عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-05-2023, 02:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دراسة : المقاصد الشرعية في عدم مراعاة الأحداث في ترتيب مطالع سور القرآن



سورة الأنفال سورة مدنية، نزلت في معركة بدر([37])، التي وقعت في رمضان، من العام الثاني للهجرة، ومن أسمائها: سورة بدر كما قال ذلك ابن عباس([38])، واشتهرت باسم سورة الأنفال([39]).
وقد ذكرت السورة أحداثَ معركة بدر بشيء من التفصيل ومن ذلك: أن ذكرت السببَ الذي لأجله وقعت المعركة، وهو الخروج لتلقي قافلة أبي سفيان {غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ} [الأنفال: 7]، ثم ذكرت ما اختاره الله للقوم مع حبهم للقافلة لا للقتال، وذكرت بعد هذا الاختيار استعدادَ النبي ﷺ وأصحابه للمعركة، واستمدادهم النصرَ من الله ﷻ، واستجابة الله ﷻ لهم ذلك، ونزولَ الملائكة، وتغشيَتهم النعاسَ أمنةً لهم، وإنزالَه المطر عليهم تثبيتًا لأقدامهم، وحضهم على الثبات في أرض القتال، وحذرتهم الهروب من أمام عدوهم، وتوعدتهم على ذلك؛ إلا متحرفًا لقتال، أو متحيِّزًا إلى فئة أخرى، بل حضَّتهم السورة على الاستجابة لأمر الرسول ﷺ إذا ما دعاهم لما يحييهم، ومنه دعاؤه إيَّاهم قتالَ عدوهم، وأمرتهم بالصبر والوحدة، وحذرتهم التنازع الذي هو سبب ذهاب ريحهم وضعفهم، وغيرها من الأمور.
كما ذكرت السورة الحال التي خرج بها جيش المشركين بعد أن علموا نجاة القافلة: {خَرَجُوا۟ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَرًۭا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚﱞ} [الأنفال: 47] وقد أنفقوا أموالهم في سبيل الله والصدِّ عنه، وذكرت الشيطان الذي زين لهم ذلك، وقد منَّاهم ووعدهم النصر، وأنه لا غالب لهم من الناس، ثم لـمَّا وقعت الواقعة نكص وتنصَّل منهم وتبرَّأ {عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌۭ مِّنكُمْ إِنِّىٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ [الأنفال: 48].
وإن هذه السورة التي ذكرت موقف المؤمنين والكافرين من المعركة؛ لم تغفل ذكرَ موقف المنافقين أيضًا ممن كانوا في جيش قريش؛ فما إن اختار الله ﷻ القتالَ للمؤمنين، وأرى المؤمنين قلَّةَ عدد الكافرين، وأرى الكافرين قلَّة عدد المؤمنين؛ ما إن رأى المنافقون قلَّة عدد المؤمنين إلا وقالوا: {غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمْ ۗ} [الأنفال: 49]، وبعد ذلك ذكرت السورة مصارع القوم، وكيف تفعل بهم الملائكة: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} [الأنفال: 50].
ثم اختتمت السورة الحديث عن المعركة بعتاب للنبي ﷺ وللمؤمنين في أمر الأسرى فقالت: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْـَٔاخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ * لَّوْلَا كِتَـٰبٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ * فَكُلُوا۟ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلًۭا طَيِّبًۭا ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ} [الأنفال: 67-69].
إن المتأمل لهذا الترتيب الرباني العظيم لآيات هذه السورة سورةَ بدر؛ يلفت نظره أن هذا الترتيب الرباني لهذه الآيات لم يُراعَ مطلع السورة، فقد ابتدأت السورة من حيث انتهت المعركة، ابتدأت بالحديث عن الأنفال التي تكون نهاية المعركة، وما ذاك إلا لحكمة وغاية، ومقصد رباني يريد الله سبحانه أن ينبه عباده إليه.
إننا إذا ما تأملنا سبب نزول هذه الآية التي تتحدث عن الأنفال؛ نستطيع أن نصل لذلك المقصد، أو نقف على شيء منه، ذلك أن هذه المعركة كانت أولَ معركة يخوضها المسلمون مع المشركين، وكانت هذه أولَ مرة يحصلون فيها على غنائم بحجم غنائم معركة بدر، وهم الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، كيف لا وقد كان المبرر من خروجهم لاعتراض قافلة أبي سفيان أن يستردوا شيئًا من تلك الأموال والدور التي استولت عليها قريش، فما إن انتهت المعركة حتى اختلف القوم في أمر تلك الغنائم، فمن قائل: إنها لنا فنحن من جمعها، ومن قائل: إنها لنا فنحن من حمى رسول الله ﷺ وأحاط به، ومن قائل: إنها لنا فنحن من تبع المشركين ألا يرجعوا([40]).
وقع بينهم هذا الاختلاف وأشرفوا على الهلاك([41])؛ بعد أن مكَّنهم الله من عدوهم، وكسر شوكته، وقتل عددًا من صناديده، وكان الأولى بهم ألا يلتفتوا للغنائم، بل كان الأولى بهم أن يلتفتوا لعظيم المنة والنعمة التي امتنَّ الله بها عليهم؛ إذ أنزل نصره وملائكته فهزم عدوهم، وفي ذلك يقول أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن “الأنفال”، فقال: فينا معشرَ أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النَّفَل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله ﷺ، وقسمه رسول الله ﷺ بين المسلمين عن بَوَاء، فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله ﷺ، وصلاحُ ذاتِ البين([42]).
إذا ما عرفنا السبب الذي نزلت فيه هذه الآية، وهو اختلاف القوم على الأنفال؛ نستطيع بعدها أن نحدد المقصد القرآني الذي لأجله قُدِّم ما حقه التأخير مطلع السورة فنقول: إن المقصد من عدم مراعاة ترتيب الأحداث في هذه الآية؛ هو تقرير مقصد كلي هام من مقاصد هذا الدين ألا وهو: تزكية النفوس وتربيتها، وتهذيبها من أرجاس الجاهلية وشوائبها([43])؛ لتترفع عن الدنيا وملذَّاتها، وترضى بحكم الله، وتصل إلى أعلى درجات الإيمان الذي يريده الله سبحانه من عباده([44])؛ فيقوموا بأمر الخلافة في الأرض، ويقودوا البشرية بالرحمة التي جاء بها هذا الدين، ولا سيما أولئك الذين اختارهم الله لنصرة نبيه محمد ﷺ، ليكون جهادهم خالصًا لوجه الله لا لغنيمة ولا لدنيا.
ولقد دلَّ على هذا المقصد العظيم من مقاصد القرآن كثير من آيات القرآن الكريم، بل لقد صرحت بعض آياته به تصريحًا واضحًا، وأنَّه مقصد أساسيٌّ من مقاصد هذا الدين، وإنزال الكتاب على رسول الله ﷺ، ولا سيما تزكيتها وتربيتها فيما يتعلق بأمر الغنائم خاصة، ومن ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، وهذه الآيات نزلت في معركة أحد التي هزم فيها المسلمون بسبب الإقبال على الغنائم أيضًا.
ومن أدلة هذا المقصد أيضاً: قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّـۧنَ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ} [الجمعة: 2] وذلك منه جلَّ وعلا استجابة لدعوة إبراهيم الخليل u إذ قال: {رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا} [الشمس: 9] فتزكية النفوس وتربيتها وتهذيبها لترقى إلى مستويات الإيمان العليا مقصدٌ عظيم من مقاصد هذا القرآن، أراد الله سبحانه أن ينبه عليه أصحابَ رسوله ﷺ أولًا، والأمةَ من بعدهم ثانيًا، فقدم لذلك الحديثَ عن الأنفال، وأن الأمر فيها لله ﷻ، ولرسوله ﷺ، فاتركوها لهما.
وإذا كان الاستقراءُ عند كثير من علماء المقاصد أقوى دليل على استخراج المقاصد؛ فإننا إذا ما أعملنا هذا الدليل في عدد من آيات القرآن، وأحاديث رسول الله ﷺ؛ نجد أنَّ الكثير منها يدلُّ على هذا المقصد بجلاء، فلقد تنزلت كثيرٌ من الآيات لأجل التنبيه على خطأ وقع به صحابي وتصحيحه، أو للحكم في شجار دار بين بعض المسلمين، أو غير ذلك من الأحداث التي لا يترك الله سبحانه البيان فيها لرسوله ﷺ فقد؛ بل ينزل فيها آياتٍ يزكي بها نفوس أصحابها ويهذبها ويربيها، وله في ذلك أساليب وطرق.
فمن ذلك أن يستثيرهم ويلهب نفسهم لتحقيق ذلك المقصد بالتنبيه على أن ذلك شأن المؤمنين، وأول ذلك ما نحن بصدده، فلما حضَّ الله أصحاب رسول الله ﷺ على تقوى الله، والترفع عن متاع الدنيا من الأنفال وغيرها، وأمرهم بإصلاح ذات بينهم، وطاعة الله ورسوله لتزكوَ نفوسهم؛ قال لهم: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال:1]، وهذا تهييجٌ وإلهاب لنفوسهم لتمتثل، وليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإنَّ هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان، ولا يسمح بمثله الاستعمال([45]).
ومن الآيات التي تدل على متابعة الله سبحانه عباده فيما يقع منهم، وإنزاله الآيات في ذلك تربيةً لهم وتزكية؛ قوله تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌۭ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُوا۟ خَيْرًۭا} [الحجرات: 11]، نزلت في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه ([46])، وذلك أن ثابتًا كان في أذنيه وقرٌ، فكان إذا أتى رسول الله ﷺ أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فجاء يومًا وقد أخذ الناس مجالسهم، فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا، تفسحوا، فقال له رجل: قد أصبت مجلسًا فاجلس، فجلس ثابت مغضبًا، فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان؟ فقال ثابت: ابن فلانة؟ وذكر أمَّاً كانت له يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه استحياءً، فأنزل الله تعالى هذه الآية([47])؛ تربيةً وتهذيبًا لـما كان في نفس ثابت بن قيس رضي الله عنهمن أمر الجاهلية، وفي نفس غيره أيضًا.
وكذا نزل قوله تعالى: {مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌۭ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيْرًۭا} [الحجرات: 11]، قال القرطبي: “قال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي ﷺ عيَّرنَ أم سلمة بالقصر، وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة“([48])، وعن عائشة قالت: حكيت للنبي ﷺ رجلًا فقال: «ما يسرني أني حكيت رجلًا وأن لي كذا وكذا» قالت فقلت: يا رسول الله: إن صفية امرأة -وقالت بيدها- هكذا، يعني أنها قصيرة، فقال ﷺ: «لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ، لَوْ مُزِجَ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ مَزَجَتْ»([49])، وذلك تربيةً من الله سبحانه لعباده المؤمنين، وتهذيبًا لنفوسهم ألا يعيبوا على أحد خلقه، ولا يسخروا منه غنيًا كان أم فقيرًا، طويلًا أم قصيرًا.
ومثلُ ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلْأَلْقَـٰبِ} [الحجرات: 11]، فقد روى الإمام أحمد عن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري عن عمومة له، قدم النبي ﷺ وليس أحد منا إلا له لقب أو لقبان قال: فكان إذا دعا بلقبه قلنا: يا رسول الله، إن هذا يكره هذا، قال: فنزلت:{أوَلَا تَنَابَزُوا۟ بِٱلْأَلْقَـٰبِ} ([50]).
فهذه الآيات مع ما ذكر فيها من أحاديث وغيرها كثير؛ كلُّها تدلُّ على هذا المقصد الكلي من مقاصد القرآن في تهذيب النفوس وتربيتها؛ لتصل بها إلى الإيمان الذي يتحول به المسلم إلى قدرٍ من قدر الله سبحانه، يسلطه على من يشاء من خلقه، فيمحو به ما يشاء ويثبت؛ فيقوم بالخلافة التي خلق لأجلها، وكذلك تحول أصحاب رسول الله ﷺ بعد أن رباهم القرآن وهذَّبهم.
ولقد ناسب الحديث بداية سورة الأنفال عن هذا المقصد وإيراده؛ بعد أن ذكر في سورة الأعراف قبلها كيف أن بلعام بن باعوراء قد ضلَّ بعد أن انسلخ من آيات الله، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولـمَّا كان اتباع الهوى أصلًا في الضلال، وتنكّب الصراط المستقيم؛ أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء([51]).
إن الباحث إذ ذكر سابقًا مقاصد القرآن الكلية عند الإمام ابن عاشور؛ فإنه يستطيع بعدها أن يدرج المقصد الذي قُدِّمت لأجله آية الأنفال تحت المقصد القرآني الثاني منها وهو: تهذيب الأخلاق.
المطلب الثاني: المقصد الشرعي في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الحشر

سورة الحشر سورة مدينة بالاتفاق([52])، سمَّاها النبي ﷺ سورة الحشر([53])، وورد أن ابن عباس كان يسميها سورة بني النضير([54])، ذلك أنها نزلت في يهود بني النضير الذين أخرجهم النبي ﷺ من المدينة بعد أن نقضوا العهد، وهمُّوا بقتله ﷺ([55])، وقد كان اليهود قد صالحوا النبي ﷺ أول ما قدم المدينة، أو بعد انتصاره في معركة بدر على ألا يكونوا عليه ولا له، ثم إنهم نكثوا وغدروا، واصطلحوا مع المشركين بعد معركة أحد، على أن يكونوا عونًا لهم على مقاتلة المسلمين بعد أن خذلوهم في بدر؛ فأوحى الله إلى نبيّه ﷺ بذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق سببًا آخر لقتالهم وملخصه: أن نبيّنا محمدًا ﷺ ذهب إلى ديار بني النضير يستعينهم في دفع دية رجلين من بني عامر قتلها عمرو بن أمية الضمري خطأً، وقد كان بينهم وبينه ﷺ عهد على أن يعين كلٌّ منهما الآخر في مثل ذلك([56])؛ فاستغلوا وجوده ﷺ بينهم، وتمالؤوا على قتله ﷺ، فنزل جبريل وأخبره بذلك، فنهض رسول الله ﷺ من مكانه، وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم([57])، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، ثم آل الأمر فيهم إلى الجلاء، فذهبوا إلى خيبر، وأذرعات الشام، وأنزل الله سبحانه في ذلك سورة الحشر.
فما سبق -على اختصاره- يوقفنا على ما كان بين النبي ﷺ واليهود من عهد وميثاق، كما يوقفنا على سبب ذهابه ﷺ إلى اليهود، وعلى سبب قتاله لهم ﷺ من بعدُ، ومن ثمَّ يوقفنا على سبب نزول السورة أيضًا، وعند النظر والتأمل في آيات السورة التي نزلت في بني النضير؛ نجد أنها لم تراعِ ترتيب الأحداث في مطلعها، فقد قُدِّم الحديث عن جلاء بني النضير أولًا. قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ} [الحشر: 2] وهو الذي كان في النهاية، وأخِّرت عنه الآيات التي تتحدث عن حصار القوم، أو قتالهم الذي كان سابقًا للقتال. قال تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِىَ ٱلْفَـٰسِقِينَ} [الحشر: 5]، كما أخرت عن كل ذلك الآيات التي تتحدث عن وعد المنافقين لليهود بالقتال معهم إن قوتلوا، وعن خذلانهم لهم من بعدُ. قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُوا۟ يَقُولُونَ لِإِخْوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًۭا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا۟ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا۟ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَـٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ } [الحشر: 11، 12] وقد كان ذلك الوعدُ سابقًا على الحصار والقتال، فضلًا عن الجلاء والإخراج([58])، وإن الله سبحانه لم يجعل السورة بهذا الترتيب عبثًا، ولا سهوًا، ولا نسيانًا، فهو سبحانه: {لَّا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى} [طه: 52] بل إن في مجيء ترتيب السورة على هذا النحو مقصدٌ عظيمٌ من مقاصد هذا القرآن وهذه الشريعة، أراد ﷻ أن ينبّه عباده إليه بداية السورة ولا شك، وذلك لأهميته وتعلقه بما جرى بين رسول الله ﷺ واليهود.
لقد خان اليهود العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ، وأقدموا على فعل أشياء يُقتلون بها ولا شك، وأعظمها الهمُّ بقتله ﷺ؛ فأنزل الله بهم بأسه، وقال لنا بداية السورة إذ قدَّم الحديث عنه: إن نقض العهود والمواثيق بين الأمم والدول عظيم وكبير عند الله، وخطره جسيم، قد يودي بإسقاط دول، وزوال أمم، وما جرى لبني النضير كان بسبب نقضهم العهد والميثاق؛ وإن الباحث إذ يقول ذلك؛ فإنه يرى أن المقصد القرآني في عدم مراعاة ترتيب الأحداث بداية السورة؛ التأكيد على أهميَّة ذلك المقصد العظيم في الإسلام.
ولقد دلَّ على هذا المقصد العظيم من مقاصد القرآن الذي نبَّهت إليه أول سور الحشر آياتٌ وأحاديثُ كثيرةٌ، بل وأحداثٌ كثيرة أيضًا أبرزها أن كل اليهود الذين أجلاهم النبي ﷺ من المدينة، أو حكم عليهم بالقتل كان السبب وراء ذلك كله نقضُهم العهد والميثاق الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ، فقد أجلى النبي ﷺ بني قينقاع قبلهم لـمَّا خانوا العهد، وأقدموا على التحريش بين المسلمين، وعلى الاعتداء على امرأة مسلمة([59])، وقتل النبي ﷺ بني قريظة لـمَّا خانوا العهد، وأعانوا المشركين على رسول الله ﷺ يوم الأحزاب، أو همُّوا بذلك([60])، وأقدم على فتح مكة بعد أن نقضت قريش عقد صلح الحديبية([61])، وغير ذلك من الأحداث التي تدلُّ على أهمية الوفاء بالعهود والمواثيق.
ولقد كان فيما أنزل الله على نبيه محمد ﷺ سورةٌ عظيمة، ورد أنَّ من أسمائها: سورة العقود، وهي السورة المشهورة باسم: المائدة، وقد قيل: إنها نزلت بعد عقد صلح الحديبية بين رسول الله ﷺ والمشركين([62])، افتتحت السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، واشتملت على ذكر عدد من العهود والمواثيق، وبيَّنت عاقبة من خانها ونقضها، كاليهود والنصارى، فقد لعن الله اليهود، وجعل قلوبهم قاسية لنقضهم العهد والميثاق الذي أُخذ عليهم، وقال فيهم سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـٰقَهُمْ لَعَنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَـٰسِيَةً} [المائدة: 13]، وأغرى الله تعالى العداوةَ والبغضاءَ بين النصارى لنقضهم العهد والميثاق، وقال: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَهُمْ فَنَسُوا۟ حَظًّۭا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُوا۟ يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، وبعدها نهانا الله سبحانه أن نتخذهم أولياء؛ لأن من خان العهد مع الله لن يفي لنا بعهد ولا ميثاق، فقال تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰٓ أَوْلِيَآءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُۥ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [المائدة: 51]، وكلُّ ذلك يبين خطورة التلاعب بالعهود والمواثيق.
ومما يدلل على أهمية هذا المقصد الذي نبَّهت إليه سورة الحشر في مطلعها؛ أنه لـمَّا كانت خطورة نقض العهود والمواثيق كبيرة، ويترتب عليها أضرار جسيمة تلحق بالأفراد والدول والأمم؛ أمر الله نبيه ﷺ -وأمته من بعده- أن ينبذ العهد إلى أهله لمجرد خوف الخيانة منهم، دون التحقق من وقوعها، فقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةًۭ فَٱنۢبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْخَآئِنِينَ} [الأنفال: 58]، وتعظيمًا منه ﷺ لأمر العهود والمواثيق التي بينه وبين المشركين أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العام التاسع من الهجرة، يؤذن بالناس في الحج بشأن العهود التي بين رسول الله ﷺ والمشركين، ويعلن فيه البراءة من تبعاتها؛ ليأخذ المعاهَدون حذرهم، وقد كان بعض هذه العهود لأجل، وبعضها لغير أجل، فأمهل الله ذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أربعة أشهر، أو من له عهد دون أربعة أشهر يكمل له أربعة أشهر، وأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، وهذا أصح الأقوال وأحسنها في ذلك، كما ذكر ابن كثير واختاره ابن جرير وغيره([63])، والآيات التي تدل على أهمية هذا المقصد كثيرة وكثيرة جدًا.
وجاء في السنة النبوية أحاديثُ كثيرة يحض بها النبي ﷺ على الوفاء بالوعد والعهد، حتى لو كانت لأهل الجاهلية، ومن ذلك قوله ﷺ: «أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده -يعني الإسلام- إلا شدة، ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام»([64])، وغيره من الأحاديث كثير، ليس المقام مقام ذكرها، وكلها وما سبق من ذكر الآيات والأحداث تدلُّ على هذا المقصد وأهميَّته، حتى استحق أن تقدمه سورة الحشر على غيره من أحداث القصة.
ونستطيع بعد ذلك أن نقول: إن هذا المقصد العظيم يندرج تحت مقصدي كلي أصلي من مقاصد القرآن التي عدَّها ابن عاشور، وهو مقصد: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم والتحذير من مساويهم([65])، ويندرج أيضًا تحت المقصد الثامن من مقاصد القرآن التي ذكرها محمد رشيد رضا وهو: إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها، وقصرها على ما فيه الخير للبشر، حيث ذكر رشيد رضا في القاعدة السادسة من قواعد هذا المقصد: وجوب الوفاء بالعهود في الحرب والسلم وتحريم الخيانة فيهما سرًا أو جهراً([66]).
المطلب الثالث: المقصد الشرعي في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع سورة الممتحنة

سورة الممتحنة سورة مدنية، ذكر أهل التفسير أن لها أربعة أسماء هي: الممتحِنة، والممتحَنة، والامتحان، والمودة([67])، سمِّيت الممتحِنة لأنه قد جاء فيها آية امتحان النساء. قال تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَٰتٍۢ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ } [الممتحنة: 10]، وقد أُسند الامتحان إلى السورة مجازاً([68])، وسُمِّيت الممتحنَة نسبة للمرأة التي امتُحنت بعد أن هاجرت إلى المدينة المنورة، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأةُ عبد الرحمن بن عوف([69])، ويدلُّ ذلك على أن السورة تتحدث عن امتحان النساء المهاجرات، وكل ذلك كان بعد صلح الحديبية الذي كان في العام السادس للهجرة، كما أن السورة تتحدث أيضًا عن أثر العقيدة في حياة المسلم الذي دلت عليه أول آيات السورة وغيرها.
وقد اشتملت هذه السورة على آيات تتعلق باستثناء النساء المهاجرات مما جرى من اتفاق بين النبي ﷺ والمشركين في صلح الحديبية، يقضي برد المسلمين المهاجرين إلى النبي ﷺ إلى المشركين، واستثنت الآياتُ النساء المهاجرات بشرط امتحانهن؛ ليعلم صدق إيمانهن([70])، كما اشتملت السورة على آيات تتعلق بما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قبيل فتح مكة أيضًا، والملاحظ بعد تأمل السورة أن الآيات التي نزلت في حاطب بشأن ما وقع منه قبيل فتح مكة قد جاءت أول السورة، وهي متأخرةٌ في النزول، في حين أن آيات صلح الحديبية قد ذكرت بعدها، وهي متقدمة عليها في النزول([71])، ولا شك أن ثمت مقصدًا قرآنيًا وراء عدم مراعاة الترتيب في ذلك.
إننا إذا ما وقفنا على سبب نزول الآيات الأُوَل من السورة؛ نستطيع أن نصل إلى معرفة ذلك المقصد، قال تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا۟ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَـٰدًۭا فِى سَبِيلِى وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِى ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا۟ لَكُمْ أَعْدَآءًۭ وَيَبْسُطُوٓا۟ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّوا۟ لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُمْ ۚ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ} [الممتحنة: 1-3].
قال جماعة من المفسرين: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، بعد أن أسر إليه النبي ﷺ أنه يريد غزو مكة([72])، فعمد حاطب إلى امرأة ذاهبة إلى مكة فأرسل معها كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم بذلك، ويريد من وراء ذلك أن تكون له يد عنده؛ فنزل جبريل إلى النبي ﷺ وأعلمه بذلك، فأرسل النبي ﷺ نفرًا من أصحابه إلى مكان المرأة فأتوا بالكتاب، فسأل النبيُّ ﷺ حاطبًا فقال له: «هل تعرف الكتاب؟» قال: نعم، قال: «فما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله: والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبًا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئًا؛ فصدقه رسول الله ﷺ وعذره، فنزلت هذه السورة: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله ﷺ «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([73]).
فالآية نزلت في أمر حاطب لما كتب لأهل مكة يطلعهم على وجهة رسول الله ﷺ التي يريد، وذلك يناقض ما تمليه عليه عقيدة التوحيد؛ فأنزل الله في ذلك قرآنًا يتحدث عن مقتضيات هذه العقيدة، وأنها تعني حتمية المفاصلة والبراءة بين أهل التوحيد والمشركين، سواء كان المشركون ذوو أرحام أم لم يكونوا كذلك، بل الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءة من الشرك وأهله، ولو كانوا قريبين.
وما سبق يجعل الباحث يقول: إن المقصد القرآني في عدم مراعاة ترتيب الأحداث مطلع هذه السورة؛ البدء بذكر المقصد الأهم فيها الذي يناسبه المقام، وهو الحديث عن الولاء والبراء، وهو مقصدٌ عظيم هام من مقاصد هذا الدين، استحق لأهميته أن يقدم ذكره في السورة على غيره، مما يتعلق بالتَّوثق من صحة إيمان امرأة قدمت مهاجرة لله ولرسوله، لا سيما وأنَّ عددًا من آيات السورة يتحدث عن هذا المقصد العظيم أيضًا، فقد جاء عقيب هذه الآيات ذكر إبراهيم u، وكيف عمل ومن آمن معه بعقيدة الولاء والبراء مع قومهم، وأعلنوا البراءة منهم والبغضاء لهم.
وقد دلت نصوصٌ كثير على قصد الشارع مراعاة البدء بذكر الأهم فالمهم، يظهر ذلك في ذكر أركان الإسلام والإيمان في الكتاب والسنة، وفي إرسال الرسول ﷺ معاذًا إلى اليمن، وأمره إياه أن يبدأ بالأهم وهو دعوتهم للتوحيد، فإن هم أجابوا لذلك؛ يعلمهم بعدها الصلاة والزكاة، وغيرها من فرائض الإسلام وأحكامه، بل إن هذا المقصد ذاته هو الذي قُدِّم أيضًا حتى افتتحت به سورة التوبة: {بَرَآءَةٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] مع أنَّ عددًا كبيرًا من آياتها نزل في غزوة حنين وتبوك التي كانت قبل إعلان البراءة من المشركين، ومع ذلك قدمت عليها آيات البراءة في الذكر وذلك لأهميتها([74]).
ولقد عرفنا باستقراء عدد من آيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله ﷺ أن تحقيق الولاء والبراء مقصد عظيم من مقاصد هذا الدين، ومن تلك الآيات قوله تعالى: {۞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰٓ أَوْلِيَآءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُۥ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [المائدة: 51] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن والى أعداء الله الكافرين.
ومنها قوله تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ دِينَكُمْ هُزُوًۭا وَلَعِبًۭا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 57] وهذا نهيٌّ صريح عن موالاتهم. ومنها قوله تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا۟ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰنًۭا مُّبِينًا} [النساء: 144]. ومنها قوله تعالى: {لَّا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِى شَىْءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُوا۟ مِنْهُمْ تُقَىٰةًۭ ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُۥ ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
وكل هذه الآيات وغيرها تدل على النهي والتحذير من موالاة الكافرين، وتحضُّ على البراءة منهم، وكل ذلك دليل على أنَّ هذا مقصدٌ من مقاصد هذا الدين، استحق لأهميَّته أن تقدّمَه سورة الممتحنة على غيره بالذكر.
وقد صح عن النبي ﷺ أيضًا أنه بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وقال له: «أبايعك على أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من المشرك»([75])، وقال ﷺ: «من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان»([76])، وغيرها من الأحاديث كثير.
وبالنظر إلى تكرار الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على هذا المقصد؛ نستطيع أن نقول: إن هذا مقصدٌ قطعي، وزيادة على ذلك فهو يتعلق بعقيدة التوحيد، لا بتزكية النفس وتربيتها؛ وإن كان للتربية والتزكية مكانتها أيضًا، وهو بذلك يندرج تحت المقصد الأول من مقاصد القرآن الثمانية التي عدَّها ابن عاشور ألا وهو: إصلاح الاعتقاد.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]