عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 25-11-2022, 05:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (404)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 491 إلى صـ 498



قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ ص: 491 ] إلى قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 20 - 23 ] .
قوله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق المراد بالدين هنا الجزاء ، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم ; لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى : ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 41 ] ، وقوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] وقوله ، توفى كل نفس ما كسبت [ 3 \ 161 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : " دينهم " ، أي : جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف ، وقال الزمخشري : دينهم الحق ، أي : جزاءهم الواجب الذي هم أهله ، والأول أصح ; لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام ، وعدل كامل ، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم ، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس ، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى . وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة اليمن : الاستئذان . وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان ، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى .

الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش ; لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له [ ص: 492 ] استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم ، وأريد ملزومه الذي هو الإذن ، وإطلاق اللازم ، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف ، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل ، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم [ 33 \ 53 ] ، وقوله تعالى بعده : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم [ 24 \ 28 ] ، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية ، والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .

الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام ، والاستكشاف ، فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه .

والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال ، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أي : تعرفت واستعلمت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] ، أي : علمتم رشدهم وظهر لكم ، وقوله تعالى عن موسى : إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس [ 20 \ 10 ] وقوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا الآية [ 28 \ 29 ] فمعنى آنس نارا : رآها مكشوفة ، ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان :


كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد



فقوله على مستأنس ، يعني : حمار وحش شبه به ناقته ، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف ، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم ، ومنه أيضا قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته :


آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء


فقوله : آنست نبأة ، أي : أحست بصوت خفي ، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا ، هل يؤذن لكم ، وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون [ ص: 493 ] بالاستئذان أظهر عندي ، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول ، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا .

وبما ذكرنا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم ، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه ، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس ، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم ، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت ، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك ; لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا ، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير ، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقال فيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] وقال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآية [ 75 \ 16 - 17 ] .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز ; لأن قوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية [ 24 \ 27 ] ، نهي صريح ، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح ، كما تقرر في الأصول .
المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات ، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة ، فليرجع ، ولا يزد على الثلاث ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت ، قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال [ ص: 494 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك .

وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر ، سمعت أبا سعيد بهذا ، اهـ بلفظه من صحيح البخاري . وهو نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا والله يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول : كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه ، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك ، فسلمت على بابك ثلاثا ، فلم يردوا علي فرجعت ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : أقم عليها البينة ، وإلا أوجعتك ، فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب به . حدثنا قتيبة بن سعيد ، وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد ، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت ، اهـ بلفظه من صحيح مسلم . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ، فقال أبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها ، وإلا فلأجعلنك عظة ، قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الاستئذان ثلاث ، قال فجعلوا يضحكون ، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع ، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه ، فقال هذا أبو سعيد .

وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة ، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، [ ص: 495 ] فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ، فقال : كنا نؤمر بهذا ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : لتأتيني على هذا وإلا فعلت وفعلت ، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية ، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه ، فلما أن جاء العشي وجدوه ، قال يا أبا موسى : ما تقول أقد وجدت ؟ قال : نعم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال عدل ، يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم ، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الرواية قول عمر : سبحان الله ، وما بعده .

فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى ، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث ، وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا ، وصغارنا ، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ منه ، والظاهر منه كما قال ، وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس ، والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، وأن الاستئناس المذكور في الآية ، هو الاستئذان المكرر ثلاثا ; لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه ، وبذلك تعلم أن ما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا " : الاستئذان بتنحنح ، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق ، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه ، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت .

وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة قال : الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره ، والرواية الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل .

قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين ، التي أشرت إليها في الأدب المفرد ، زيادة مفيدة ، وهي أن أبا سعيد ، أو أبا [ ص: 496 ] مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سعد بن عبادة ، حتى أتاه فسلم ، فلم يؤذن له ، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ، ثم سلم الثالثة ، فلم يؤذن له ، فقال : " قضينا ما علينا " ، ثم رجع فأذن له سعد ، الحديث ، فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه ، وأحمد من طريق ثابت ، عن أنس أو غيره كذا فيه ، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد ، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد ، اهـ محل الغرض منه ، وقوله : فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله : يدل على أن قصة استئذانه - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت ، عن أنس أو غيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن على سعد بن عبادة ، فقال : " السلام عليك ورحمة الله " ، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسيلمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال " : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال " : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " السلام عليكم ورحمة الله " ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " السلام عليكم ورحمة الله " ، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر ابن كثير القصة إلى آخرها ، ثم قال : وقد روى هذا من وجوه أخرى ، فهو حديث جيد قوي والله أعلم .

وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا ، وليس المراد به التنحنح ونحوه ، كما عزاه في فتح الباري للجمهور ، واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان ؟ وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع ، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة : أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام [ ص: 497 ] والاستئذان ، كما صرح به في القرآن ، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة ، وقاله المحققون : أنه يقدم السلام ، فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ والثاني يقدم الاستئذان ، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان في تقديم السلام ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على غيره ، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان ، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله : حتى تستأنسوا وتسلموا [ 24 \ 27 ] لا يدل على تقديم الاستئذان ; لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، وإنما يقتضي مطلق التشريك ، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [ 3 \ 43 ] والركوع قبل السجود ، وقوله تعالى : ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] ونوح قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب; كقوله تعالى : إن الصفا والمروة الآية [ 2 \ 158 ] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " : أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، وكقول حسان - رضي الله عنه - :


هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء


على رواية الواو في هذا البيت .

وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف ، كالحديث المذكور في البدء بالصفا ، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور ; لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده ، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك ، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو ، اهـ .

وذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فانظره ، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمختار أن [ ص: 498 ] صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف ، كما دلت عليه الأدلة .

واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير ; لأن في بعضها : أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه ، فرده من حينه ، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني ، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال : وظاهر هذين السياقين التغاير ، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني ، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما : بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه ، فأرسل إليه ، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت ، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني ، اهـ . منه ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيهات تتعلق بهذه المسألة .

الأول : اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة ; لأنهم لما سمعوه ، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن ، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة ، خلافا لمن قال من أهل العلم : إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا ، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا ، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة ، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه .

التنبيه الثاني : اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة ، أنه إن علم أن أهل البيت ، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة ، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة ، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة ، ومن فصل في ذلك ، وقال النووي في شرح مسلم : أما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، وظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ، ولا يعيد الاستئذان . والثاني : يزيد فيه . والثالث : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده ، فمن قال بالأظهر فحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فلم يؤذن له فليرجع " ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم ، أو ظن أنه سمعه ، فلم يأذن والله أعلم .

والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث ; لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو مقرر في الأصول .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]