عرض مشاركة واحدة
  #427  
قديم 28-12-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (425)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 99 إلى صـ 106


[ ص: 99 ] قوله تعالى : فيقولوا هل نحن منظرون .

لفظة : هل هنا يراد بها التمني ، والآية تدل على أنهم تمنوا التأخير والإنظار ، أي : الإمهال ، وقد دلت آيات أخر على طلبهم ذلك صريحا ، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا ; كقوله تعالى : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 40 ] وقوله تعالى : وما كانوا إذا منظرين [ 44 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] وذكرنا طرفا منه في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 50 - 51 ] .
قوله تعالى : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون .

قد قدمنا إيضاحه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر [ 2 \ 96 ] .
قوله تعالى : وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : ذكرى وما كنا ظالمين . قد قدمنا الآيات الدالة عليه ; كقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] [ ص: 100 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ذكرى ، أعربه بعضهم مرفوعا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه ذكرى ، وأعربه بعضهم منصوبا ، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه : منها أنه ما ناب عن المطلق ، من قوله : منذرون ، لأن أنذر وذكر متقاربان .

ومنها أنه مفعول من أجله ، أي : منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة .

ومنها أنها حال من الضمير في منذرون ، أي : ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة .
قوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] .
قوله تعالى : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . قد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] بالدليل القرآني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بمثل هذا الخطاب ، والمراد التشريع لأمته مع بعض الشواهد العربية ، وقوله هنا : فلا تدع مع الله إلها آخر الآية ، جاء معناه في آيات كثيرة ; كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] وقوله تعالى : ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] وقوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين . هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين ، لا ينافي الأمر بالإنذار العام ، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وقوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
[ ص: 101 ] قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] وفي " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] وقد وعدنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] بأنا نوضح معنى خفض الجناح ، وإضافته إلى الذل في سورة " الشعراء " ، في هذا الموضع ، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد ، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة : " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فقد قلنا فيها ، ما نصه : والجواب عن قوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل [ 17 \ 24 ] أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته ; لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه . قال تعالى : واضمم إليك جناحك من الرهب [ 28 \ 32 ] والخفض مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي هو ضد الرفع ; لأن مريد البطش يرفع جناحيه ، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه ، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما ، والتواضع لهما ; كما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب أسلوب معروف ، ومنه قول الشاعر :

وأنت الشهير بخفض الجنا ح فلا تك في رفعه أجدلا


وأما إضافة الجناح إلى الذل ، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير ; لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك : حاتم الجود .

فيكون المعنى : واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة ، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر ، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال :
لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي


جاءه رجل فقال له : صب لي في هذا الإناء شيئا من ماء الملام ، فقال له : إن أتيتني [ ص: 102 ] بريشة من جناح الذل صببت لك شيئا من ماء الملام ، فلا حجة فيه ; لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحا ، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما ، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود ، ونظيره في القرآن الإضافة في قوله : مطر السوء [ 25 \ 40 ] و عذاب الهون [ 6 \ 93 ] أي : مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه ، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه ، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح ، أن خفض الجناح كني به عن ذل الإنسان ، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما ، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ 88 \ 2 - 3 ] وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، وفي كلام العرب . وهذا هو الظاهر في معنى الآية ، ويدل عليه كلام السلف من المفسرين .

وقال ابن القيم في " الصواعق " : إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحا معنويا يناسبه لا جناح ريش ، والله تعالى أعلم ، انتهى . وفيه إيضاح معنى خفض الجناح .

والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته ; كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى . وقال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير قوله تعالى : لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن قلت : المتبعون للرسول هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول ، فما قوله : لمن اتبعك من المؤمنين .

قلت : فيه وجهان ، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين ، لمشارفتهم ذلك . وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم ، وهم صنفان : صنف صدق واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب ، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق ، لا يخفض لهما الجناح .

والمعنى : المؤمنين من عشيرتك وغيرهم ، أي : أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك ، فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره ، انتهى منه .

[ ص: 103 ] والأظهر عندي في قوله : لمن اتبعك من المؤمنين ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرآن العظيم ; كقوله : يقولون بأفواههم الآية [ 3 \ 167 ] ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم . وقوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم ، وقوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] وقوله تعالى : حسدا من عند أنفسهم [ 2 \ 109 ] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحته ، وذكرنا أمثلة متعددة لذلك في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله هنا : وتقلبك في الساجدين ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى : وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين ، أي : المؤمنين بالله كآدم ونوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل .

واستدل بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه ، بقوله تعالى عن إبراهيم : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] وممن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي ، وفي الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول ، وهي قوله تعالى قبله مقترنا به : الذي يراك حين تقوم ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعا ، وأول الآية مرتبط بآخرها ، أي : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، وحين تقوم من فراشك ومجلسك ، ويرى وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين ، على أظهر الأقوال ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - يتقلب في المصلين قائما ، وساجدا وراكعا ، وقال بعضهم : الذي يراك حين تقوم ، أي : إلى الصلاة وحدك ، و وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين إذا صليت بالناس .

وقوله هنا : الذي يراك حين تقوم الآية ، يدل على الاعتناء به - صلى الله عليه وسلم - ، ويوضح ذلك قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا الآية [ 52 \ 48 ] .

[ ص: 104 ] وقوله : وتوكل قرأه عامة السبع غير نافع وابن عامر : وتوكل بالواو ، وقرأه نافع وابن عامر : فتوكل بالفاء ، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء ، وقوله هنا : وتوكل على العزيز الرحيم ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفاتحة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] وبسطنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع بيان معنى التوكل في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] .
قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون . الشعراء : جمع شاعر ، كجاهل وجهلاء ، وعالم وعلماء . و يتبعهم الغاوون : جمع غاو وهو الضال ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يتبعهم الغاوون يدل على أن اتباع الشعراء من اتباع الشيطان ، بدليل قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقرأ هذا الحرف نافع وحده : يتبعهم بسكون التاء المثناة ، وفتح الباء الموحدة ، وقرأه الباقون يتبعهم بتشديد المثناة ، وكسر الموحدة ، ومعناهما واحد .

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ، في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون ، يدل على تكذيب الكفار في دعواهم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ; لأن الذين يتبعهم الغاوون ، لا يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم .

ويوضح هذا المعنى ما جاء من الآيات ، مبينا أنهم ادعوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أنه شاعر وتكذيب الله لهم في ذلك ، أما دعواهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر ، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر الآية [ 21 \ 5 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [ 37 \ 36 ] وقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] . وأما تكذيب الله لهم في ذلك ، فقد ذكره في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون الآية [ 69 \ 41 ] وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين [ 36 \ 96 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ 37 \ 36 - 37 ] ; لأن [ ص: 105 ] قوله تعالى : بل جاء بالحق الآية ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون .مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال : " لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا " ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله في الحديث : " يريه " بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء ، مضارع ورى القيح جوفه ، يريه ، وريا إذا أكله وأفسده ، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد .

واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .

ومن الأدلة القرآنية على ذلك أنه تعالى لما ذم الشعراء ، بقوله : يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ 26 \ 224 - 226 ] استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، في قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية [ 26 \ 227 ] .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر ، محمول على من أقبل على الشعر ، واشتغل به عن الذكر ، وتلاوة القرآن ، وطاعة الله تعالى ، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب ، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات ، ونحو ذلك .المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدا ، هل يقام عليه الحد ؟ على قولين : أحدهما : أنه يقام عليه لأنه أقر به ، والإقرار تثبت به الحدود .

والثاني : أنه لا يحد بإقراره في الشعر ; لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد ، واقع لا نزاع فيه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي : أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد ، لا يقام عليه الحد ; لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد ، [ ص: 106 ] ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحد به ، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : وقد ذكر عن محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في " الطبقات " ، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة ، وكان يقول الشعر ، فقال :
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه
تنادمنا بالجوسق المتهدم


فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : إي والله إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير [ 40 \ 1 - 3 ] أما بعد : فقد بلغني قولك :
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم


وايم الله إنه ليسوءني ، وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط ، وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني ، فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا ، وقد قلت ما قلت ، فلم يذكر أنه حده على الشراب ، وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به ، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير ، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا .

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمان بن عبد الملك ، لما سمع قول الفرزدق :
فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]