عرض مشاركة واحدة
  #405  
قديم 09-03-2023, 03:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,246
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3486 الى صـ 3500
الحلقة (405)




[ ص: 3486 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 107 ] خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد [ 108 ] وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ

خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ أي: غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.

وفي التوقيت بـ (السماوات والأرض) وجهان: أحدهما: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: (ما أقام ثبير)، و (ما لاح كوكب) و (ما طما البحر) ونحوها، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم، وانقطاع دوامهما.

وثانيهما: أن يراد سماوات الآخرة وأرضها، إذ لا بد لأهلها من مظل ومقل، قال تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء

فإن قلت: ما معنى الاستثناء بالمشيئة، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟ فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن، للدلالة على الثبوت والاستمرار.

[ ص: 3487 ] والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل.

وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله: يعني أن دوامهم ليس أمرا واجبا بذاته، بل موكول إلى مشيئته تعالى.

وابن عطية بقوله: هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام، كقوله: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.

وللمفسرين هنا وجوه كثيرة، وما ذكرناه أحقها وأبدعها.

ولما قص تعالى قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة، وما أعد لهم من عذابه قال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 109 ] فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص

فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء أي في شك من عبادتهم، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم. وفيه تسلية له صلوات الله عليه، وعدة بالانتقام، ووعيد لهم. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل أي فهم سواء في الإشراك، وقد بلغك ما نزل بآبائهم، فسيحل بهم مثله. وهو استئناف معلل للنهي عن المرية. وإنا لموفوهم نصيبهم أي من العذاب، كما وفى لآبائهم غير منقوص
[ ص: 3488 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 110 ] ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب

ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف فيه أي آمن به قوم، وكفر به آخرون، كما اختلف هؤلاء في القرآن. ولولا كلمة سبقت من ربك يعني ما أشير إليه في قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم لقضي بينهم أي باستئصالهم. وإنهم أي هؤلاء، وهم كفار مكة لفي شك منه أي القرآن مريب أي موقع للناس في الريبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 111 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير

وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير أي فلا يخفى عليه شيء منه، وسيجزيهم عليه. والتنوين في (كلا) عوض عن المضاف، أي وإن كل المختلفين فيه.

تنبيه:

في هذه الآية قراءات: قرئ (إن) و (لما) مخففتين ومشددتين، وبتخفيف (إن) وتشديد (لما)، وبعكسها، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة.

فأما الأولى: ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، واللام في (لما) لأمر الابتداء، داخلة في خبر (إن). و (ما) إما موصولة بمعنى (الذين) واقعة على من يعقل، واللام في (ليوفينهم) جواب قسم مضمر، أي: وإن كلا للذين، والله ليوفينهم. وإما نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة (ما) أي: وإن كلا لخلق، أو [ ص: 3489 ] لفريق، والله ليوفينهم. وقيل: اللام الأولى موطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما بـ (ما) فهي زائدة لإصلاح اللفظ. وقيل: اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية. وقيل: إنها جواب القسم كررت تأكيدا.

وأما الثانية: وهي تشديدهما، فـ (إن) على حالها، وما بعدها منصوب على أنه اسمها، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة بمعنى (لم) ومجزومها محذوف، أي لما يمهلوا، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن، وسيوفونها.

وأما الثالثة: وهي تخفيف (إن) وتشديد (لما)، فـ (إن) مخففة عاملة كما تقدم، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة أيضا، أو (إن) نافية بمنزلة (ما) و (لما) بمعنى (إلا) و (كلا) منصوب بمضمر، أي: وما أرى كلا إلا.

وأما الرابعة: وهي تشديد (إن) وتخفيف (لما) فواضحة، فـ (إن) هي المشددة عملت عملها.

والكلام في (اللام) و (ما) مثل ما تقدم أولا من الوجوه الأربعة في (اللام) والثلاثة في (ما).

وثمت قراءات أخر فلتراجع في (السمين) وغيره.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 112 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير .

فاستقم كما أمرت أي في القرآن، و (الكاف) للتشبيه، أو بمعنى (على) ومن تاب معك أي من الشرك، وهم المؤمنون. ولا تطغوا أي تجاوزوا حدود الله إنه بما تعملون بصير أي فيجازيكم به. قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة، ولو كان على مشرك.
[ ص: 3490 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 113 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون

ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، أي: لا تسكنوا إليهم. ولا تطمئنوا إليهم ; لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم، وتوهين جانب الحق. فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم. ثم لا تنصرون أي لا تمنعون مما يراد بكم. والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادين لله ولرسوله، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله ; لأن ذلك ينافي الإيمان.

قيل: الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟

تنبيه:

قال بعض المفسرين اليمانيين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة، لأنه تعالى توعد بالنار. ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى؟ قلنا: في ذلك وجوه؟

فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.

وقيل: ترضوا بأعمالهم. عن أبي العالية.

وقيل: تلحقوا بالمشركين. -عن قتادة-.

وقيل: تداهنوا الظلمة -عن السدي وابن زيد.

وقيل: الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم. فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز، لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار، والظلمة أولى.

قال الزمخشري: النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين [ ص: 3491 ] إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله: ولا تركنوا فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.

وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ انتهى.

قال اليماني: قد وسع العلماء في ذلك وشددوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا. انتهى.

وأقول: كل هذا مبني على عموم الآية، وأما إن كانت في مشركي مكة، اعتمادا على سباق الآية وسياقها ; فالمراد منها ما ذكرناه أولا -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 114 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

وأقم الصلاة طرفي النهار أي غدوة وعشية وزلفا من الليل أي وساعات منه، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار. من (أزلفه) إذا قربه، وازدلف إليه. وصلاة الغدوة: الفجر، وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء -كذا في الكشاف-.

والآية كقوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر [ ص: 3492 ] في جمعهما للصلوات الخمس جمعا بالغا غاية اللطف في بلاغة الإيجاز. وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف لإضافته إليه. و (زلفا) قرأها العامة بضم ففتح، جمع زلفة، كظلمة وظلم. وقرئ بضمهما، إما على أنه جمع زلفة أيضا، ولكن ضمت عينه إتباعا لفائه; أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف.

وقرئ بإسكان اللام، إما بالتخفيف، فيكون فيها ما تقدم، أو على أن السكون على أصله، فهو كبسرة وبسر، من غير إتباع.

وقرئ (زلفى) كحبلى، بمعنى قريبة، أو على إبدال الألف من التنوين ; إجراء للوصل مجرى الوقف. ونصبه إما على الظرفية بعطفه على (طرفي النهار) لأن المراد به الساعات، أو على عطفه على (الصلاة) فهو مفعول به.

والزلفة عند ثعلب أول ساعات الليل.

وقال الأخفش: مطلق ساعات الليل، وأصل معناه القرب. يقال ازدلف أي اقترب و (من الليل) صفة زلفا -كذا في (العناية)-.

إن الحسنات أي التي من جملتها، بل عمدتها، ما أمرت به من الصلوات يذهبن السيئات أي التي قلما يخلو منها البشر، أي يكفرنها. ذلك أي إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة ذكرى للذاكرين أي ذكرى له تعالى، وإحضار للقلب معه، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته.

وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه; أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا، فاقض في ما شئت! فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات إلخ.

[ ص: 3493 ] فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ قال: « بل للناس كافة »
. أخرجه البخاري وغيره.

وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم: « أتممت الوضوء وصليت معنا؟ » قال: نعم، قال: « فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد » . وقرأ الآية.

وفي رواية: فنزلت الآية،
والمراد بالنزول شمولها، بنزولها المتقدم، لما وقع، لأنها كانت سببا في النزول -كما بيناه غير مرة-.

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ » قالوا: لا. قال: « فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا » . ورواه البخاري أيضا عن جابر، وروي نحوه عن عثمان وسلمان.

وللإمام أحمد عن معاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » .

[ ص: 3494 ] وله عن أبي ذر مرفوعا: « إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها » قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: « هي أفضل الحسنات » أي: فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البر.

لطيفة:

أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه، فقال:

لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور والحضور، بالإعراض عن جانب القدس، والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء ; فرضت خمس صلوات، يتفرغ فيها العبد للحضور، ويسد أبواب الحواس ; لئلا يرد على القلب شاغل يشغله، وبفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية; لوصول مدد النور، ويجمع همه عن التفرق، ويستأنس بربه عن التوحش، مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب، على جناب الرب، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور، ودارا للعين الغرور، التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد آثار ظلماتها، ويكسح غبار كدوراتها. وهذا معنى قوله: إن الحسنات يذهبن السيئات

وقد ورد في الحديث: « إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر » . وأمر بإقامتها طرفي النهار، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية، واستيلاء الهيئة النورية، في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، لدوام ذلك الحضور، [ ص: 3495 ] وبقاء ذلك النور، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني، وتحجزها عن شأنها الخاص بها، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء، لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة، وتكدرها بالغشاوة ; احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة، وتنويرها بالصلاة، فقال: وزلفا من الليل انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 115 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

واصبر أي على مشاق ما أمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على الصلاة كقوله: واصطبر عليها ولا مانع من شموله للكل.

فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس.

قال أبو السعود: وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة، مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان. انتهى.

وأشار الشهاب في (العناية) هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت عامة في المعنى، وفي المنهيات جمعت للأمة.

وقوله تعالى:
[ ص: 3496 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 116 ] فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين

فلولا كان أي فهلا وجد من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض أي بعمل الشرور والمنكرات، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع. أي لكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي.

لطيفة:

(البقية) إما بمعنى الباقية، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة، أو بقية من الرأي والعقل، أو بمعنى الفضيلة، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة. وأطلق على الفضل (بقية) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه، ويدخرها مما ينفقه، فإنه يفعل ذلك بأنفسها. ولذا قيل: (في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا) و (فلان من بقية القوم) أي من خيارهم، وجوز كون (البقية) مصدرا بمعنى (البقوى)، كالتقية بمعنى التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سخطه تعالى وعقابه.

واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه أي ما صاروا منعمين فيه من الشهوات، حتى فجأهم العذاب، واتباعه كناية عن الاهتمام به، وترك غيره، كما هو دأب التابع للشيء.

و الذين ظلموا أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد، ومن تاركي النهي عنه، وقصره الزمخشري على الثاني، لأنهم المقصود بالنعي قبله، حيث قال: أراد بـ (الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم.

[ ص: 3497 ] وكانوا مجرمين أي باتباعهم المذكور، أو كافرين. قال القاضي: كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم، واتباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقد أشير لذلك بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 117 ] وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون أي بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. و (بظلم) الباء فيه إما للملابسة، وهو حال من الفاعل، أي استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالما لها، وتنكيره للتفخيم، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم. أو للسببية. والظلم: الشرك، أي: لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون، يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى. ولذا قيل: (يبقى الملك مع الشرك، ولا يبقى مع الظلم) وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد، ومحو الشرك أولا، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانيا ; يقضي بحمل (الظلم) هنا على ما هو أعم من الشرك، وأصناف المعاصي. وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه. كذا أشار له أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 118 ] ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة أي مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح، ولكنه لم يشأ ذلك ولا يزالون مختلفين أي في الحق، منهم المؤمن به، ومنهم الكافر به.
[ ص: 3498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 119 ] إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

إلا من رحم ربك أي لكن ناسا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد، وتوفيقهم للكمال، فاتفقوا في المذهب والمقصد، ووافقوا في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة.

وقوله تعالى: ولذلك خلقهم في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه (مختلفين)، فالضمير حينئذ للناس، أي لثمرة الاختلاف، من كون فريق في الجنة، وفريق في السعير، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من (رحم) لتأويلها بـ (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين، كما في قوله: عوان بين ذلك والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم، خلقهم. وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير لـ (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق -كذا في (العناية)-.

وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها، وهو التعليل بوجه آخر، حيث قال: وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.

[ ص: 3499 ] وقوله تعالى: وتمت كلمة ربك أي أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين والمراد من " الجنة والناس" عصاتهما، والتعريف للعهد، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم، وأن الوعيد ليس إلا لهم، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. بـ (أجمعين) حينئذ ظاهر، وإن لم يحمل على العهد، وأبقى على إطلاقه، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين، لا من أحدهما فقط، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه، موكولا إلى علمه تعالى، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم. وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فالمراد بلفظ (أجمعين) تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد، كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، كقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل يكون من كل فرد صنف، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ (أجمعين); إذ فيه رد على اليهود وغيرهم، ممن زعم أنه لا يدخل النار -كذا في (العناية)-.

ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية، والقرون الخالية، ما جرى لهم مع أنبيائهم -أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 120 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين

وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك أي نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم. و (كلا) مفعول (لنقص) و (من أنباء) بيان له. و (ما نثبت) بدل من (كلا) أو خبر محذوف.

[ ص: 3500 ] وجاءك في هذه أي السورة، أو الأنباء المقتصة الحق أي القصص الحق الثابت وموعظة وذكرى للمؤمنين أي عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 121 ] وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون

وقل للذين لا يؤمنون أي بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون اعملوا على مكانتكم أي حالكم من اتباع الأهواء إنا عاملون أي على حالنا من اتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 122 ] وانتظروا إنا منتظرون

وانتظروا أي العواقب إنا منتظرون أي ما وعدنا به من الفتح، وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 123 ] ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون

ولله غيب السماوات والأرض أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم. وإليه يرجع الأمر كله أي أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم. فاعبده وتوكل عليه فإنه كافيك وما ربك بغافل عما تعملون بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله: للذين لا يؤمنون وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي أنت وهم. أي فيجازي كلا بما يستحقه -والله أعلم-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]