
28-12-2022, 11:15 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,007
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (429)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 131 إلى صـ 138
وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، قال : قال أنس : كنت مع عمر [ ح ] ، وحدثنا شيبان بن فروخ ، واللفظ له : حدثنا سليمان بن المغيرة بن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال ، الحديث . وفيه : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول : " هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله " ، قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوا في بئر [ ص: 131 ] بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إليهم فقال : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا " ، قال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا " .
حدثنا هداب بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم ، فقام عليهم فناداهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا ، فألقوا في قليب بدر .
ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة ، التي ذكرناها عن البخاري ، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه ، وأنس ، وأبي طلحة رضي الله عنهم ، فيها التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم يذكر تخصيصا ، وقال مسلم رحمه الله في " صحيحه " أيضا : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، قال : قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " ، قال : " يأتيه ملكان فيعقدانه " الحديث ، وفيه تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بسماع الميت في قبره قرع النعال ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه ، كما ترى .
ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، ويحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، قال يحيى بن يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك ، وهو ابن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " ، ولم يقم قتيبة قوله : " وأتاكم ما توعدون " ، وفي رواية في صحيح مسلم عنها ، قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " قولي : السلام على أهل [ ص: 132 ] الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر : " السلام على أهل الديار " ، وفي رواية زهير : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، انتهى من " صحيح مسلم " .
وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور بقوله : " السلام عليكم " ، وقوله : " وإنا إن شاء الله بكم " ، ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء ، فمن البعيد جدا صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث عمرو بن العاص الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده .
وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى ، فاعلم أن الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وقوله : وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] لا تخالفها ، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها ، وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وأن استقراء القرآن يدل عليه .
وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية ، فقد قال في الجزء الرابع من " مجموع الفتاوي " من صحيفة خمس وتسعين ومائتين ، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين ، ما نصه : وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة ، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن خير أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي " ، قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه ، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء ، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسلام على الموتى ، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم [ ص: 133 ] أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم " . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ، ولكن لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت ، بل يجوز أن يكون في حال .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وقد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر ، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ؟ وقال : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، فذكر ذلك لعائشة فقالت : وهم ابن عمر ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق " ، ثم قرأت قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية .
وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر ، وإن كانا لم يشهدا بدرا ، فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة ، وأبو طلحة شهد بدرا كما روى أبو حاتم في صحيحه ، عن أنس ، عن أبي طلحة رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر ، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال ، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ، ثم مشى وتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفاء الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله [ ص: 134 ] حتى أسمعهم توبيخا ، وتصغيرا ، ونقمة ، وحسرة ، وتنديما ، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأولت .
والنص الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره ، وليس في القرآن ما ينفي ذلك ، فإن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار ، والكفار تسمع الصوت ، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [ 2 \ 171 ] ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به .
وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك ، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية . وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة لا يرد به النص الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه ليس في القرآن ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة .
وإذا علمت به أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور ، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح ، من غير معارض .
والحاصل أن تأول عائشة - رضي الله عنها - بعض آيات القرآن ، لا ترد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ويتأكد ، ذلك بثلاثة أمور :
الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل .
الثاني : أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، قالت : إن الذي قاله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، فأنكرت السماع ونفته عنهم ، وأثبتت لهم العلم ، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع ، كما نبه عليه بعضهم .
الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها ، إلى الروايات الصحيحة .
ب قال ابن حجر في " فتح الباري " : ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد ، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة ، وفيه : " ما أنتم بأسمع لما [ ص: 135 ] أقول منهم " ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن ، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة ; لكونها لم تشهد القصة ، انتهى منه . واحتمال رجوعها لما ذكر قوي ، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين .
قال ابن حجر : إن أحدهما جيد ، والآخر حسن . ثم قال ابن حجر : قال الإسماعيلي : كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ، ما لا مزيد عليه ، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه ، أو استحالته ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .
وقال ابن القيم في أول " كتاب الروح " : المسألة الأولى : وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا ؟ قال ابن عبد البر : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " ، فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ، ويرد عليه السلام .
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة : أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فقال له عمر : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ، فقال : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون جوابا " .
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور ، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميت يعرف زيارة الحي له ، ويستبشر له ، قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في " كتاب القبور " :
باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء .
حدثنا محمد بن عون ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن عبد الله بن سمعان ، عن زيد بن أسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه ، حتى يقوم " .
حدثنا محمد بن قدامة الجوهري ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، أخبرنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة [ ص: 136 ] - رضي الله تعالى عنه - قال : إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه ، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام .
وذكر ابن القيم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارا تقتضي سماع الموتى ، ومعرفتهم لمن يزورهم ، وذكر في ذلك مرائي كثيرا جدا ، ثم قال : وهذه المرائي ، وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك ، فهي على كثرتها ، وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر " ، يعني ليلة القدر ، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء ، كان كتواطؤ روايتهم له ، ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور ، وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه ، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياق الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار . . الحديث ، وفيه : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ، ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي ، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم ، ا هـ .
ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع ، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه .
ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور : ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا ، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره ، لم يصح أن يقال : زاره ، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم ، وكذلك السلام عليهم أيضا ، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ، ويخاطب ، ويعقل ، ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد .
ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل قوله : وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي على هذا ، فقال : ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ، ثم قال : ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من [ ص: 137 ] رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه ، إلا عرفه ورد عليه السلام " .
ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعا ، قال : " فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام " ، قال : ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده ، إلا استأنس به حتى يقوم " ، واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " .
ثم ذكر ابن القيم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارا في الموضوع ، ثم قال في كلامه الطويل : ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن ، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة ، وكان عبثا . وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله ، فاستحسنه واحتج عليه بالعمل .
ويروى فيه حديث ضعيف : ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب ، فليقم أحدكم على رأس قبره ، فيقول : يا فلان بن فلانة " ، الحديث . وفيه : " اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنك رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما " ، الحديث . ثم قال ابن القيم : فهذا الحديث وإن لم يثبت ، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به ، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وهي أكمل الأمم عقولا ، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر ، ويقتدي فيه الآخر بالأول ، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب ، والخشب والحجر والمعدوم ، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه .
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة رجل ، فلما دفن قال : " سلوا لأخيكم التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، فأخبر أنه يسأل حينئذ ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين .
ثم ذكر ابن القيم قصة الصعب بن جثامة ، وعوف بن مالك ، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته ، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته ، لما [ ص: 138 ] علم صحة ذلك بالقرائن ، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينا له عليه ، ومات قبل قضائها .
قال ابن القيم : وهذا من فقه عوف بن مالك رضي الله عنه ، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته ، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها ، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن ، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر ، فأعطى اليهودي الدنانير ، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم ، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ، ويقول : كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة ، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام .
ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه بعد موته ، وفي وصيته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام ، وعتق بعض رقيقه ، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها ، فوجدوا الأمر كما قال ، وقصته مشهورة .
وإذا كانت وصية الميت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك يدل على أنه يدرك ويعقل ويسمع ، ثم قال ابن القيم في خاتمة كلامه الطويل : والمقصود جواب السائل وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها ، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعاؤه له أولى وأحرى ، ا هـ .
فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلا ، فيه من الأدلة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات ، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية ، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة ، وآثار كثيرة ، ومرائي متواترة وغير ذلك ، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيم من تلقين الميت بعد الدفن ، أنكره بعض أهل العلم ، وقال : إنه بدعة ، وأنه لا دليل عليه ، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلا أهل الشام ، وقد رأيت ابن القيم استدل له بأدلة ، منها : أن الإمام أحمد رحمه الله سئل عنه فاستحسنه . واحتج عليه بالعمل . ومنها : أن عمل المسلمين اتصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|