عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 15-12-2022, 04:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون

التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون (2/2)
الدكتور/ سلمان بن صالح الدخيل


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أمابعد: فهذه تتمة للبحث السابق
المبحث الثالث: الضرر الحقيقي الفعلي الناتج عن المماطلة في الديون .

المطلب الأول: صورة الضرر الحقيقي الفعلي الناتج عن المماطلة في الديون .
إذا تأخر المدين في وفاء الدَّين عن الوقت المحدد المتفق عليه مع الدائن، ومضت مدة طالب الدائن فيها المدين بالوفاء فماطل فيه، ثم ترتب على الدائن ضرر مالي فعلي حقيقي: إما بفوات ربح محقق لماله المماطَل فيه، أو حصول ضرر مالي عليه كغرامات مالية سببها شروط جزائية مقابل إخلاله بتنفيذ التزامات عقدها الدائن مع أفراد أو مؤسسات ونحوها، أو بسبب بذله أموالاً لتحصيل ماله من المماطل، أو بسبب نقص سعر النقد ، فهل يستحق الدائن أن يعوض عن هذه الأضرار الحقيقية أم لا يستحق ؟
ومن أمثلة الضرر الحقيقي الفعلي ما يلي:
1- مماطل امتنع عن دفع المال لصاحبه، وقام بالتجارة فيه، فربح المماطل منه مالاً كثيراً، فهل هذا الربح الحقيقي الواقعي للمماطل أو لصاحب المال ؟
2- دائن اعتمد في عقوده مع عملائه على أن المدينين سيوفونه في الأجل المتفق عليه، وارتبط بناء على ذلك على إنجاز تلك العقود بأوقات محددة، وتحمل شروطاً جزائية في حال تأخره في إنجازها، فماطل المدينون في الوفاء، ولم يستطيع الوفاء بالتزامه لأجل مماطلة مدينيه ، فلحق به خسائر مادية بمقتضى الشروط الجزائية ، فهل يستحق صاحب الدَّين على المماطلين تعويضاً مقابل هذا الضرر الحقيقي الفعلي أم لا ؟ (1).
3- دائن له مال عند مدينين مماطلين ، وهو مدين لغيره بديون أقل مقداراً من ماله لدى الناس ولم يستطع السداد ، فحُكِم عليه بالإفلاس بسبب ديونه الحالة ، وبِيْع عليه ماله الموجود جبراً لسداد دينه، وتضرر من ذلك ، فهل يستحق تعويضاً عن أضرار النقص الحاصل بسبب البيع أم لا ؟ (2).
4- دائن ماطله مدينوه فطالبهم وامتنعوا من الوفاء ، فخسر لأجل متابعتهم ومخاصمتهم وتحصيل حقه منهم أموالاً ، فهل له أن يُعَوَّض عن ضرر فوات هذه الأموال أم لا ؟
5- مدين ماطَل دائنه بملبغ مئة ألف دينار لمدة عشر سنين ، فنقصت قيمة الدنانير في مدة المماطلة، فهل يضمن نقص السعر أم لا ؟
ومن خلال الأمثلة السابقة يمكن أن تقسم هذه الأضرار الحقيقة الفعلية إلى قسمين :
القسم الأول: ضرر يلحق الدائن بسبب فعل المماطل نفسه ، كخسارة المال للمخاصمة والمرافعة ودفع أجور المحصلين ونحو ذلك.
القسم الثاني : ضرر يلحق الدائن بسبب خارج عن المماطل، كفوات ربح محقق أو خسارة مالية تلحق بالدائن لأجل عقود فيها شروط جزائية لم يستطع تنفيذها، أو يكون الضررُ ضرراً عاماً كنقص السعر ونحوه.

المطلب الثاني: حكم التعويض عن الضرر الحقيقي الفعلي الناتج عن المماطلة في الديون .
حكم التعويض عن الضرر الحقيقي الفعلي الناتج عن المماطلة في الديون يختلف باختلاف التقسيم السابق ، وعليه فيمكن بيان حكم التعويض المالي من خلال فرعين هما:
الفرع الأول: التعويض عن الضرر المادي الحقيقي الواقع بسبب تعدٍ من المدين المماطل .
وذلك مثل نفقات الشكاية، والمطالبة، والمحاماة، وأجور التحصيل، والتعقيب، التي يتكبدها الدائن لأجل حصوله على ماله من مدينه المماطل، فهذه الأضرار المادية يستحق التعويض عنها إذا كان غرم الدائن لها على القدر المعتاد والوجه المعروف لا وكس ولا شطط ، وقد نص العلماء على هذا الحكم في المماطل ، ومن أقوالهم :
قال ابن تيمية : " وإذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء ، ومطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية ، فما غرمه بسبب ذلك، فهو على الظالم المبطل ، إذا كان غرمه على الوجه المعتاد " (3).
وقال ابن فرحون : "إذا تبين أن المطلوب ألدَّ بالمدعي ، ودعاه الطالب إلى الارتفاع إلى القاضي فأبى، فيكون على المطلوب أجرة الرسول إليه، ولا يكون على الطالب من ذلك بشيء " (4).
وقال في كشاف القناع : "وإن غرم إنسان بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، فله تغريم الكاذب لتسببه في ظلمه ، وله الرجوع على الآخذ منه لأنه المباشر ، ولم يزل مشايخنا يفتون به، كما يعلم مما تقدم في الحجر فيما غرمه رب الدَّين بمطل المدين ونحوه؛ لأنه بسببه" (5).

وقال في شرح المنتهى : "وما غرم رب دين بسببه، أي بسبب مطل مدين أحوج رب الدَّين إلى شكواه، فعلى مماطل لتسببه في غرمه ، أشبه ما لو تعدى – أي بالغصب – على مال لحمله أجرة ، وحمله إلى بلد آخر وغاب، ثم غَرِمَ مالكُهُ أجرةً لعوده إلى محله الأول، فإنه يرجع به على من تعدى بنقله " (6).
وهكذا فإن العلماء يلزمون كل ظالم معتدٍ ممن يباشر إتلاف مال غيره، أو يتسبب فيه بضمان المتلف، وقد نصوا على ذلك في مواضع في الغصب وغيره ، ومن نصوصهم ما يلي:
قال في بدائع الصنائع :" ومؤنة الرد على الغاصب؛ لأنـها من ضرورات الرد ، فإذا وجب عليه الرد ، وجب عليه ما هو من ضروراته" (7).
وقال في مغني المحتاج : " وعلى الغاصب الرد للمغصوب على الفور عند التمكن، وإن عظمت المؤونة في رده " (8).
وقال في المقنع : " ويلزم رد المغصوب إن قَدِرَ على رده ، وإن غرم أضعاف قيمته" (9).
وقال في الشرح الكبير: "وجمله ذلك: أن المغصوب متى كان باقياً وجب رده، لقوله_صلى الله عليه وسلم_ :" على اليد ما أخذت حتى تؤديه "(10)، فإن غصب شيئاً فبَعَّدَه لزم رده ، وإن غرم عليه أضعاف قيمته ؛ لأنه جنى بتبعيده، فكان ضرر ذلك عليه" (11).
وجاء في المنتهى مع شرحه: " وعلى غاصب رد مغصوب قدر عليه، ولو بأضعاف قيمته"(12).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم : " وذلك أن العلماء نصوا على أن كل من غرم غرامة بسبب عدوان شخص آخر عليه أن ذلك الشخص هو الذي يتحمل تلك الغرامة " (13).
ومما سبق يتبين أن العلماء يرون تضمين المعتدي - وهو المدين المماطل- المتسبب في الضرر الحقيقي الذي يلحق بالدائن لما يلي:
1) أن إلجاء الدائن للمخاصمة، وتغريمه المال لأجل تحصيل حقه ظلم وضرر تجب إزالته، والضرر هنا لا يمكن إزالته إلا بتعويض الدائن ما خسره من نفقات التقاضي والتحصيل(14).
2) أن هذه الأموال المبذولة لتحصيل الحق والمطالبة به واقعة بسبب امتناع المماطل من السداد، فيضمنها لتسببه فيها، كما لو أتلفها (15).
3) أن عدم إلزام المدين المماطل بالتعويض عن أضرار التقاضي والترافع يجرئ المماطلين على المماطلة، وأكل أموال الناس بالباطل ، ويحمل أصحاب الأموال إلى رفع الدعاوى للمطالبة بـها، فتكثر الخصومات، ويُشْغَل القضاة، وتُتْعَب جهات التنفيذ بغير حق، ويتأخر وفاء الدَّين المدد الطويلة، فتصبح المماطلة مركبة من مماطلة المدين الأول، ومماطلة إجراءات التقاضي والمرافعة، إذ يلزم من الترافع التأخر لأجل النظر في الدعوى، ثم سماع البينة، ثم إثباتـها، ثم الحكم بناء عليها، ومن ثَمَّ يُطْلَب تمييزها، وبعد تمييزها، تذهب لجهات التنفيذ الأخرى ، وهذا الأعمال الطويلة إن قام بـها الدائن بنفسه لحقته مشقة بالغة ، وإن وكَّل بـها من يقوم بالمرافعة والمطالبة غرم له أجرة، والعدل أن لا يجتمع على الدائن ظلمان ، ظلم تأخير حقه ، وظلم غرامة ما بذله لأجل تحصيل حقه الثابت له، فتعين تحميل المماطل الظالم نفقات المطالبة وتحصيل المال .
4) أن عدم تحميل المدين نفقات الدعوى قد يحمل أصحاب الحقوق على ترك حقوقهم، وعدم المطالبة بـها، إذ تُكَلِّف نفقات التقاضي أحياناً أكثر من ماله الذي يطالب به(16).
ولا أظن أن أحداً من العلماء يخالف في مضمون هذا القول ، وقد صدر ما يوافقه في معيار المدين المماطل المعتمد من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية ، ونصه: " يتحمل المدين المماطل مصروفات الدعوى وغيرها من المصروفات التي غرمها الدائن من أجل تحصيل أصل دينه " (17).

الفرع الثاني: التعويض عن الضرر المادي الحقيقي الواقع بسبب خارجٍ عن المدين المماطل.
هذا القسم – في نظري- ينسحب فيه الخلاف السابق المذكور في مسألة ضرر فوات الربح المفترض ، بيد أن هذه المسألة أضيق من تلك المسألة ، إذ القائلون بالتعويض في هذه المسألة يقصرون التعويض على فوات الربح المحقق، أو حصول الضرر الحقيقي، ويمنعون التعويض عن الربح المفترض، ولذا فقد اختار بعض العلماء القول بتعويض الدائن عن الضرر المحقق فقط دون الضرر المفترض ، وبعض العلماء أطلق القول بمنع تعويض الدائن عن ضرر المماطلة مطلقاً ، وعليه فسأذكر _إن شاء الله_ في هذه المسألة من منع التعويض عن الضرر الفعلي نصاً، أو أجازه كذلك ، فيقال :

اختلف العلماء المعاصرون في حكم تعويض الدائن عن ضرره الحقيقي كفوات الربح المحقق، أو حصول ضرر مادي بسبب خارج عن المدين المماطل على قولين:
القول الأول :
عدم جواز إلزام المدين المماطل بدفع تعويض للدائن عن فوات ربحه المحقق أو حصول ضرر مادي عليه إذا كان بسبب خارج عن المدين المماطل .
وقال به بعض المعاصرين (18).
والمنع من التعويض هنا داخل في عموم قرارات المجامع الفقهية المانعة للتعويض مطلقاً ، وهي:
- ما جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشر عام 1409هـ ونصه: "إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما فهو شرط أو فرض باطل ، ولا يجب الوفاء به، بل ولا يحل ، سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره؛ لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه " (19).

- وما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السادسة المتعلق ببيع التقسيط، ونصه:
" ثالثاً: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدَّين ، بشرط سابق أو بدون شرط ؛ لأن ذلك ربا محرم .
رابعاً: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء" (20).
- وما جاء في معيار المدين المماطل المعتمد من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، ما يلي : "(ب) لا يجوز اشتراط التعويض المالي ...سواء كان التعويض عن الكسب الفائت (الفرصة الضائعة)، أم عن تغير قيمة العملة . (ج) لا تجوز المطالبة القضائية للمدين المماطل بالتعويض المالي نقداً أو عيناً عن تأخير الدَّين" (21).

القول الثاني :
جواز إلزام المدين المماطل بدفع تعويض للدائن عن فوات ربحه المحقق أو حصول ضرر مادي عليه إذا كان بسبب خارج عن المدين المماطل .

وقال به بعض المعاصرين (22).
قال الدكتور الصِّدِّيق الضرير في جواب عن استفتاء وجه إليه من أحد البنوك : "يجوز أن يتفق البنك مع العميل المدين على أن يدفع له تعويضاً عن الضرر الذي يصيبه بسبب تأخره عن الوفاء، شريطة: أن يكون الضرر الذي أصاب البنك ضرراً مادياً وفعلياً ، وأن يكون العميل موسراً ومماطلاً ، وخير وسيلة لتقدير هذا التعويض، هو أن يحسب على أساس الربح الفعلي الذي حققه البنك – الدائن- في المدة التي تأخر فيها المدين عن الوفاء"(23).
أدلة القولين :
هي نفس أدلة القولين في المسألة السابقة في حكم تعويض الدائن عن فوات الربح المفترض، مع توجيه أن الضررَ فعليٌ حقيقيٌ، وليس ضرراً محتملاً أو ربحاً مفترضاً، ويَرِدُ عليهما من المناقشة والتوجيه ما سبق ذكره في تلك المسألة

الترجيح :
الراجح _والله أعلم_ هو القول الأول ، وهو عدم جواز إلزام المدين المماطل بدفع تعويض للدائن عن فوات ربحه المحقق، أو حصول ضرر مادي عليه، إذا كان بسبب خارج عن المدين المماطل، وذلك لما يلي :
أولاً: قوة أدلة القول الأول، وعدم صمود أدلة القول الثاني أمام المناقشة الواردة عليها.
ثانياً: أن التعويض هنا زيادة في مقابل تـأخر الأجل، فيكون رباً محرماً، فيمنع منه، ولو كان المماطل ظالماً .
ثالثاً: أن ظلم المماطلة في الديون منفك عن الضرر الحقيقي الواقع على الدائن؛ إذ لم يكن بسبب منه.
رابعاً: أن تحميل المماطل فوق ما تحتمله ذمته ظلم له ، وهي أضرار لم يتسبب بـها ، فكيف يلزم بضمانـها ، وقد نص العلماء أن المماطل يضمن ما تسبب به من أضرار مالية تلحق بالدائن ، كأجور الشكوى، وتحصيل الدَّين ، إذ هذه أضرار حاصلة بسبب ظلم المدين المماطل دون الأضرار الخارجة عنه ، والتي قد تحصل لأي إنسان ماطله مدينوه أم لم يماطلوه، بل قد لا يكون دائناً لأحد .
ويمكن إرجاع سبب الخلاف في مسألة التعويض -والله أعلم- إلى ثلاثة أمور، وهي ما يلي:

الأمر الأول: هل الزيادة المفروضة على المدين المماطل ، زيادة ربوية أم لا ؟.
الأمر الثاني : هل المدين المتأخر عن الوفاء ظلماً - وهو المماطل- أشبه بالدائن المتأخر عن الوفاء بعذر وهو المعسر، أو من لا يجد مالاً حاضراً يفي بدينه ، أم شَبَهُهُ بالغاصب أقرب؟
الأمر الثالث: حكم أرباح النقود والأموال المماطَل فيها ؟

فأما الأمر الأول : فمن رأى أن الزيادة المفروضة على المدين في مقابل التأخير ربا، فقد منع التعويض مطلقاً ، ولو لحق الدائن ضرر؛ إذ إن هذه الأضرار قد تلحق المرء ولو لم يكن دائناً، وليس هناك تسبب من المماطل بحصولها ، والدائن قد دخل مع المدين على ألا يعطيه إلا حقه ، والمطل لا يوجب زيادة في الدَّين ، وظلمه له يستحق عليه التعويض في الآخرة ، والعقوبة الزاجرة في الدنيا .
و أما من منع أن تكون الزيادة المفروضة على المدين في مقابل التأخير ربا، فقد أجاز التعويض؛ لأنـها عوض عن ضرر واقع .
ولا شك – في نظري- أن هذه الزيادة هي صورة من صور الربا الجاهلي ، وما كان الربا والزيادة التي يأخذها المرابون في الجاهلية إلا تعويضاً عن ضرر بقاء المال عند المدينين وتأخر هذا المال عنهم تلك الفترة .

قال الدكتور عبد الله بن بيه بعد ذكره الأدلة والنقول : " يتبين أن إلزام المدين بتعويض للدائن إذا مطله بدينه لا يجوز ، وأنه من الربا الذي لا يختلف العلماء في منعه" (24).

وأما الأمر الثاني : فإن من ألحق المدين المماطل بغيره من المدينين، وهو المدين المعسر أو المليء الذي غاب ماله، فقد منع فرض غرامة مالية أو تعويض عليه، إذ لا يجوز فرض الزيادة على المعسر بالإجماع كما سبق (25)، وهذا الإلحاق هو الراجح ، والله أعلم .
وأما من ألحق المدين المماطل بالغاصب فحكموا أن المماطل غاصب للمال منذ حلول أجل الدَّين وامتناعه عن الوفاء بعد المطالبة بلا عذر .

وأما الأمر الثالث: وهو أرباح النقود والدراهم المماطل فيها، فقد تكلم الفقهاء في الأموال المغصوبة، هل هي للمالك المغصوب منه أم للغاصب، وعلى هذا فتُخَرَّجُ مسألة ربح المدين المماطل بالدراهم ونحوها على مسألة ربح الغاصب من الأثمان المغصوبة.
وحكم المسألة لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يتجر بـها الغاصب فيربح .
الحالة الثانية : أن لا يتجر بـها الغاصب .

الحالة الأولى : أن يتجر بـها الغاصب فيربح .
اختلف العلماء فيمن يستحق ربح المال المغصوب على خمسة أقوال :
القول الأول :
ربح الدراهم المغصوبة للغاصب.
وهو مذهب الحنفية (26)، والراجح عند المالكية(27)، وأظهر القولين عند الشافعية (28)، واحتمال عند الحنابلة (29).

القول الثاني :
ربح الدراهم المغصوبة للمالك .
وهو قول للشافعية يقابل الأظهر(30)، ومذهب الحنابلة (31).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: " فإن اتجر بالدراهم فالربح لمالكها ، هذا هو المذهب، وهو من مفرداته" (32).

القول الثالث :
أنه يُتَصَدَّق بربح الدراهم المغصوبة.
وهو قول لبعض المالكية، ورواية عن أحمد، وقال به من جعل الربح للغاصب، وهم بعض أصحاب القول الأول، إذ نصوا على أنـها لا تطيب له، وعليه أن يتصدق بـها:
قال في مجمع الضمانات:" لو ربح بدراهم مغصوبة كان الربح له، ويتصدق به، ولو دفع الغلة إلى المالك حل له تناولها "(33).
وجاء في الرسالة :" ولا يطيب لغاصب المال رِبْحُهُ حتى يرد رأس المال على رَبِّه ، ولو تصدق بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك " (34).
وقال في المغني : " وعن أحمد : أنه يتصدق به " (35).

القول الرابع :
يقسم ربح الدراهم المغصوبة بين الغاصب والمالك مناصفة كالمضاربة .
وقال به ابن تيمية.
قال _رحمه الله_ : " إن كان جميع ما بيده أخذه من الناس بغير حق : ...مثل أن يغصب مال قوم بافتراء يفتريه عليهم... فهذه الأموال مستحقة لأصحابـها، ومن اكتسب بـهذه الأموال بتجارة ونحوها ، فقيل : الربح لأرباب الأموال ، وقيل: له إذا اشترى في ذمته ، وقيل: بل يتصدقان به ؛ لأنه ربح خبيث ، وقيل : بل يقسم الربح بينه وبين أرباب الأموال كالمضاربة ، كما فعل عمر بن الخطاب في المال الذي أقرضه أبوموسى الأشعري لابنيه دون العسكر ، وهذا أعدل الأقوال " (36).

القول الخامس :
أن الغاصب إن كان موسراً فالربح له، وإن كان معسراً فالربح للمالك صاحب المال.
وهو قول لبعض المالكية (37).

أدلة الأقوال :
دليل القول الأول:
استدل من قال بأن الربح للغاصب:
قالوا: إن الخراج بالضمان والغنم بالغرم، والغاصب ضامن لما غصب، فيكون ربح الدراهم له مقابل ضمانه لها، سواء أنفقها أم اتجر بـها (38).
المناقشة:
نوقش بأن هذا ليس على إطلاقه؛ وذلك لأن العين المغصوبة إذا لم تتغير ردها وبرئ من ضمانها، والعين لا تضمن إلا إذا هلكت أو تغيرت، و إلا فلا (39).

دليل القول الثاني :
استدل من قال بأن الربح لمالك الأثمان (المغصوب منه) :
قالوا: إن الربح نماء ملك صاحب الدراهم، فيستحقها دون الغاصب؛ لأنه ظالم بغصبه فيهدر عمله .
المناقشة:
يناقش بما يلي:
أولاً: نسلم أن الغاصب ظالم بغصب العين، وذلك يقتضي ضمان ما غصب بلا زيادة؛ لعموم قوله_صلى الله عليه وسلم_" على اليد ما أخذت حتى تؤديه " (40).
ثانياً : أرباح المال حاصل بالمال المغصوب وبجهد الغاصب المبذول فلا يحرم منها مطلقاً ولا يفوز بـها مطلقاً ، بل يشتركان في ربح المال كالمضاربة .

دليل القول الثالث:
استدل من قال بأن الربح يتصدق به بما يلي:
قالوا: هذا الربح كسب خبيث؛ إذ هو ربح مال مغصوب فلا يطيب للغاصب، وإذا لم يطب له لزمه التخلص منه، وذلك بالصدقة به.
المناقشة:
يناقش بأن الصدقة تُفَوِّت الربح عليهما جميعاً ، وأثر الغصب إنما هو في ضمان العين لصاحبها إن وجدت، أو مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن لم تكن مثلية ، والعدل في الربح أن يشترك فيه صاحب المال وصاحب العمل .

دليل القول الرابع:
استدل من قال بأن الربح بينهما مناصفة بما يلي:
ما جاء عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : "خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق ، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرَّحب بـهما وسهَّل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ، ثم قال: بلى ها هنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه ، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ، ثم تبيعانه بالمدينة ، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك ففعل ، وكتب إلى عمر بن الخطاب، أن يأخذ منهما المال ، فلما قدما باعا فأُربِحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر ، قال أكلُّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا : لا ، فقال عمر بن الخطاب : ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه ، فأما عبد الله فسكت ، وأما عبيد الله ، فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا ، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه ، فقال عمر: أدياه ، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله ، فقال رجل من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ، فقال عمر : قد جعلته قراضاً ، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه ، وأخذ عبد الله و عبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال"(41).

وجه الدلالة من الأثر:
أن عمر أعطاهما نصف الربح ، وأخذ لبيت المال رأس المال ونصف الربح الآخر، مع أنـهما قد ضمنا المال، فلم يجعل لهما الربح كله مقابل الضمان ، ولم يسلبهما الربح كله نظير اختصاصهما بمال المسلمين دون بقية الجيش، بل جعله بينهما كالمضاربة، وهو مقتضى العدل، فكذا في أرباح المال المماطل فيه، يضمن الغاصب رأس المال، والربح بينهما مناصفة، للمالك نصفٌ مقابل ماله، وللغاصب نصفٌ مقابل جهده المبذول.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.49 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]