
05-09-2023, 05:53 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,211
الدولة :
|
|
رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله
وقال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها»[5].
﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويفسح له لعله يتوب، قال ابن القيم[6]:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده 
بعقوبة ليتوب من عصيان
ومن حلمه عز وجل ألا يعاجل من عصاه بإتباع الإنفاق بالمن والأذى ونحو ذلك بالعقوبة، فهو عز وجل غني عن خلقه، ويغني من أنفق وتصدق، وهو سبحانه حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بمنع النفقة أو المن فيها أو الأذى، ويحب الحلم من عباده بالمغفرة والعفو عمن أساء.
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.
عرَّض عز وجل في الآية السابقة بالذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى، ثم أتبع ذلك بالتصريح بنهي المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وتشبيه من يفعل ذلك بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتشبيه هذا بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.
الإبطال للشيء إزالته وإذهابه بعد وجوده، قال تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118].
قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل 
وكل نعيم لا محالة زائل
و(الصدقات) جمع صدقة، وهي ما يبذله الإنسان من النفقات الواجبة والمستحبة، قيل: سميت صدقات؛ لدلالتها على صدق إيمان باذلها، وفي الحديث: «والصدقة برهان»[7]، أي: برهان على صدق صاحبها وإيمانه.
﴿ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب المن على من تصدقوا عليه بالترفع والتعالي عليه، وإظهار أن لهم المنة والفضل عليه، علمًا أن الفضل لله عز وجل وحده، ولو كان هناك شيء من الفضل لأحدهما لكان للمتصدَّق عليه لقبوله الصدقة.
﴿ وَالْأَذَى ﴾ معطوف على «المن» أي: وبسبب الأذى للمتصدَّق عليه بذكر ذلك للناس، أو إلحاق مكروه به ونحو ذلك، فكل واحد من المنَّ والأذى مبطل للصدقة.
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ الكاف للتشبيه، أي كإبطال الذي ينفقه ماله، فشبه الإبطال بالإبطال، أو لا تكونوا كالذي ينفق له، فشبه المنفق بالمنفق.
﴿ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ «رئاء»: مفعول لأجله، وهو مصدر راءى يرائي مرآءة ورياءً.
أي: كالذي ينفق ماله لرئاء الناس، أي: لأجل أن يراه الناس فيمدحوه على ذلك، ويصفوه بالكرم والصلاح، ونحو ذلك، وليس ذلك لوجه الله، ورجاء ثوابه وخوف عقابه.
والرياء مبطل للعمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8].
﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُنْفِقُ ﴾، أي: ولا يؤمن بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.
﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: ولا يؤمن باليوم الآخر يوم القيامة الذي هو آخر الأيام وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء.
وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل ويحفز على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء.
فشبه عز وجل المبطل لصدقته بالمن والأذى بالمنافق الذي ينفق ماله ليراه الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو ينفق وهو كاره ولا تنفعه نفقته، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
﴿ فَمَثَلُهُ ﴾؛ أي: كمثل هذا المنفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾، أي: كمثل حجر أملس ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ يؤمل أن ينبت ﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾؛ أي: مطر غزير، شديد الوقع، سريع التتابع.
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾، أي: فترك الوابل هذا الصفوان «صلدًا»، أي: أجرد أملسًا لا شيء عليه من تراب ولا نبات ولا غير ذلك.
فشبه عز وجل الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في بطلان عمله وزواله وذهابه بحجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾، فأصابه مطر شديد فأزال هذا التراب، فلم يُنبت شيئًا بل ذهب بذره ضائعًا لعدم إيمانه وإخلاصه.
وقد أحسن القائل:
ثوب الرياء يشف عما تحته 
فإذا اكتسيت به فإنك عاري [9]
﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ واو الجماعة في «يقدرون» تعود على «الذي»؛ لأنه اسم موصول يفيد العموم، فلفظه مفرد ومعناه الجمع.
و«شيء»: نكرة في سياق النفي، فيعم أيّ شيء، مهما قل أو كثر صغر أو كبر.
و«ما» في قوله: ﴿ مما ﴾: موصولة أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه وعملوه، أو من كسبهم وعملهم، أي: من ثوابه لبطلانه وزواله.
فشبه الله عز وجل المبطل صدقته بالمن والأذى بالمنافق المنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في عدم انتفاعه بما أنفق، ومثَّله بصفوان عليه تراب فأصابه مطر شديد، فتركه صلدًا أملسَ لا شيء عليه.
ووجه الشبه في هذا هو عدم قدرة المُتْبع صدقته بالمن والأذى والمنفق رياء مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر على شيء من ثواب ما عملوه؛ لبطلانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].
﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، أي: لا يوفق الله تعالى الكافرين بسبب كفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].
قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
ذكر عز وجل في الآية السابقة مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم أتبعه بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم بالإخلاص والصدق.
قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ «ابتغاء»: مفعول لأجله، أي: طلب مرضاة الله تعالى، وإخلاصًا لله، أو حال، أي: طالبين بذلك مرضاة الله ومخلصين له.
﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ معطوف على «ابتغاء»، أي: تصديقًا وتيقنًا من أنفسهم بأن الله تعالى شرع ذلك ويجازي عليه، ودليلًا على صدق إيمانهم.
كما في الحديث: «الصدقة برهان»، أي: برهان على إيمان وصدق مخرجها.
وأيضًا: احتسابًا من أنفسهم ذلك عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»[10].
قال ابن القيم[11]: «فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان، إن نجا منهما كان مثله ما ذكر في هذه الآية، أحدهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، الآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله تعالى، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها».
﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ﴾، أي: كمثل بستان كثير الأشجار، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾.
قرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء: ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾، وقرأ الباقون بضمها: «برُبوة».
أي: بمكان مرتفع تأخذ نصيبها من الشمس والهواء الطلق، و«الربوة»: المكان المرتفع، يقال ربا الشيء إذا زاد، كما قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].
﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ أي: أصاب هذه الجنة وابل، و«الوابل»: المطر الغزير الكثير.
﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أُكْلَها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وقرأ الباقون بضمهما معًا: ﴿ أُكُلَهَا ﴾.
أي: أعطت وأنتجت ﴿ أُكُلَهَا ﴾: ثمرها، قال تعالى: ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾ [الرعد: 35]؛ أي: ثمرها الذي يؤكل.
﴿ ضِعْفَيْنِ﴾؛ أي: ضعفي ما كان يؤتي غيرها، أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ارتفاعها ونزول الوابل عليها، والمعنى: فآتت أكلها مثلين؛ كما قال تعالى: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ [الأحزاب: 31].
والمعنى: ومثل الذين ينفقون أموالهم طلب مرضاة الله تعالى وتثبيتًا من أنفسهم في مضاعفة ثواب نفقاتهم كمثل جنة بمكان مرتفع من الأرض بارزة للشمس والهواء نزل عليها مطر غزير كثير فجاء أكلها وثمرها ضعفين.
قال ابن القيم[12]: «فهذا حال السابقين المقربين»، فعمل هؤلاء المنفقين ضوعف بسبب صدقهم في طلب مرضاة الله تعالى والتثبيت، وأُكُل تلك الجنة وثمرها جاء مضاعفًا؛ لكونها في مكان مرتفع تأخذ كفايتها من الشمس والهواء، مع نزول المطر الغزير عليها».
﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي: فإن لم يصب هذه الجنة وينزل عليها ﴿ وَابِلٌ ﴾ أي: مطر كثير غزير ﴿ فَطَلٌّ ﴾: جواب الشرط «إن»، و«الطل»: المطر الخفيف.
والمعنى ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾؛ أي: فطل يصيبها أو فيصيبها طل، ويكفيها عن الوابل الكثير في إخراج بركتها.
لارتفاع مكانها وكرم منبتها وطيب مغرسها، وهكذا نفقات الذين ينفقون إخلاصًا لله تعالى وصدقًا يضاعفها الله تعالى لهم حتى وإن قلت.
قال ابن القيم: «وهذا حال الأبرار والمقتصدين في النفقة».
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم بصير، أي: مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية؛ لأنه عز وجل مطلع على كل شيء لا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
فهو عز وجل يعلم المنفق المتبع نفقته بالمن والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، وسيحصي ذلك ويحاسبهم ويجازيهم عليه.
قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾.
شبه عز وجل حال من يبطل صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم شبهه ثانيًا بحال صاحب جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد أدركه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت مع شدة حاجته وذريته إليها، فماذا يكون حاله؟ تكون الدنيا عليه أضيق ما يكون ويتحسر على جنته أشد الحسرة، وفي هذا من التنفير من إتباع الصدقة بالمن والأذى ما لا يخفى.
قوله: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الاستفهام للإنكار والنفي، و«يود» يحب، والمعنى: لا يود أحدكم هذا.
﴿ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؛ أي: بستان كثير الأشجار والثمار، وجاء ﴿ أَيَوَدُّ ﴾ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار والنفي العام، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من لو قال: «أتودون».
و﴿ أَيَوَدُّ ﴾ أبلغ في الإنكار والنفي من لو قيل: «أيريد»؛ لأن محبة هذه الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.
﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾: النخيل والأعناب من أفضل وأنفع الأشجار، وثمرها من أنفع الثمار، قوتًا وغذاءً، وفاكهةً وحلوى وشرابًا ودواءً، يؤكل رطبًا ويابسًا.
قيل: النخيل أنفع وأفضل ولهذا قدَّمه، وقيل: العنب، وقيل: كل منهما في أرضه وموضعه أفضل من الآخر.
﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: تجري من تحت أشجارها الأنهار العذبة، وهذا أكمل لها وأعظم في قدرها.
﴿ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي: من جودة هذه الجنة ونخيلها وأعنابها إنتاجها لصاحبها من كل الثمرات المتنوعة الأشكال والألوان والطعوم من النخيل والأعناب وغيرها، كما قال تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33].
قوله تعالى: ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ الواو: حالية، أو عاطفة، أي: وأصاب صاحب هذه الجنة الكبر، فعجز عن القيام عليها مع شدة حاجته إليها وتعلق قلبه بها.
﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ ﴾ لا يستطيعون القيام عليها لصغرهم وعجزهم.
والذرية: هم أولاد الرجل وأولاد بنيه وإن نزلوا بمحض الذكور.
وإنما جعل الله عز وجل «عيسى ابن مريم» من ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، وهو ابن بنت؛ لأنه لا أب له، وأمه بمنزلة أبيه.
قال ابن القيم[13]: «وأصابه الكبر» هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه؛ لضعفهم وعجزهم.
وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة؛ لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته لها، فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار».
قوله: ﴿ فَأَصَابَهَا﴾ أي: فأصاب هذه الجنة ﴿ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ﴾، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار، وقيل: هي الريح الشديدة السموم.
﴿ فاحترقت ﴾؛ أي: فاحترقت هذه الجنة، وتساقطت أوراقها وثمارها وصارت رمادًا، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وقال تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 42، 43].
عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر بنفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»[14].
وعن الحسن قال: «هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا»[15].
﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ أي: مثل ذلك البيان ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات ﴾؛ أي: يوضح ويفصل لكم الآيات الكونية والشرعية، ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ «لعل»: للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل والنظر في آيات الله الكونية والشرعية، والحذر من مبطلات الأعمال، ومن إبطال الصدقات بالمن والأذى، فيخسرها المنفق أحوج ما يكون إليها كصاحب هذه الجنة.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1892)، والنسائي في الجهاد (3187).
[2] أخرجه البخاري في الأذان- من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (660)، ومسلم في الزكاة- فضل إخفاء الصدقة (1031)، وأبو داود في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391).
[3] البيت للمتنبي؛ انظر: «ديوانه» بشرح العكبري» (2/ 276).
[4] انظر: «بدائع الفوائد» (1/ 420).
[5]أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[6]«النونية» (ص148).
[7] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[8] سبق تخريجه.
[9] البيت للتهامي؛ انظر «ديوانه» (ص47).
[10] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760)، وأبو داود في الصلاة (1372)، والنسائي في الصيام (2203)، والترمذي في الصوم (683) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 423).
[12] انظر: بدائع التفسير (1/ 423- 424).
[13] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 427).
[14] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ (4538)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 183 – 184)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 522).
[15]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 425).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|