﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ﴾، قرأ يعقوب بكسر التاء: «يؤتِ»، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ يُؤْتَ ﴾؛ أي: ومن يعط الحكمة، وبني الفعل لما لم يسم فاعله؛ لأن المعطي للحكمة معلوم، وهو الله عز وجل، كما في الجملة السابقة.
﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾؛ أي: فقد أعطي خيرًا كثيرًا، يجب عليه شكره.
﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾؛ أي: وما يتعظ ويعتبر بآيات الله وينتفع بها إلا أصحاب العقول السوية السليمة، الذين تهديهم عقولهم إلى الحق.
قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾.
رَغَّبَ عز وجل في الإنفاق بذكر مضاعفة أجره، وأكد في هذه الآية أنه لن يضيع عنده سبحانه ذلك مهما قل، ويحاسب ويجازي عليه.
قوله: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: شرطية، و«أنفقتم»: فعل الشرط.
و«من» في قوله: ﴿ مِنْ نَفَقَةٍ ﴾، وفي قوله: ﴿ مِنْ نَذْرٍ ﴾: زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى للتنصيص على العموم.
و«نفقة» و«نذر» كل منهما نكرة في سياق الشرط فتعم كل نفقة ونذر؛ أي: أي شيء تنفقونه من قليل أو كثير، ومن أي شيء كان، وأي نذر تنذرونه.
والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أتصدق بكذا، أو أن أصوم كذا، وهو جائزٌ مع الكراهة لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بما لم يكن واجبًا عليه، مما قد يعجز عنه ونحو ذلك، والعافية لا يعدلها شيء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»[13].
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾: جواب الشرط، وربط بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، أي: فإن الله يعلم ذلك، فالضمير في «يعلمه» بمعنى اسم الإشارة؛ لأنه يعود إلى اثنين؛ أي: فإن الله يعلمه ويحاسب ويجازي عليه، ولن يضيع عنده، يعلم من قصد بذلك وجه الله، فيثيبه ويجازيه من واسع فضله، ويعلم من قصد بذلك غيره فيكله إلى من قصد.
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾؛ أي: وما للظالمين المانعين لما يجب إنفاقه، أو المبطلين صدقاتهم بالمن والأذى أو بالرياء وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، أو المتيممين للخبيث ينفقون منه، أو الذين لا يوفون بما نذروا من طاعة، أو ينذرون في معصية وغيرها.
﴿ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ «من»: زائدة إعرابًا مؤكدة من حيث المعنى للعموم، أي: وما لهم أيّ أنصار، والأنصار: جمع ناصر، وهو الذي ينصر ويدفع الضر، أي: وما لهم من أنصار يدفعون عذاب الله ويمنعونه عنهم.
﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
ذكر عز وجل في الآية السابقة علمه سبحانه بالنفقات أيًّا كانت، ومهما كانت، ثم بين في هذه الآية جواز إبداء الصدقات وإخفائها مع أن إخفاءها خير للمتصدق.
قوله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ ﴾؛ أي: إن تظهروا الصدقات وتعلنوا بها، ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾، قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون «فنَعما هي» وقرأ أبو جعفر بكسر النون وإسكان العين «فنِعْما هي»، وقرأ الباقون بكسرهما معًا ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾.
وهذه جملة إنشائية للمدح، أي: فنعم شيء هي، وهذا مدح لها.
﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا ﴾؛ أي: وإن تُسرِّوها ﴿ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ﴾؛ أي: وتعطوها الفقراء، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾؛ أي: فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء خير لكم خيرية مطلقة من إبدائها وإظهارها.
وقيَّد الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: «وإن تخفوها فهو خير لكم»؛ لأن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه؛ كتجهيز الجيوش وبناء المساجد والقناطر، وإجراء الأنهار وحفر الآبار، ونحو ذلك.
وإنما كان إخفاؤها وإيتاؤها الفقراء خيرًا؛ لما فيه من الستر على الفقير والإخلاص لله تعالى، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر، وأثنى على صاحبها، فذكر من بين السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله: «رجلًا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»[14].
﴿ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، قرأ ابن عامر وحفص بالياء: ﴿ ويكفِّر ﴾.
وقرأ الباقون بالنون: «ونكفر»، وقرأ نافع وأبو جعفر وحمزة والكسائي وخلف بجزم الراء: «ونكفرْ»، وقرأ الباقون برفعها: «ونكفرُ».
﴿ ويكفًّر ﴾؛ أي: ويمحو ويستر.
﴿ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾: جمع سيئة، وهي الذنوب والمعاصي، سميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها في الحال والمآل، وتسوء غيره إما مباشرة إذا كانت متعدية، أو غير مباشرة إذا كانت غير متعدية.
قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
و«من» في قوله: ﴿ من سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ تبعيضية؛ لأن الإنفاق لا يكفر جميع السيئات.
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم خبير.
و«الخبير»: المطلع على بواطن الأمور ودقائقها وخفياتها؛ فاطلاعه على الظواهر والجلائل والجليات من باب أولى.
وفي هذا وعد لمن تصدق وأطاع الله عز وجل، ووعيد لمن بخل وخالف أمر الله؛ لأن مقتضى علمه عز وجل بعملهم محاسبتهم ومجازاتهم على ذلك، خيرًا كان أو شرًّا.
قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾.
ســبب النــزول:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخَّص لهم، فنزلت هذه الآية: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[15].
قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: ليس عليك يا محمد هدى الناس؛ أي: ليس عليك هداية قلوبهم وتوفيقهم؛ لأن أمر ذلك إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56].
أما هدى البيان والإرشاد فهو إليه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]؛ أي: تدل وترشد، وكما قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ 21 لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22].
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: ولكن الله تعالى يوفق من يريد توفيقه من العباد.
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: استئنافية، و«ما» في هذا الموضع والذي بعده: شرطية، و﴿ تُنْفِقُوا ﴾: فعل الشرط.
﴿ من خير ﴾ «من» في هذا الموضع والذي بعده زائدة إعرابًا مؤكدة من حيث المعنى للتنصيص في العموم؛ أي: وما تنفقوا من خير أي خير قل أو كثر، ويجوز كون «من» بيانية، أي: بيان لـ«ما» الشرطية.
والخير: المال، وكل ما يبذل في سبيل الله من نقد أو عين أو منفعة.
﴿ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فلأنفسكم نفعه وثوابه، وليس لله تعالى، فهو سبحانه الغني عن خلقه؛ كما قال تعالى في «البُدْن»: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37].
وأيضًا: فلأنفسكم وليس لغيرها، فكيف يبخل الإنسان على نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].
﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾؛ أي: وما تنفقون إلا طلب وجه الله تعالى ورضاه، أي: طلب رؤية وجه الله تعالى الكريم ورضاه سبحانه، فالمؤمنون لا ينفقون إلا طلب وجه الله تعالى ورضاه؛ إذ لا ينفع من النفقة إلا ما كان لوجه الله تعالى.
ومن أنفق بهذا القصد فما عليه بعد ذلك، فالله يتولى نفقته ويثيبه؛ لقوله بعد ذلك: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾، وكما جاء في حديث الذي تصدق على زانية وعلى غني وعلى سارق، فقال: «اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته»[16].
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الكلام فيه كما سبق.
﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾، «يوفَّ»: جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة، أي: وما تنفقوا من أي خير كان نقدًا أو عينًا أو منفعة قليلًا أو كثيرًا ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾.
أي: يُرجع إليكم وتعطون ثوابه وافيًا، كما قال تعالى: ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 30]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، بل يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
﴿ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ الجملة حالية، أي: والحال أنكم لا تظلمون، أي: لا تنقصون ولا تبخسون شيئًا منه.
قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
حث عز وجل في الآيات السابقة على الإنفاق وبذل الصدقات والخير، ثم بين في هذه الآية مصرف الإنفاق.
قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
كأن سائلًا سأل، فقال: إلى أين يصرف الإنفاق والخير؟ فقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ الآية، وهو متعلق بقوله: ﴿ تُنفقوا ﴾ في الآية السابقة، أو بمحذوف تقديره: الإنفاق والصدقات للفقراء.
و«الفقراء»: جمع «فقير» وهو المعدم الذي لا شيء عنده، أو عنده أقل من نصف الكفاية، مأخوذ من «الفقر» الذي يجتمع في الاشتقاق الأكبر مع «القفر»، وهي: الأرض الخالية التي لا شيء فيها، ومن هنا سمي الفقير؛ لأنه لا شيء عنده، أو مأخوذ من «فقار الظهر»؛ لأن الفقير؛ لشدة حاجته أشبه بمن انفصمت فقار ظهره فلا يستطيع الحراك، والمراد بـ«الفقراء» هنا ما يشمل «المساكين»؛ لأنه إذا أُفرد أحدهما دخل معه الآخر، و«المسكين»: من يجد نصف الكفاية فأكثر ولا يجد تمام الكفاية.
﴿ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: الحصر: المنع، أي: الذي منعوا ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه، وقصروها على بذلها لله، وفي سبيله من المهاجرين وغيرهم.
﴿ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ﴾: الضرب في الأرض: السفر فيها، أي: لا يقدرون على السفر والتنقل في الأرض والبحث عن الرزق فيها والتكسب فيها؛ لمنع العدو لهم، أو لقلة ذات اليد، فلا راحلة ولا زاد، أو بسبب المرض والجراح والكسور ونحو ذلك.
﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾: قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين: ﴿ يَحْسَبُهُمُ ﴾، وقرأ الباقون بكسرها «يحسِبهم»؛ أي: يظنهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء.
﴿ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ «من»: سببية، و«التعفف» هنا إظهار الاستغناء.
والمعنى: بسبب تعفُّفهم في لباسهم وحالهم عن إظهار المسكنة، وفي مقالهم عن السؤال، فإذا رآهم من لا يعرف حالهم ظنهم أغنياء، مع أنهم في غاية الفقر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة والقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».
وفي رواية: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا القمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم يعني قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾»[17].
﴿ تَعْرِفُهُمْ ﴾ أيها المشاهد العارف المتوسم المتفرس، ﴿ بِسِيمَاهُمْ ﴾؛ أي: بعلاماتهم وصفاتهم الدالة على أنهم فقراء، وإن أظهروا التعفف، كما قال تعالى: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30].
وفرق بين المسكنة والتمسكن لمن منحه الله بصيرة وفراسة، وفي الحديث: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75]»[18].
﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ ﴿ إِلْحَافًا ﴾: حال، أي ملحفين، و«الإلحاف»: الإلحاح في المسألة، وسؤال الناس وعنده ما يغنيه عن السؤال.
وفي الحديث: «أن من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف»[19].
والنفي هنا للقيد وهو «الإلحاف» وللمقيد وهو «السؤال»، أي: لا يسألون الناس مطلقًا؛ لقوله قبل ذلك: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾، فلو كانوا يسألون ما وُصفوا بالتعفف، ولما حسبهم الجاهل أغنياءَ بسبب ذلك، بل لحسبهم فقراءَ بسبب سؤالهم، فهم لا يسألون الناس بالكلية، وإن سألوا اضطرارًا لم يلحفوا في السؤال.
فذكر عز وجل أعلى أنواع السؤال المذموم، وهو السؤال مع الإلحاف الذي يَنِم عن سوء أدب وقلة حياء من السائل، ويؤذي المسؤول ويضايقه.
فمن اجتمعت فيهم هذه الصفات الست، فهم أَولى بالإنفاق والصدقات، وهي الفقر، والإحصار في سبيل الله، وعدم استطاعة الضرب في الأرض، والتعفف بدرجة أن من لا يعرفهم يظنهم أغنياءَ بسبب ذلك، ومعرفتهم بسيماهم، أي: معرفة حالهم وحاجتهم، وعدم سؤالهم الناس إلحافًا.
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: وما تبذلوا ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ قلَّ أو كثُر، من أي شيء كان ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾: جواب الشرط «ما» أي: فإن الله ذو علم تام به، ولن يضيع عنده، فهو لكم محتسب وثوابه عند الله لكم مدخر، أوفر ما يكون، وأحوج ما تكونون إليه.
[1] أخرجه الترمذي في «تفسير سورة البقرة» (2987)، وابن ماجه في الزكاة، النهي أن يخرج في الزكاة شر ماله (1822)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 699)، والحاكم (2/ 285)، وقال الترمذي: «حديث صحيح حسن غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي.
[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 428).
[3] انظر: «ديوانه» (ص69).
[4] انظر: «إغاثة اللهفان» (109).
[5] روي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في التفسير (2988)، وقال: «حديث حسن غريب»، وأخرجه النسائي في التفسير (2110)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 529)، وأخرجه الطبري مرفوعًا وموقوفًا على ابن مسعود في «جامع البيان» (5/ 6- 8).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] «النونية» (ص11).
[8] أخرجه البخاري في العلم (73)، ومسلم في صلاة المسافرين (816)، وابن ماجه في الزهد (4208) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5025)، ومسلم (815)، والترمذي في البر والصلة (1930)، وابن ماجه في الزهد (4209).
[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 8)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 531).
[11] في «مدارج السالكين» (2/ 449).
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 7/ 106 (34553)، وأبو داود في الزهد ص106 (160)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 2/ 201 (728).
[13] أخرجه البخاري في القدر (6608)، ومسلم في النذور (1639)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3287)، والنسائي في الأيمان والنذور (3801)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[14] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه النسائي في «الكبرى» في التفسير، (11052)، والبزار في «مختصر زوائد البزار» (1450), والحاكم (2/ 285) وصححه، كما صححه ابن حجر في تعليقه على مختصر زوائد البزار.
[16] أخرجه البخاري في الزكاة (1421)، ومسلم في الزكاة (1022)، والنسائي في الزكاة (2523) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] أخرجه البخاري في الزكاة، قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ (1479)، وفي التفسير (4539)، ومسلم في الزكاة المسكين الذي لا يجد غنى (1039)، وأبو داود في الزكاة (1631)، والنسائي في الزكاة (2571)، وأحمد (2/ 316).
[18] أخرجه الترمذي في تفسير سورة الحجر (3127)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: «حديث غريب».
[19] سيأتي تخريجه.