عرض مشاركة واحدة
  #271  
قديم 21-01-2023, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,704
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (266)

صـــــ(1) إلى صــ(11)




شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب البيع [2]

لا يخلو يوم من أيام العباد من المعاملات المالية، سواء كانت تجارية أو غير تجارية، ومن ثم فقد يبتلى العبد بطعمة الحرام والخوض في البيوع المحرمة، وما ذاك إلا بسبب جهله بأحكام هذه البيوع، ومن هذا المنطلق لزم على الإنسان معرفة أحكام هذه البيوع وصيغ إبرامها ونقضها، ليكون على بصيرة من أمره فيما يدخل على أهله وعياله من هذا المال
‌‌حقيقة البيع شرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا حقيقة البيع في اصطلاح الشرع، وقد تكلمنا عن أهمية معاملة البيوع، وأن المسلم محتاج إلى معرفة مسائل البيع؛ لأنها مما تعمّ بها البلوى، وقلّ أن يمر يوم على الإنسان إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ومن عرف أحكام البيع وعرف ما يترتب على البيع من مسائل؛ فإنه حريٌ به أن يتقي الله عز وجل فيفعل ما أذن الله به ويترك ما نهى الله عنه، ومن كان على جهل بهذه المسائل فإنه لا يؤمَن عليه أن يقع في المحظور وهو لا يدري، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنه قد يشيب عارض الإنسان في الإسلام وهو يلعن صباح مساء بأكله للربا والحرام؛ وذلك لأنه قد يفعل ذلك عن جهل منه، ويصحب الجهل التقصير في سؤال العلماء ومعرفة ما أحلّ الله وحرّم.
وباب البيوع من الأبواب التي تحتاج إلى شيء من العناء، كما ذكرنا ونبهنا على أنه ينبغي على طالب العلم أن يصبر ويصابر لضبط هذه المسائل؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التركيز، وقد يحدث معها شيء من السآمة والملل، ولكن إذا صحت النية وصدقت العزيمة وصحب ذلك كله توفيق من الله فإن الله يعين العبد، ومن وراء ذلك خير كثير لمن احتسبه.
المقصود: أن المصنف بيّن لنا حقيقة البيع، وقد ذكرنا أن هناك تعاريف مختلفة، ومن أنسبها قول الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، قالوا في تعريف البيع: (البيع مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً).
وقلنا: إن هذا التعريف يعتبر من أخصر التعاريف ومن أجمعها.
والمصنف رحمه الله عرّف البيع ولم يخرج في تعريفه عن هذا التعريف، ولكنه أدخل بعض الأنواع للبيع ونبّه عليها، وهي مما اختلف العلماء في اعتبارها بيعاً.
فقال رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
(مبادلة مال) قلنا: المال هو الشيء الذي له قيمة، فكل شيء له قيمة فإنه مال، وبعض العلماء يقول: المال كل شيء فيه منفعة.
وقوله: (مبادلة مال ولو في الذمة) (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء لا ينبه على هذا، ويقول: مبادلة المال بالمال، فشملت مبادلة المال بالمال تسع صور: مبادلة العين بالعين، أو مبادلة الذمة بالذمة، أو مبادلة العين بالذمة.
وكل واحد من هذه الثلاث: إما ناجزاً من الطرفين، أو نسيئة منهما، أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وسنشرح هذه الصور بإذن الله
‌‌صور البيع
فعندنا في البيع شيئان: إما أن تبيع الشيء وتعيّنه فتقول: بعتك هذا الكتاب، وسنمثل بأمثلة معاصرة حتى يكون الضبط أكثر؛ لأن البعض من طلاب العلم إذا مثّل لهم بالدنانير والدراهم والدواب والجمال والعبيد ونحوها لا يركز إذا أراد أن يطبق ذلك على ما يعيشه ويجده، فالأفضل أن نختار أمثلة معاصرة، مثلاً: لو أردت أن تبيع الكتاب -عندك كتاب ليكن صحيح البخاري، وهذه النسخة من صحيح البخاري إما أن تكون موجودة أمامك فتقول للمشتري- فأنت على حالتين: إما أن تقول له: أبيعك هذه النسخة من صحيح البخاري بمائة، فقولك: (أبيعك هذه النسخة)، معنى ذلك أنك عينت، فهذا يسمونه بيع العين؛ لأنك بعت وورد البيع على محل معيّن لا ينصرف إلى غيره، لكنك لو قلت له -وهذه هي الحالة الثانية-: أبيعك نسخة من صحيح البخاري من طبع كذا في تاريخ كذا، أو من نوع كذا من الطباعة، فهذا القول الذي قلته يصدق على هذه النسخة وعلى كل نسخة تشاركها في الصفة، فيعتبر بيع ذمة؛ لأنك التزمت في ذمتك أن تدفع نسخة من هذا الكتاب موصوفة بهذا الوصف.
إذاً: عندنا حالتان: إما أن تعين البيع ويرد البيع على العين فيكون بيع عين.
وإما أن يرد البيع على موصوف في الذمة، فكأن ذمتك وأمانتك وعهدتك شغلت بشيء تلتزم بأدائه، فصار في ذمتك وأمانة عليك، وهذا معنى قولهم: (في الذمة) فإذا بعت شيئاً في ذمتك وصفته.
لكن لماذا نحن نفصل هذه التفصيلات؟ من فوائد هذه التفصيلات، وهذا مما تمتاز به الشريعة الإسلامية في باب المعاملات: أنها تريد أن تعطي كل ذي حق حقه.
فمثلاً: لو جئت وقلت له: أشتري منك هذا الدواء بمائة، ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً وقلت له: رد لي المائة، فهذا من حقك؛ لأنك اشتريت هذا الشيء المعين وظهر به عيب، فمن حقك أن ترده وأن تطالب بالثمن، فلو قال: أعطيك بدلاً عنه، ولا أردّ لك القيمة، فيلزمه شرعاً إعطاء القيمة؛ لأن البيع ورد على معين بطل ببطلان العقد عليه، فهذا بيع العين.
لكن حينما تقول له: أعطني الدواء الفلاني، فأعطاك الدواء بصفته التي طلبتها، فلو وجدت به عيباً -انتهت مدة صلاحيته مثلاً- فجئت وقلت له: هذا لا أريده، أريد المال، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأنك اشتريت موصوفاً في الذمة، وإذا لم يصدق الوصف على هذه فمن حقه أن يلزمك بما يصدق عليه من بدل.
فالشريعة تقدر في البيع والمعاملات كل كلمة تخرج من المتعاقدين، ولا تريد أن الكلام والعقد الذي يتم بينك وبينه يذهب هدراً، وهذا التدقيق من العلماء من باب العدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، فأنت إذا قلت: (أشتري هذا)، فالبيع على هذا، ولا يقع البيع على غيره، وليس من حقه أن يلزمك بغيره، وإن قلت (أشتري كذا)، فإنه يصدق على كل ما وافق وصفك الذي طلبته في المبيع.
إذاً: عندنا عين وعندنا ذمة، وبيع الأعيان إذا قلت له: أبيعك هذا الكتاب، فأنت إما أن تقول له: أبيعك هذا الكتاب بمائة حاضرة الآن، تعطيني وأعطيك، فيسمى بيع النجاز، نجز ونجزت، وهو ما يسمى في عرفنا ببيع النقد.
وإما أن تقول له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة بنسيئة.
وإما أن تقول له: أعطيك الكتاب الآن، ويقول: ليس عندي فلوس، أعطيك غداً، أو بعد شهر، أو بعد أسبوع، فهذا نسيئة من طرف ناجز من الآخر.
إذاً: أصبح عندنا ثلاثة أشياء: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة.
وقد قلنا: إن البيع إما بيع ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن بمثمن، فنريد هنا مثالاً على بيع العين بالعين في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن.
نبدأ ببيع العين بالعين في الثمن بالثمن، مثل: صرف ريالات بدولارات، قال له: أصرف لك عشرة دولارات بمائتي ريال، قال: قبلت.
إذا قال له ذلك صار عيناً بعين في ثمن بثمن؛ لأن الدولارات ثمن والريالات ثمن، أو قال: أبيعك هذه المائة جنيه بهذه العشرة آلاف ريال، فهذا بيع عين بعين في الثمن بالثمن.
أما بيع العين بالعين في المثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب أبيعك هذه (الفيلة) بهذه (الفيلة) فصار بيع عين بعين في مثمن بمثمن، أو هذه السيارة بهذه السيارة، فهذا أيضاً بيع مثمن بمثمن، وهو ما يعرف ببيع المقايضة.
أما بيع العين بالعين في الثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذه العشرة، فالمثمن الكتاب والعشرة هي الثمن.
فهذا يسميه العلماء في جميع الصور الثلاث: بيع عين بعين.
وإذا حددت وعينت، إما أن تقول: أعطيك الآن وتعطيني الآن، فهذا يسمونه ناجزاً من الطرفين، فالبائع نجز والمشتري نجز، وصار التقابض بينهما في نفس مجلس العقد، إذاً: هو ناجز وبيع نقدي كما يسمى في عرفنا اليوم.
الصورة الثانية: أن يكون نسيئة من الطرفين، باعه عيناً بعين، لكن قال له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهو نسيئة من الطرفين، من البائع ومن المشتري، وهي عكس الصورة الأولى.
الصورة الثالثة: أن يكون ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن أقول لك: هذا الكتاب بهذه العشرة، لكن تقول لي: لا أعطيك الكتاب الآن، وإنما أعطيك إياه غداً، أقول: خذ العشرة الآن وأنا آتي غداً وآخذ الكتاب، فهذا ناجز من أحدهما نسيئة من الآخر.
لاحظوا يا إخوان! نحن لا نتكلم الآن على الحلال والحرام في صور البيع، إنما هذه المرحلة تسمى مرحلة التصور، وهي أن تأتي بجميع البيوع الموجودة على وجه الأرض ويضعها الفقيه بين يديك، ثم بعد ذلك يقال: هذا حلال، وهذا حرام، نحن الآن فقط نريد أن نعرف ما الذي نتكلم عنه وهو البيع، وما هي صوره، حتى تستطيع بعد ذلك أن تحكم على كل صورة على حدة.
ننتقل بعد ذلك إلى بيع الذمة بالذمة، وقد قلنا: الذمة هي وصف في الإنسان، كما يقول العلماء، يقبل الإلزام والالتزام، أي: تلتزم به في ذمتك، تقول: لك عليَّ عشرة، لك عليَّ مائة، لك عليَّ كتاب مثلاً: (نسخة من صحيح البخاري)، لك عليَّ نسخة من شرح العمدة وهكذا، ومعناه أنك التزمت في ذمتك، وهذا يسمى عند العلماء الذمة، وغالباً ما يقع في بيوع الآجال.
وفي بيع الذمة بالذمة، نحتاج أول شيء إلى ضرب الأمثلة على بيع الثمن بالثمن، وبيع المثمن بالمثمن، وبيع الثمن بالمثمن.
فأنت الآن قررت أن يكون البيع ذمة بذمة، ومعناه أنك لا تعين، فتأتي إلى بائع الكتب، ويقول لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، من طبع -مثلاً- بيروت، بمائة ريال، فيها عشرة أجزاء خمسة أجزاء أربعة أجزاء، فلاحظ هل المائة معينة أم موصوفة؟ هذه مائة موصوفة؛ لأن أي مائة تدفعها يصدق عليها أنها محل للعقد، فممكن أن تأتي بالمائة برأسها، وممكن أن تأتي بالمائة، في صورة ورقتين من فئة الخمسين وممكن أن تأتي بالمائة من فئة العشرات أو الخمسات أو الريالات، ومن حقك أن تلزمه بالبيع، فلو جئت بالمائة وهي قطع معدنية وقال: لا أريد، يلزمه البيع شرعاً؛ لأن البيع على موصوف في الذمة، ويصدق على هذه القطع المعدنية أنها مائة، هذا فرق المسألة، أي: حينما يقول لك: أبيعك بهذه المائة، لو أراد أن يبدلها بمائة أخرى لا يجوز، وليس من حقه إلا أن ترضى، ويعتبر إنشاءً جديداً للعقد، لكن إذا قال لك: بمائة، يكون قد صدق الوصف على أي مائة: ريالات حديد (نيكل) أو أن تكون جامعة بين النيكل والريالات، وليس بوارد على شيء معين، ولذلك قالوا: ذمة، التزم في ذمته بمائة.
والتزمت أنت له في ذمتك بمائة، فإذا قال لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، وعنده مائة نسخة، فأي نسخة منها مما ينطبق عليها الشرط ممكن أن تكون محلاً للعقد، فلو أخذت هذه النسخة وبعد أن ذهبت إلى بيتك وجدت فيها صفحة مطموسة، فجئت إليه وقلت: لا أريد هذه النسخة، قال: أعطيك بدلاً عنها، فقلت له: ما دام بعتني شيئاً بهذه الصفة فلا أريد، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأن البيع وقع على موصوف في الذمة، ولم يقع على معين يفوت بفواته.
إذاً: بيع الذمة بالذمة يقع في العين بالعين، ويقع: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، ويقع ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وأيضاً: بيع الذمة بالذمة يقع في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن: ففي المثمن بالمثمن، كتاب بكتاب، تقول: أبيعك أو أعطيك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم، التي عندي -مثلاً- من طبع كذا، والتي عندك من طبع كذا، فهذا بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة في المثمن بالمثمن.
وبيع الموصوف بالذمة في الثمن بالثمن، كقولك: أبيعك عشرة دولارات بمائة ريال، فهو صادق على كل عشرة دولارات وعلى كل مائة ريال.
وقد يقع في الثمن بالمثمن، كقولك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بعشرة ريالات، فأصبح بيع ثمن بمثمن موصف في الذمة.
فإذاً: عندنا ثلاث حالات في الذمة بالذمة: إما ثمناً بثمن كدولارات بريالات دون تحديد لها أو تعيين.
أو مثمن بمثمن ككتاب بكتاب موصوفين في الذمة.
أو ثمن بمثمن ككتاب بريالات، دون أن يحددا ويعينا المبيع في كل هذه الصور.
بقي عندنا في بيع الذمة بالذمة: إما أن يكون ناجزاً من الطرفين.
أو نسيئة من الطرفين.
أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
- فأما أن يكون ناجزاً من الطرفين، كأن تقول له: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم ناجزاً منا، تعطيني الآن وأعطيك الآن، فتعطيه في المجلس ويعطيك في المجلس، فهذا يسمى: ذمة بذمة ناجزاً من الطرفين.
- وأما ذمة بذمة نسيئة من الطرفين، كأن يقول لك: أعطيك الكتاب غداً وتعطيني الكتاب أيضاً غداً، فهذا يسمى: بيع الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، هو أخّر وأنت أخّرت، فهذا معنى قولهم: نسيئة.
وأما ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن تقول: خذ هذه النسخة الآن، فيقول: ليست عندي نسختي سأعطيك غداً، فهذا يعتبر ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
إذاً: الآن فرغنا من ست صور: عين بعين، ذمة بذمة، وفي كلتا الحالتين: ناجزاً منهما، نسيئة منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
بقي عندنا ثلاث صور: وهي بيع الذمة بالعين، فتبيع شيئاً معيناً بموصوف في الذمة، كقولك: أبيعك هذا الكتاب بمائة، فقولك: (أبيعك هذا الكتاب) عين، وقولك: (بمائة) موصوف في الذمة، ففي هذه الحالة إما أن يكون بيع الذمة بالعين في ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن ب
‌‌حكم بيع المنافع
قال رحمه الله: [أو منفعة مباحة].
النفع ضد الضر، والشيء الذي فيه منفعة المراد أن يكون فيه شيء يرتفق به الإنسان، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب وحمل المتاع عليها، كما قال تعالى عن الدواب: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] فهذه منافع: الركوب منفعة السكنى منفعة الحمل منفعة إلخ.
والمنفعة المباحة مثّل لها بعض العلماء: أن يقول له: أبيعك طريقاً في أرضي، أي: تشتري فقط المشي في هذا الموضع من أرضي، كما كان يقع في القديم عندما تبنى الأحوشة للبيوت، فيحتاج الجيران إلى منفذ، فيفتح لهم منفذاً ويكون مثلاً من تحت الدار، أو يبني داره ويترك منفذاً وطريقاً.
هذا الطريق اختلف العلماء فيه: فبعض العلماء يقول: لا يصح بيع المنافذ على هذا الوجه؛ لأنه ليس بمالك للأرض وإنما هو مالك لمنفعتها، فتكون الأرض عند شخص ومنفعة الأرض عند شخص آخر، وهذا لا يمكن، أي: أن هذه الأرض لا أستطيع أن أبنيها ولا أستطيع أن أنتفع بها من كل وجه، ولذلك بعض العلماء يمنع من مثل هذا البيع، ويعتبره من العقود غير الجائزة؛ لوجود الغرر فيه والغبن؛ لأنك قد تشتريه لمنفعة، وصحيح أن المنفعة موجودة، لكن لو أن الإنسان تأمل هذا البيع بضوابطه الشرعية، كأن يكون من اشترى الشيء من حقه أن يفعل فيه ما شاء كما لو شاء أن يهدمه، أو يحفر فيه، أو أن يحدث فيه مصلحة غير المصلحة التي اشتراها عليه، فإذا اشتريت أرضاً فالأصل أن من حقك أن تحرثها وتزرعها، ومن حقك أن تبنيها، ومن حقك أن تتركها مواتاً؛ لأنك ملكتها وملكت رقبتها، لكن لو اشتريتها على وجه منفعة المشي فقط، فلست بمالك لها من كل وجه ولست بخلوٍ من كل وجه، والمالك الحقيقي ليس بمالك من كل وجه وليس بخلوٍ من كل وجه، ولذلك يحدث فيها شيء من التعارض والتضاد على وجه يصعب معه التمييز، مع أن المشتري سيستفيد بالمرور في هذه الأرض، ولذلك يمنع بعض العلماء من مثل هذا البيع؛ لوجود الشبهة فيه، لكن المصنف قصد بيع المنافع على هذا الوجه.
فقوله: (منفعة مباحة) يخرج بها المنافع المحرمة، فلو -مثلاً- اشترى آلة محرمة كآلة لهوٍ محرم فإنه لا يصح البيع ولا ينعقد؛ لأنه يشترط في المنافع أن تكون مباحة، فكأن المنفعة التي حرّمها الشرع سلبها الشرع القيمة، فلما أصبحت محرمة صار وجودها وعدمها على حد سواء، فإذا دُفع الثمن لقاءها كأنه يدفع لشيء لا قيمة له، ومن هنا كان من أكل أموال الناس بالباطل، وكان من البيع الممتنع شرعاً.
والمنفعة المباحة تخرج غير الحاجة، ولذلك بعض العلماء يضيف قيداً، وهو قوله: (لغير الحاجة)؛ لأنها قد تكون مباحة لحاجة، ومع ذلك لا يجوز بيعها؛ لأن ما أبيح لحاجة يتقيد بها، فالكلب -أكرمكم الله- أبيح للصيد والحرث والماشية، فتصيد به وتجعله لحراسة الحرث ولحراسة الماشية، فإذا جاء شخص يبيع كلباً معلماً للصيد أو معلماً لحراسة الزراعة أو الماشية فإنه لا يصح البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه المنفعة مباحة للحاجة، فكأنه إذا باع الكلب انتفع منفعة زائدة على المنافع المأذون بها شرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرثٍ أو ماشية) فرخص في ثلاثة أشياء، فمن ملك الكلب لغير هذه الثلاثة الأشياء فإنه يأثم، فكأننا لو قلنا: يبيعه في هذه الأحوال كونه كلب صيد أو حرث أو ماشية، لأصبح هناك منفعة رابعة وهي اتخاذه للبيع والشراء، فيستفيد البائع له منفعة رابعة وهي منفعة الثمن، فصار محلاً للعقد، فتصبح منفعة زائدة على الرخصة، ولذلك لا يصح بيعه، وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: ثمن الكلب سحت)، وقال كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: (إن جاءك يريد ماله -أي: ثمن الكلب- فاملأ كفه تراباً) أي: ليس له شيء، فهذا يدل على أن المنفعة يشترط أن تكون لغير حاجة، فمنفعة الصيد مباحة، ومنفعة الحرث مباحة، ومنفعة حراسة الماشية مباحة، لكنها أبيحت لحاجة، فلا يجوز أن تبيعه لهذه المنفعة الزائدة عن الإذن الشرعي.
قال رحمه الله: [كممر في دار].
كما ذكرنا.
قال: [بمثل أحدهما على التأبيد].
(بمثل) هذا لقوله (مبادلة مال)، أي: تبادل المال، والباء هنا للبدلية والعوض، أي: عوضاً عن مثل.
والمثل المراد هنا من جهة المالية، أي: مبادلة مال بمال، ولذلك بعض العلماء يقول: البيع مبادلة مال بمال، ويختصر هذه العبارات كلها.
فقوله: (بمثل) المراد بذلك أن يكون مالاً، لنفس الشروط وهي: أن يكون فيما أذن به شرعاً، وألا تكون منفعته مباحة للضرورة والحاجة
‌‌التأبيد في البيع
قال رحمه الله: [على التأبيد غير رباً وقرض].
قوله: (على التأبيد)؛ لأن البيع ليس على التعقيب، فخرجت الإجارة؛ لأنها على التعقيب، فمثلاً: إذا جاءك رجل وقال: أجرني بيتك، فإنه يقول: شهراً أو سنة، ولا أحد يقول: أجرني بيتك مدى العمر؛ لأننا لا ندري كم العمر، ولا ندري كم المدة، بل منع بعض العلماء من إجارة البيوت -وسيأتي هذا إن شاء الله في باب الإجارة- والمساكن المدد الطويلة، التي لا يؤمن معها بقاء العين، ولا يؤمن معها تغير العين وتغير منافع العين؛ لأن هذا من الغرر، وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر -وفي رواية-: نهى عن الغرر) كما في الصحيح، فهذا من الغرر، فإذا أراد أن يبيع فإن البيع إلى الأبد، وبناءً على هذا: لو قال له: أبيعك هذه الدار عشر سنين، أو أبيعك هذه السيارة خمس سنوات، أو أبيعك هذه التجارة سنة؛ لم يصح، وليس هذا ببيع، ولا بجارٍ على عقود المسلمين في البيع؛ لأن البيع يكون إلى الأبد ولا يكون مؤقتاً.
وعلى هذا: فإنه لابد في البيع أن يكون على التأبيد، فلو قال قائل: نريد أن نحدث نوعاً من البيع، وهو أن نقول له: بعتك سيارتي أو بعتك داري عشر سنوات أو خمس سنوات، وحدد المدة، تقول: هذا ليس ببيع شرعي؛ لأن حقيقة البيع مبادلة المال بالمال على التأبيد وليس على التعقيب، وهذا ليس من البيع الشرعي، فلا يعتبر ولا يحكم بصحته
‌‌الفرق بين البيع والربا والقرض
قال رحمه الله: [غير رباً وقرض].
فقوله: (غير رباً)، الربا أصله الزيادة، وهو في الشرع: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة على صفة مخصوصة، ويشمل هذا زيادة ربا الفضل وزيادة النسيئة بالأجل، وسيأتي إن شاء الله بيانه وذكر ضوابطه.
فلو سكت المصنف وقال: مبادلة مال لشمل الربا؛ لأن الربا يكون مبادلة، فلو قال له: اصرف لي هذه العشرة ريالات بتسعة، فهو رباً؛ لأنه زاد، ولذلك نقول: هذا في الأصل مبادلة فيدخل في البيع، بادله التسعة بالعشرة، وأكل المال بالباطل وهو الريال الزائد، ولذلك لن تجد أحداً يصرف العشرة بتسعة إلا وهو مضطر، والله يقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والله لولا أنه محتاج لهذه التسعة لأجل ظرف نزل به ما صرف العشرة بالتسعة، وليس هناك عاقل حكيم يبذل العشرة مقابل التسعة؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون، فهو زيادة، وهذه الزيادة تؤخذ على غير وجهها، فلو لم تحرم من جهة الربا لحرمت من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الإنسان ليس فيه شرط الرضا، وقد قال الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فهو يعطي العشرة بشيء من الاضطرار والحاجة، فتجده يعطي وهو كاره، وإذا أعطى لا يرضى، ولو أنه ترك على رضاه واختياره ما بادل.
فالربا من حيث هو مبادلة المال بالمال، فيدخل في مسمى البيع من هذا الوجه، فلما دخل في مسمى البيع احتاج المصنف أن يخرجه فاستثناه بقوله: (غير رباً)، والحنفية استثنوه بالتراضي، فإن الربا غالباً لا يقع فيه التراضي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فوصف بيع الحلال بأنه عن تراضٍ، ولذلك تجد الإنسان يعطي السلعة ويأخذ الثمن، ويعطي الثمن ويأخذ السلعة بالرضا، وغالباً ما يقع الربا في بيوع الصرف، ولذلك احترز المصنف رحمه الله بقوله: (غير رباً).
وقوله: (وقرض) والقرض مبادلة، لكنها مبادلة على سبيل الرفق، وليس على وجه البيع؛ لأنه أخذه لا على سبيل المبادلة التي يراد بها البيع، وإنما المراد أن يرتفق بالمال لحاجته وما نزل به
‌‌الإيجاب والقبول في البيع
قال رحمه الله: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله متراخياً عنه في مجلسه].
قوله: (وينعقد بإيجاب).
فبعد أن عرفنا حقيقة البيع، نحتاج الآن أن نعرف كيف يتم عقد البيع في الشرع، أي: ما هي الضوابط التي يحكم عن طريقها بوجود عقد البيع؟ وهذا يستلزم -كما سبقت الإشارة إليه في المجلس الماضي- وجود الصيغة، فإن عقود المعاملات تقوم على الصيغ، وهذه الصيغ هي الإيجاب والقبول، فإن كان الإيجاب وارداً على بيع والقبول وارداً عليه يقال: (عقد بيع)، وإن كان على إجارة فإجارة، وإن كان على نكاح فنكاح إلخ، والإيجاب هو أن يقول -مثلاً-: بعتك، أجرتك، زوجتك، والقبول: هو أن يقول الآخر: قبلت النكاح، قبلت البيع، قبلت الإجارة إلخ، والإيجاب غالباً ما يكون من الباذل وهو البائع، والقبول يكون من المشتري، فقول: (بعتك سيارتي بعشرة) هذا إيجاب من البائع، وقول: (قبلتها، اشتريتها)، هذا قبول من المشتري، أو قول: (رضيت، بارك الله لك) ونحو ذلك من الصيغ التي يعبر بها عن قبول البيع، والإيجاب والقبول يكون على الصيغة، وهي التي عبّر المصنف عنها بقوله: (وينعقد بإيجاب وقبول)، فالعقد عند العلماء يشتمل على الإيجاب والقبول، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فكأن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده أن هذا الكلام الذي جرى في مجلس العقد من قوله: (بعتك، زوجتك، أجرتك)، هذه كلها كلمات رضيها المسلمون، وتواطئوا واتفقوا عليها، فينبغي أن تكون عند المسلم ذمة وأن يكون عنده عهد ويفي بهذه الصيغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا أهل الإيمان! يا من آمنتم بي وصدقتم برسلي وكتبي! (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فهو هنا عظم الصيغة وأعطى لها منزلة في الإسلام، فهذا الكلام ليس هدراً، يقول شخص لآخر: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما افترقا عن المجلس قال: ما بعتك.
فهذا لا ينفع أبداً، فالمسلم له ذمة وله عهد ومنه الوفاء، ولذلك يلزم بالصيغة التي جرت بينه وبين الطرف الآخر، وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي فأول ما يلتفت إليه في البيع الصيغة، وإذا أراد الإنسان أن يفصل بين متخاصمين في معاملة فليبدأ أول ما يبدأ بالعقد، وليبدأ أول ما يبدأ بالاتفاق الذي جرى بينهما، ويأخذ الاتفاق من أول حرف فيه إلى آخره، ثم بعد ذلك يلزم كلا الطرفين بما التزم به، لا يظِلم ولا يُظلم، ولا يحمل كلامه فوق ما يحتمل، قال له -مثلاً-: بعتك سيارتي، فيقول: أنا قصدت السيارة وما عليها، فهذا لا ينفع؛ لأنه قال: بعتك سيارتي، ولم يقل: سيارتي وما عليها، فهذه الصيغ هذه والألفاظ محترمة، ومن هنا أمر بكتابة البيع إذا كان إلى أجل حفظاً وضماناً لمثل هذا؛ لأنه إذا كانت تجارة حاضرة فأمرها أهون والخصومة فيها أضعف؛ لكنها إذا كانت إلى أجل فيدخلها شيء من النسيان، وشيء من الزيادة والنقص، فالشريعة تريد معرفة ما الذي جرى بينك وبين الطرف الآخر، وما الذي قلته وما الذي قاله، وما الذي تم عليه العقد، فإن قال البائع: بعتك داري، ينصب البيع على داره، وإن قال: بعتك أرضي، ينصب على الأرض إلخ.
قوله: (ينعقد بإيجاب وقبول) فإذا قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف فهذا إيجاب، وإذا قال المشتري: قبلت حينئذٍ يتم البيع بهذه الصيغة، وهي صيغة الإيجاب والقبول.
وعقد البيع إما أن يتم بالقول وإما أن يتم بالفعل، فإذا تم بالأقوال فهذه الصيغة -وهي: الإيجاب والقبول- تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تكون بصيغة الماضي.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]