4 - الجمود الفكري وسيطرة التقليد:
إن الإسلام باعتباره آخر الشرائع السماوية قد تضمن من المبادئ ما يجعله يساير الزمن، ويواكب الحياة المتطورة، ومن ثم كان اجتهاد الأئمة الأوائل الذين خلفوا لنا ثروة واسعة عظيمة، ومع أن هؤلاء الأئمة لم يحجروا على العقول، ولم يوجبوا على الناس التقليد الأعمى لمذاهبهم، ولم يزعموا أن آراءهم هي القول الفصل الذي ينبغي أن يلتزم الناس بها، لأنهم كانوا يؤمنون بأن كل قول يصح أن يؤخذ منه وأن يترك، إلا قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أقول مع هذا فقد ظهرت نزعة تدعو إلى تقليد المذاهب وسد باب الاجتهاد.
وقد عارض كثير من رجال الفكر والإصلاح هذه النزعة، ولكنها برغم ذلك لم تَختفِ تمامًا من سماء الفكر الإسلامي؛ بل كانت من وقت لآخر تترقب الظروف التي تحقق لها السيطرة، وقد تهيأت لها الظروف في عهود الركود، فسيطرت نزعة التقليد للمذاهب القديمة - سواء مذاهب العقيدة، أو مذاهب الفقه - سيطرة قوية، وطغت التبعية المطلقة لهذه المذاهب، بحيث أصبح التابعون لمذهب معين لا يمكن أن يتخلوا عن تقدير هذا المذهب، ومنحه سلطة عليا في التوجيه والاعتقاد أو العمل، في كل رأي من آرائه، والخطر الذي يهدد الجماعة - أية جماعة - لا يكمن في تعدد مذاهبها في التفكير أو الاعتقاد أو الفقه؛ بل في تحكم هذه المذاهب وسيطرتها على التابعين، بحيث يهاب هؤلاء التابعون نقدها، وإبداء الرأي في قيمتها، وعندئذ تكون الجماعة جماعات.
وعلى أية حال فإن علماء الدين الرسميين وخاصة الفقهاء، قد انصرفوا في تلك الفترة - فترة الركود - عن البحث في قضايا الدين، وعرضها عرضًا يتلاءم مع تطور الحياة الاجتماعية، ورضُوا لأنفسهم أن يقفوا موقف الجمود والتقليد، ونادوا بأن باب الاجتهاد قد أُوصد، وأن هؤلاء الذين يحاولون التجديد في أحكام الشريعة، حتى تكون موافقة للتطور الاجتماعي - جماعة من الكفرة؛ بل رموا هؤلاء الذين يرون ضرورة العودة إلى رأي السلف بأنهم مرقوا من الدين، وقد روى لنا الشيخ محمد عبده كيف أن أحد هؤلاء المجتهدين نشر مقالاً عرض فيه للصوفية، وبيَّن فيه أن هذا المذهب كان نكبة على الإسلام، فلما اطلع الناس على مقاله في مصر؛ هاج عليه حملة العمائم، وقالوا: إنه مرق من الدين، ثم رُفِع أمره إلى الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن[21]، ويبدو أنهم دعوا إلى التقليد، وحاربوا كل إصلاح وكل اجتهاد وتجديد؛ حفاظًا على نفوذهم، وسترًا لجهلهم وقعودهم عن البحث والتنقيب.
ولم يقتصر موقفهم هذا على العلوم الدينية؛ بل إنهم حاربوا العلوم الطبيعية والكونية، واتهموا أصحابها والمنادين بها بالكفر والمروق، وأن هذه العلوم توشك أن تفسد على الناس عقائدهم، ونسي هؤلاء أن الإسلام قد حث أتباعه على العلم، وعلى النظر في الكون، والتأمل في مظاهر الطبيعة؛ حتى يفهموا حكمة الله وآياته في كونه.
لقد أساء هؤلاء إلى الدين، وفتحوا الباب بذلك للطعن في عقيدته؛ لأن العقيدة التي تخشى أضواء العلم لا يمكن أن يقول أصحابها إنها أسلم العقائد، وأقربها إلى العقل، ولو أن هؤلاء فهموا عقيدتهم، وفطنوا إلى حقيقة دينهم؛ لعلموا - كما يقول الأفغاني - أن الإسلام لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية... وقد عم الجهل، وتفشى الجمود في كثير من المرتَدِين برداء العلماء، حتى اتهم القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة، والقرآن بريء مما يقولون[22].
وينبغي أن ننبه إلى أن التفكير العقلي والتقدم العلمي ما كان يستطيع أن يصمد في هذا الجو الذي ساد فيه أهل الجدل من الفقهاء والمتكلمين، فانطفأت جذوة التفكير، واندثر العلم، ودخلت الأمة الإسلامية في سباتها العميق، فتخلفت عن الركْب، وسبقتها أوربا التي تتلمذت عليها وعلى ثقافتها طيلة العصور الوسطى.
5 - انحراف التصوف وانتشاره:
من المسلَّم به أن الإسلام يدعو الإنسان إلى تزكية نفسه، والسمو بروحه، ويحثه على ألا تكون الدنيا كل همه، ويدفعه إلى العمل الإيجابي في الحياة، وإلى السعي في مناكب الأرض، وهذه المبادئ قد تمسك بها المسلمون، كما تمسك بها الصوفية الأوائل فكان تصوفهم وزهدهم في الحياة مظهرًا للتعبد والخشوع، وحافزًا إلى العمل، ولكن جدَّ في حياة المسلمين بعد ذلك نوعٌ من التصوف المنحرف؛ "إذ تسرب إلى بعض دعاته - لأسباب لا محل لذكرها الآن - تأثير الفلسفة الإشراقية التي جاءت من اليونان والهند، وامتزجت بالعقائد الإسلامية وأفكارها امتزاجًا لا يتسنى لكل واحد فصلها عنها، إن إشراقية الأفلاطونية الحديثة، أو تنسك اليهود، وعقيدة الحلول والاتحاد، ومذهب وحدة الوجود، وفكرة الظاهر والباطن، وسقوط التكاليف الشرعية عن الواصلين، كل هذه كانت معتقدات وأفكارًا نالت إعجاب طبقة كبيرة من الصوفية.
وبالرغم من إنكار أصحاب التحقيق والرسوخ في العلم من هذه الطائفة في كل زمان لهذه المعتقدات الفاسدة، كانت طبقة من المتصوفين تلح عليها،[23] وفي عهود الضعف سادت هذه المعتقدات، وظهر التصوف الأعجمي الذي ينظر إلى المادة على أنها شر يجب على الإنسان أن يتجنبها، وينظر إلى الذات الإنسانية على أنها لا حقيقة لها، ويدعو الإنسان إلى ترك العمل؛ لأن العمل يقوي الذات، والذات مصدر الشر؛ فينبغي أن يعمل الإنسان على فنائها، وذلك بترك العمل[24].
ومما لا شك فيه أن هذا التصوف المنحرف، الذي ساد في عهود الركود والجمود الفكري - قد أدى إلى سلبية المسلمين، وتواكلهم وزهدهم في الحياة، ونظرتهم إلى العالم المادي على أنه شر ونجس يجب تجنبه، كما أنه فتح الباب أمام مظاهر الشرك، فوجدنا من هؤلاء الصوفية المنحرفين من يزعم أنه أدرك سر الولاية، ووجدنا من يَدْعون إلى التبرك بالأولياء، وينصحون بالالتجاء إليهم لقضاء الحاجات، وقد انتشر هذا التصوف في كثير من البلاد الإسلامية، ووجد من تشجيع بعض الجهلة من الأمراء والحكام ما يثبت أقدامَه، ثم بلغ غايته في بلاد الأتراك وسيطر على عقول أهلها، فقد عظم فيها أمر هؤلاء الدراويش، الذين خلطوا العقائد الإسلامية بكثير من الخرافات والأوهام؛ حتى ذَوَتْ عقيدة التوحيد، وقامت مقامها عبادة الأولياء وتقديس القبور.
ولقد وصف الكواكبي ما بلغه المشعوذون في تركيا من القوة والنفوذ، فقال: هؤلاء المدلسون قد نالوا بسكرهم نفوذًا عظيمًا، وأفسدوا كثيرًا في الدين، وجعلوا كثيرًا من المدارس تَكَايَا للطالبين، الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات، وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطالبين الذين ترتج من دويِّ طبولهم قلوبُ المتوهمين، وتكفهر أعصابُهم، فيلبسهم نوع من الخَبَل، ويظنونه حالة من الخشوع"[25].
ومن الغريب أن المسلمين آنذاك كادوا يستوون في الإيمان بهذه البدع التي روَّجها هؤلاء الصوفية؛ من زيارة قبور الأولياء، وطلب العون والرحمة منهم، وشدِّ الرحال إلى مقاماتهم، والتمسُّح بها، حقًّا قد يكون انتشار هذا بين العامة أمرًا لا يثير كثيرًا من العجب، ولكن ما أعجبَ أن يميل إليه كثير من الخاصة، وقد ثار لذلك كثير من الباحثين، وقال أحدهم بعد أن أشار إلى هذه الانحرافات: "ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغارُ حميَّة للدين الحنيف، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا شك معه أن هؤلاء القبوريين إذا توجهت إليه يمين من قِبَل خَصم حلَف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك؛ تلعْثَم وتَلَكَّأَ وأبَى واعتَرَف بالحقِّ"[26].
وعلى أيِّ حال ففي عهد الركود الذي عاشه المسلمون نبتت البدع والخرافات، فهنا الطرق الصوفية التي انحدر بعضها إلى هوة سحيقة، وهنا شجرة مقدسة يلجأ لها الناس معتقدين أن المريض يجد عندها الصحة، والعانس تجد الزوج، والعاطل يجد العمل، وهنا حجر يتلمس الناس عنده البركة، وهنا عنزة ادعى كبير خدام المشهد النفيسي بمصر أن السيدة نفيسة أوصت بها خيرًا، فنسب الناس إليها الكرامات.
6 - عقيدة الجبر:
لقد آمن المسلمون الأوائل بالقضاء والقدر، واعتقدوا أن قضاء الله لا بد أن ينفذ، وأن المقادير كلها بيده، يصرفها كيف شاء، ويدبرها بحكمته وإرادته، ولم يَصرِفهم ذلك عن العمل والسعي، ولم يركنوا إلى التواكل والكسل؛ لأن الله قد حثهم على العمل بقوله: { {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} } [التوبة: 105]، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن الجدل في القدر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تفرقهم، ولكن خاض المسلمون بعد وفاته في مسألة القدر، وظهرت جماعة الجبرية الذين قالوا بالجبر المطلق، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة بعيدة عن منطق الإسلام، فقد وجدت لها أنصارًا رأوا فيها تبريرًا لمظالمهم، وسندًا لسلطانهم، ولكن لم يُقدَّر لها الرواج بين المسلمين في العهود الأولى؛ لأنها لا تستند إلى أساس قوي، ولم تستطع أن تصمد أمام المذاهب المناوئة[27]، ثم وجدت الفرصة متاحة لإذاعتها بين المسلمين في عهود الركود التي ساد فيها الجمود الفكري، وابتعد فيها المسلمون عن روح الدين وعن الفهم الصحيح لمبادئه، وكان انتشار هذه الفكرة بين المسلمين وبالاً عليهم، حيث أشاعت فيهم التواكل والكسل، وأقعدتهم عن العمل.
7 - اختلال المعايير الأخلاقية:
لقد اشتمل الإسلام على القيم الأخلاقية، فأمرَ المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، وحثهم على الصدق والأمانة، والعدل والشجاعة، والوفاء بالعهود، وحفظ الأمانات وأدائها إلى أهلها، ونهاهم عن الرذائل التي تنال من كرامة الإنسان؛ كالكذب، والغدر والخيانة، والنفاق والغش والخداع، وما إلى ذلك.
والمتأمل في عهود الركود يجد أن المسلمين قد نسوا أو تناسوا هذه القيم الأخلاقية الكبرى، ولم يلتزموا بها في سلوكهم وفي حياتهم؛ بل آثروا أن تسير حياتهم على الجانب المضاد لهذه القيم الفاضلة، فانتشر فيهم النفاق والمداهنة والتملق، والجبن والرياء والغدر، وما إلى ذلك من الأمراض النفسية والاجتماعية.
لقد انعكست في نفوسهم معايير الخلق، فأصبحت المخازي عندهم موضعًا للفخر، فصاروا يُسمُّون التصاغرَ أدبًا، والتذلل لطفًا، والتملُّقَ فصاحة، واللُّكْنَة رزانة، وتَرْكَ الحقوقِ سَماحةً، وقَبولَ الإهانة تواضعًا، والرضا بالظلم طاعةً، كما يسمون قوة الاستحقاق غُرورًا، والإقدام تهوُّرًا، والحميَّة حماقةً، والشَّهامةَ شَراسَة، وحريَّة العقولِ وقاحةً، وحبَّ الوطن جنونًا[28].
وفي مثل هذا المجتمع الذي انعكست فيه المعايير الأخلاقية، يصبح الشرف والأمانة والنزاهة والإخلاص والعدالة، وغير ذلك من الصفات الضرورية لنجاح أي امرئ في المجتمع العادي السليم - وَبالاً على صاحبها، وفي هذا المجتمع أيضًا يتقدم من يجيد النفاق والخداع والنميمة، ويصبح موضع إعجاب وتقدير لدى الآخرين من أمثاله، أما الشرفاء الفضلاء، فهم المضيَّعون الخاسرون في هذا المجتمع.
ولا شك في أن اختلال الأخلاق يؤدي إلى انحلال الأمة وتدهورها، وقد أشار الأفغاني إلى أن الذي نزل بالمسلمين من الضعف والهوان لم ينزل بهم إلا بعد أن كلَّت بصائرهم، ومازَجَ الدَّغَلُ قلوبَهم، وخربت أماناتهم، وفشا الغش والخداع والمداهنة بينهم[29].
هذه هي أهم مظاهر ابتعاد المسلمين من مبادئ دينهم، ولا شك في أن ذلك قد أدى إلى الانحلال الاجتماعي بينهم، وقد أدرك هذه الحقيقة المفكر الغربي المسلم "محمد أسد"، وأشار إليها بقوله: "لقد تحققْت أنَّ ثمة سببًا واحدًا فقط للانحلال الاجتماعي والثقافي بين المسلمين، ذلك السبب يرجع إلى الحقيقة الدالة على أن المسلمين أخذوا شيئًا فشيئًا يتركون اتِّباع روح التعاليم الإسلامية، فنتج من ذلك أن الإسلام ظل بعد ذلك موجودًا، ولكنه كان جسدًا بلا روح"[30].
وبعد أن انتهينا من الحديث عن ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم وروحه، وأشرنا إلى المظاهر التي تجلى فيها ذلك - نود أن ننبه إلى أن الانحرافات التي لحقت بالدين، والتي أشرنا إليها في الحديث عن السبب الأول، كان لها تأثيرها في عدم التزام المسلمين بالمبادئ والعقائد الصحيحة التي اشتمل عليها دينهم، ويبدو هذا واضحًا في الصراع السياسي والديني، وفي شيوع التصوف المنحرف، وفي عقيدة الجبر، كما أن المظاهر التي تجلى فيها ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم - قد تفاعلت وتشابكت وأدت إلى ما صار عليه واقع العالم الإسلامي.
ثالثًا: الحروب والاعتداءات الخارجية:
لا شك في أن ما أدت إليه العوامل السابقة من ضعف المسلمين وتفرقهم، وخمولهم وكسلهم - قد مهد الطريق أمام الطامعين من أعدائهم، فشنوا الاعتداءات المتتابعة عليهم، ومن أبرز الاعتداءات الخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي وكان لها، هي الأخرى، آثارها في ضعفه وتدهوره - الحروبُ الصليبية، وغزوُ التتار أو المغول.
1 - الحروب الصليبية:
لقد بدأ الغرب المسيحي في شن هذه الحروب على العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي باسم الصليب وتحت رايته، وقد دفع رجالُ الكنيسة في أوربا الملوكَ والشعوب إلى هذه الحروب، فاتخذت بذلك طابعًا دينيًّا شكلاً وموضوعًا.
وعلى أيِّ حال، فقد تمكن من الاستيلاء على القدس سنة 1096م، وتوالت الحروب بين المسلمين والصليبيين مرارًا وتَكرارًا، إلى أن استطاع المسلمون على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي من استعادة القدس وطرد الصليبيين منها، بعد أن تحقق للمسلمين أعظم انتصار لهم في حطين سنة 1187، ولكن ملوك أوربا انزعجوا لاستعادة المسلمين بيت المقدس، فجردوا حملة ضخمة بقيادة أقوى ملوكهم، وظلت الحملات تتوالى حتى انتهت هذه الحروب سنة 1292م بهزيمة الصليبيين، وعودتهم إلى بلادهم مدحورين، بعد صراع مرير شنته أوربا بدافع العصبية الدينية على العالم الإسلامي[31].
ولا شك في أن هذه الحروب قد استنفدت الكثير من جهد المسلمين وطاقتهم وأموالهم، وجعلتهم يوجهون كل ما لديهم لهذا التحدي الخطير؛ لأنهم شعروا بالخطر على الدين قبل أن يشعروا بالخطر على أنفسهم.
2 - التتار:
لقد كان زحف التتار على العالم الإسلامي طامة كبرى، وكارثة فادحة، فقد اجتاحوا كثيرًا من البلاد الإسلامية، حتى وصلوا بغداد سنة 656هـ سنة 1258م بقيادة الطاغية "هولاكو"، فقتلوا الخليفة المستعصم، وضربوا رقاب جيشه، ودخلوا المدينة، وأنهوا الخلافة العباسية، ونهبوا دار الخلافة، وأحرقوا بغداد، ثم عبَر هولاكو ورجاله نهر الفرات لمحاصرة حلب، ولم ينهزم في معركة من المعارك التي خاضوها منذ أن اجتاحوا العالم الإسلامي من الشرق؛ إلا في معركة "عين جالوت" سنة 1260م[32].
والواقع أن غارة التتار كانت محنة كبرى هزت العالم الإسلامي هزًّا عنيفًا، وتركت المسلمين مبهوتين مشدوهين، قد استولى الرعب والخوف عليهم، وغلب عليهم اليأس والتشاؤم؛ لكثرة ما اقترف هؤلاء الوحوش من جرائم، وما قتلوا من نفوس، وما دمروا من عمران، وقد صور لنا ذلك أحد المؤرخين، فقال وهو يتحدث عن هذه الحادثة: "هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، فلو قال قائل: إن العالم منذ خُلق آدم إلى الآن لم يُبتلَ بمثلها، لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها، ولا ما يدانيها، ولعل الخَلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا"[33]، وعلى أي حال فإن المسلمين قد تكبدوا خسائر فادحة أمام هذه الصاعقة التي نزلت بهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن التتار قد دخلوا في الإسلام، وانماعوا في المسلمين، وورثوا تراثهم، وخَلَفوهم في الحكومة، وتولوا أمور المسلمين، مع أنهم أمة جاهلة وحشية، ليس لها علم ولا دين، ولا حضارة ولا ثقافة، ولذا فإن حياتهم كانت مزيجًا من الإسلام والتأثير الجاهلي، وكان لزامًا أن يتأثر المجتمع، وكذلك الفكر الإسلامي بما حمل إليه هؤلاء من عادات وأخلاق وتقاليد واجتماع.
هذان هما الحدثان البارزان اللذان تعرض لهما العالم الإسلامي في العهود المتأخرة، ولا أظن أن أحدًا ينكر الآثار الخطيرة التي تركها هذان الحدثان في حياة المسلمين؛ فقد استنفدا الكثير من جهودهم، وبدَّدا طاقتهم، فلم يجد المسلمون الفرصة مواتية للتفكير في الإصلاح قبل أن يستفحل الداء، ولم تسعفْهم الظروف لتدارك ما فاتهم، وإذا كانت أحوال المسلمين وما انتابها من الضعف قد مهدت لهذين الحدثين، فإنهما بالتالي كانا مقدمة أو سببًا لاستفحال الداء، وبلوغ الضعف والتدهور مداه.
وهكذا اصطلحت الأسباب الثلاثة وتفاعلت، فأدت إلى ما صار إليه واقع العالم الإسلامي؛ من انحراف في العقيدة، وانحلال في الأخلاق، وجمود في الفكر، واستبداد في الحكم، وركون إلى الخمول والكسل، وسيطرة كثير من الخرافات والبدع، وإذا كان واقع العالم الإسلامي هذا قد دفع المخلصين من أبنائه إلى القيام بالإصلاح، فإنه أيضًا قد مهد لسيطرة الغرب عليه، وللغزو الفكري.
[1] لوثرب ستوارد: "حاضر العالم الإسلامي"، مجلد 1 ص ،459 ترجمة الأستاذ عجاج نويهض، وتعليق الأمير شكيب أرسلان، مطبعة الحلبي بمصر 1352هـ.
[2] السابق.
[3] انظر: محمد إقبال "تجديد التفكير الديني" ص 149.
[4] انظر: "حاضر العالم الإسلامي" ج4 ص 44.
[5] راجع كتابنا: "أصول العقيدة الإسلامية" ص 236، مكتبة الزهراء بالقاهرة، سنة 1406هـ.
[6] الدكتور علي النشار: "نشأة الفكر الفلسفي" جـ 1 ص 39.
[7] انظر: كتابنا "أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام" ص 108.
[8] للتفصيل انظر: الأستاذ/ أحمد أمين "ضحى الإسلام"، جـ1 ص 137، القاهرة سنة 1933م.
[9] المرجع السابق ص 241.
[10] ابن الجوزي: "تلبيس إبليس" ص 102، المطبعة المنيرية بالقاهرة.
[11] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر والدعوة"، ج 2، ص 12، دار القلم بالكويت، سنة 1975م.
[12] الأفغاني: "الرد على الدهريين" ص 61، ترجمة الشيخ محمد عبده.
[13] المقريزي: "الخطط التوفيقية" جـ،7 ص 221، مطبعة النيل بمصر 1326.
[14] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر" جـ 2، ص 13.
[15] الأشعري: "مقالات الإسلاميين"، جـ 1، ص 39. تحقيق الشيخ محيي الدين عبدالحميد، النهضة المصرية، سنة 1950م.
[16] الدكتور محمود قاسم: مقدمة لكتاب "مناهج الأدلة" لابن رشد ص 16، الأنجلو المصرية 1962.
[17] انظر: "حاضر العالم الإسلامي" جـ 4، ص 44.
[18] الدكتور محمود قاسم: "الإسلام بين أمسه وغده"، ص 115، الأنجلو المصرية.
[19] الكواكبي: "أم القرى" 134.
[20] "العروة الوثقى" ص 152.
[21] الشيخ محمد عبده: "الإسلام والنصرانية" ص 103، القاهرة سنة 1352هـ.
[22] "العروة الوثقى" ص 165.
[23] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر والدعوة" جـ2، ص 14.
[24] الدكتور عبدالوهاب عزام: "محمد إقبال" ص 63.
[25] "أم القرى" ص 57.
[26] "العروة الوثقى" ص 165.
[27] انظر كتابنا: "أصول العقيدة الإسلامية" ص 250.
[28] "الكواكبي": "أم القرى" ص 134.
[29] الأفغاني: "الرد على الدهريين" ص 64.
[30] الأستاذ/ محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص 13، ترجمة الدكتور عمر فروخ، بيروت 1977.
[31] انظر: الدكتور/ أحمد شلبي "موسوعة التاريخ الإسلامي" جـ 5 ص 715، وما بعدها.
[32] السابق جـ 5، ص 245.
[33] ابن الأثير: "الكامل" ج13، ص 147، وقارن: الذهبي: "دول الإسلام" جـ2 ص 125.
__________________________________________________ _____________د. عبدالمقصود عبدالغني
المصدر: كتاب "في الفكر الإسلامي الحديث والتحديات المعاصرة"