عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-11-2022, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

فقال له حاتم: إن كنتُ لأحب أن يأتيني مثلك من قومك، هذا مرباعي من الغارة على بني تميم، فخذه وافرًا، فإن وفى بالحَمالة، وإلا أكملتها لك، وهو مائتا بعير سوى بنيها وفصالها، مع أني لا أحب أن تُويِس قومك بأموالهم، فضحك أبو جبيل وقال: لكم ما أخذتم منا، ولنا ما أخذنا منكم، وأي بعير دفعته إليَّ ليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير، فأخذها وانصرف راجعًا إلى قومه، فقال حاتم في ذلك:

أتاني البُرْجُميُّ أبو جُبَيْل
لهمٍّ في حَمالتِه طويلِ

فقلتُ له: خذ المرباع رهوًا
فإني لستُ أرضى بالقليل

على حالٍ ولا عوَّدتُ نفسي
على علَّاتها عِلَلَ البخيلِ

فخُذْها إنها مائتا بعيرٍ
سوى النابِ الرذيَّةِ والفَصِيلِ

فلا مَنٌّ عليك بها فإني
رأيتُ المنَّ يُزري بالجَزيلِ

فآبَ البُرْجميُّ، وما عليه
مِنَ اعْباءِ الحَمالةِ مِن فَتيلِ

يجُرُّ الذيلَ ينفُضُ مِذْرَوْيه
خفيف الظَّهرِ مِن حملٍ ثقيلِ


وهذا فضلًا عن النكهة الواقعية التي تفعم النص كله مما يعضد اقتناعي بأن تلك الحكاية بما فيها من حوار وشعر صحيحة غير مفتعلة، ومن ثم أقبلها وأنا مطمئن إلى حد كبير.

ومثلهما في ذلك النص التالي، وهو من حوار دار بين قبيصة بن نعيم وامرئ القيس الشاعر والملك المشهور في مقتل والد الأخير: "قدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد، وفيهم قبيصة بن نعيم، يسألونه العفو عن دم أبيه، فخرج عليهم في قَباءٍ وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم إلا في الترات (أي عند الثأر)"، فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ ولا تبصير من مجرب، ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتِدٌ يحتمل ما حُمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمَّت رزيتُه نزارًا واليمن، ولم تخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يُفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه، فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فقدناه إليك بنِسْعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، فنقول: رجل امتحن بهالك عزيز فلم يستل سخيمته إلا تمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البُرَآء، وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر، وتعقد الخمر فوق الرايات، فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملًا ولا ناقة فأكتسب به سُبة الأبد، وفت العضد، وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقًا، وفوق الأسنة علقًا:
إذا جالت الحربُ في مأزقٍ ♦♦♦ تصافحُ فيه المنايا النفوسَا

أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار، بمكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل:
لعلَّك أن تستوخِمَ الوِرْدَ إن غدَتْ ♦♦♦ كتائبُنا في مأزقِ الحرب تُمطِرُ

فقال امرؤ القيس: لا والله، ولكن أستعذبه، فرويدًا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذِكرُ غير هذا بي أولى إذ كنت نازلًا بربعي، ولكنك قلت فأوجبت، فقال قبيصة: ما يُتوقَّع فوق قدر المعاتبة والإعتاب، فقال امرؤ القيس: هو ذاك".

وكذلك هذه الخطبة التي قالها عبدالمطلب بن هاشم جد النبي عليه السلام في حضرة سيف بن ذي يزن حين ذهب إليه وفد العرب يهنئونه بانتصاره على الأحباش وإخراجه إياهم من بلاده: "لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه، ومنهم وفد قريش، وفيهم عبدالمطلب بن هاشم، فاستأذنه في الكلام، فأذن له، فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلًّا رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت، أبيت اللعن، رأس العرب وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن، أيها الملك، أهل حرم الله وذمته، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة".

ومثلها في ذلك خطبة أبي طالب عم النبي عندما ذهب معه لخِطبة خديجة بنت خويلد له، وهذا نصها: "خطب أبو طالب حين زواج النبي بالسيدة خديجة فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا وبيتًا محجوجًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي من لا يُوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برًّا وفضلًا وكرمًا وعقلًا ومجدًا ونبلًا، وإن كان في المالِ قُلٌّ فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 07:07 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.45 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (3.28%)]