فى الماضى، ومن يأتى برسالة داعيا إلى الحق، لا يكون دبرى النفس يشغله الماضى عن الحاضر، بل يكون عاملا للمستقبل.
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذى خلقه ليحمل أقوى رسالة، وأعظم هداية، رباه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فما كان من إحن يضعها دبر أذنه، وما كان من واجب تفرغ له ليبلغ الرسالة على أكمل وجه، فلا يشغل نفسه حقد، ولا تملؤها إحن، فحسك الصدور يشغل عن العمل، ويفسد الصلات، ويغرى بالعداوة، ونبى الله تعالى فوق أن يشغله ضغن.
ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام كذلك قبل أن يبعثه الله تعالى، فلم يعلم فى تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهلية وما كانت تبثه من عداوات، بل إنه فى اخر الرسالة يعلن الصفح الكامل، فيقول في قوة ذى العزم من الرسل، «ألا إن دم الجاهلية موضوع، وأول دم أبدأ به دم عمى الحارث بن عبد المطلب» .
ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر (22) » .
ولمحبته للعفو الكريم والصفح الكريم ما كان يوجه لوما على عمل عمل مادام يخص نفسه، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله ما قال لى لشيء صنعته لم صنعت هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع»
ويقول ذلك العشير الذى خدمه فى السفر والحضر: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، أرسلنى لحاجة، فقلت: – لا أذهب- وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون فى السوق، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد قبض بقفاى من ورائى قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال يا أنس، ذهبت حيث أمرتك؛. فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله» ومضى أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حيث أمره أو طلب إليه من حاجة (23)» .
هذا خبر يبدو صغيرا فى مقام أخبار النبوة المحمدية، ولكنه كبير فى مغزاه، وفى معناه، وقد بدت السماحة وسماحة الأخلاق، أولا- فى أنه عفا وسامح خادمه وهو يعانده، ويرد قوله ظاهرا، فما لامه، ولا عتب عليه، ولا احتسبها عليه، ولكنه تركه لتقديره، وقبل ألا يذهب إلا مختارا غير مأمور.
وثانيا: تتبعه ليعرف ماذا أجدى الصفح الجميل، وعلاج شماس النفوس بالتسامح والتساهل، والإخاء من غير إعنات ولا استكراه فى إغلاق وإغضاب، أو مغاضبة.
وثالثا: لم يكتف بألا يغضب، بل إنه يداعبه مع ذلك، فيقبض عليه من قفاه، ثم يناديه مداعبا ضاحكا يا أنيس، يد لله بتصغيره، وهو الذى عانده، ورد إرادته.
ثم يقول معلنا انتصار السماحة والعفو، وعدم المؤاخذة على ظواهر الأفعال «ذهبت حيث أمرتك» هذا كمال النبوة وخلق النبى الذى يدعو النفوس الشاردة فيروضها على الحق، ويؤنسها فى عفو وسماحة، وصفح جميل، بل إن الإشارة لا تعلو قط، حتى تكون أمرا.
وقال أنس هذا «كنت أمشى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا به قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: «يا محمد مر لى من مال الله تعالى الذى عندك» فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء» .
وإن هذه السماحة، وذلك العفو خلقه قبل البعثة، وكان خلقه عندما اشتد الأذى، فهو يعالج عنف قريش بالرفق فى القول، ويعالج الإيذاء بالصفح الجميل، الذى لا يمن به، ولكنه يهدى به من شاء الله تعالى، ولو لم يكن العفو أساسا، لطلب من الله تعالى كما قال تعالى عن نبيه نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ، دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «١» ولكن الله فضل بعض النبيين على بعض، ولكل أمة رسول تكون أخلاقه على ما يكون سبيلا لهدايتها ولإرشادها.
روى أنه لما كذبت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالغت فى الأذى، ولما لجأ إلى ثقيف فى الطائف وأغروا سفهاءهم. أتاه جبريل عليه السلام فقال له: «إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم- فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال:
مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين اللذين يحيطان بمكة المكرمة) قال النبى السمح الكريم «الهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .
وذكر ابن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، قال: أؤخر عن أمتى، فلعل الله تعالى أن يتوب عليهم» .
وإن سماحته عليه الصلاة والسلام وعفوه ليبدوان فى عفوه عمن عادوه واذوه وقاتلوه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى والقتل والقتال إلا سلكوه، وما تركوا كيدا إلا كادوه له، ثم ال الأمر إلى أن ينتصر عليهم نصرا مؤزرا.
عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطييب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود راه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام.
إن الداعى بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين: أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضى، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان، والعفو عما سلف من سيئات هو الذى يمكن الداعى من الخلاص إلا من الحق.
ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعى ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكى يتفرغ بكله للحقوق العامة.
وإذا كان ذلك ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس، فكيف يكون الشأن ممن هو رسول لرب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها.
ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فى وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» .
وفى الجملة ما كان يحمل إلا الخير، وينفى عن نفسه كل ما يثيرها على أحد، فلا يكون منه إلا النفع، ولا يحمل نفسه عناء البغض والكراهة إلا أن يكون لله.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]