المسألة الثانية: فيما يترتب على التوبة من ذلك حقيقة التوبة وشروطها وأحكامها في غير ما نقصده معروفة وأما ما نقصده هنا فقد نظرت ما حضرني من الآيات والأحاديث فلم أجد التوبة إلا في المنهيات دون ترك المأمورات من ذلك قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون بعد ذكره من أول سورة النور إلى هنا أحكام الزانية والزاني والقذف وقضية الإفك التي لا شيء أقبح منها وكم حصل في تلك الآيات الكثيرة من [فتاوى السبكي (1/227)] الالتفات الدال على قوة الغضب وذلك لأجل النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن دخول البيوت بغير إذن والأمر بغض البصر لأجل النظر المنهي عنه وإبداء الزينة وهذه كلها مناه وكذا قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فإنه استثناء من الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون
وجزاؤهم بعد ما ذكر ثلاثة من المأمورات وواحد فيه أمر ونهي وهو الإنفاق بلا إسراف ولا تقتير ثم ختم بثلاثة وقال عن العشرة أولئك يجزون الغرفة بما صبروا فلا شك أن التوبة عن فعل المنهي عنه يرتفع بها إثمه
وأما التوبة عن ترك المأمور به فلم أجدها وترك المأمور به حرام منهي عنه لكن لا يكفي بدون فعل المأمور فلذلك لم يأت فيه فلو فرضنا من ترك صلاة عامدا ثم ندم وتاب وهو عازم على القضاء هل نقول لا تصح توبته أصلا حتى يقضي أو تصح ويسقط الإثم السابق وتبقى الصلاة في ذمته حتى يأتي بها هذا محل نظر لم أر من صرح فيه بشيء والأقرب الأول
والفرق بين الأوامر والنواهي في هذا المعنى أن الأوامر قصد فيها فعل المأمور به لمصلحة المكلف ولا تحصل لك المصلحة إلا بالفعل فإذا ترك عصى لإخلاله بالمقصود وتلك المعصية مستمرة حتى يأتي بالمقصود فلا يسقط الفعل قطعا ولا الإثم المتعلق به حتى يأتي به لأنه هو المقصود وأما النواهي فالمقصود منها عدم المنهي عنه وإن كنا نقول المكلف به هو الكف ولكن المقصود العدم بدليل أنه إذا لم يفعل ساهيا لم يأثم لحصول مقصود النهي وإن لم يكن فعل الساهي عبادة وكذلك من ترك رياء وسمعة ونحو ذلك
والتردد الذي أشرنا إليه إنما هو في سقوط الإثم أما الفعل فلا يسقط قطعا إلا بالفعل وهذا هو سبب قول الفقهاء المنهيات تسقط بالجهل والنسيان والمأمورات لا تسقط بالجهل والنسيان .