رد: دراسة للخطب في الجاهلية
دراسة للخطب في الجاهلية (1)
د. إبراهيم عوض
وعلى عكس ما يهرف به طه حسين هنا على النحو الذي كان معروفًا عنه عند عودته من أوربا متصورًا أنه قد حاز العلم كله وأن القول ما قال المستشرقون، الذين كان يردد كلام من يشككون منهم في تاريخ العرب وأمجادهم بعُجره وبُجره دون أن يتريث لحظة واحدة للتثبت مما يقوله هذا الصنف الموتور منهم، على عكس ذلك يؤكد أحمد حسن الزيات أن العرب، بنفوسهم الحساسة ونزوعهم إلى الحرية والاستقلال وميلهم إلى الفَخَار وما كانوا يتسمون به من غَيرة ومسارعة للنجدة وبلاغة في القول وذلاقة في اللسان وما عرفوه من الوفود والسفارات، كانوا مهيئين للتفوق في ميدان الخطابة، مبينًا أن خطبهم كانت تتسم بالقِصر والسجع حتى تعلق بالذهن عُلوقًا سهلًا؛ (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربي/ 19)، وبالمثل يقرر د. علي الجندي بحق أنه قد "ثبت أن (العرب) كانوا يخطبون في مناسبات شتى: فبالخطابة كانوا يحرضون على القتال استثارة للهمم وشحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شن الغارات حبًّا للغنيمة أو بثًّا للحمية رغبة في الأخذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسلم حقنًا للدماء ومحافظة على أواصر القربى أو المودة والصلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويُبغِّضون في الشر والتباغض والتنابذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات جلبًا لمنفعة أو درءًا لبلاء أو تهنئة بنعمة أو تعزية أو مواساة في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه في المصاهرات، فتلقى الخطب ربطًا لأواصر الصلة بين العشائر وتحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض"؛ (د. علي الجندي/ في تاريخ الأدب الجاهلي/ 264 - 265)، وعلى هذا الرأي أيضًا نجد د. أحمد الحوفي، الذي يسارع مع هذا إلى الاستدراك بأن العرب، بخلاف ما كان الحال عليه لدى الرومان واليونان، لم يكونوا يعُدُّون خطبهم قبل إلقائها، بل كانوا يعتمدون على الارتجال والبديهة، ومن هنا جاءت خطبهم لمعًا بارقة دون تفصيل أو تخطيط؛ (أحمد محمد الحوفي/ فن الخطابة/ مكتبة نهضة مصر/ 150 - 151)، أما السباعي بيومي فيرى أن خطباء العرب كانوا يحفلون بخطبهم أيما حُفُول، "فيتخيرون لها من المعاني أشرفها، ومن الألفاظ أفصحها، لتكون أشد وقعًا على النفوس، وأبعد تأثيرًا في القلوب، وأيقظ للهمم، وأحث على العمل"؛ (تاريخ الأدب العربي - ج 1 في العصر الجاهلي/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 97)، ومن قبل سرد ابن وهب الموضوعات التي كانت تدور عليها الخطب آنذاك قائلًا: إن "الخطب تستعمل في إصلاح ذات البين وإطفاء نائرة الحرب (أي نارها وشرها)، وحمالة الدماء والتسديد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك (أي الزواج)، وفي الدعاء إلى الله عز وجل، وفي الإشادة بالمناقب (الأعمال الجليلة)، ولكل ما أُريد ذكره ونشره وشهرته بين الناس"؛ (ابن وهب/ البركان في وجوه البيان/ تحقيق حفني شرف/ مطبعة الرسالة/ 1969م/ 150)، ومن العجيب أن طه حسين قد عاد بعد ذلك فأقر بوجود خطب في الجاهلية، إلا أنها لم يبقَ منها شيء؛ (انظر كتابه: "خصام ونقد"/ ط9/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 212).
أما د. شوقي ضيف فيسلك سبيلًا مخالفة للفريقين جميعًا؛ إذ بينما نراه يؤكد وجود الخطابة والخطباء في الجاهلية وتوفر العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تكفل لها الازدهار؛ إذ به يشك في كل ما وصلنا تقريبًا عن ذلك العصر من خُطب، والسبب في هذا الشك لديه هو بُعد الشُّقَّة الزمنية بين العصر الجاهلي وعصر التدوين أيام العباسيين، ومع ذلك نجده يقول: إن مَن زيفوا نصوص الخطب الجاهلية كانوا بلا شك يعتمدون على نصوص جاهلية صحيحة وضعوها أمامهم واحتذوها، وعلى هذا فإذا وجدنا أن كثيرًا من الخطب والمفاخرات والمنافرات التي تنسب إليهم مجودة مسجوعة مثلًا، فمعنى هذا أنهم في الجاهلية كانوا يجودون ويسجعون في خطبهم ومفاخراتهم ومنافراتهم فعلًا؛ (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 410 - 419، والفن ومذاهبه في النثر العربي/ ط7/ دار المعارف/ 1974م/ 33 - 38).
إلا أننا مع احترامنا للأستاذ الدكتور وتقديرنا للفصلين اللذين كسرهما لهذا الموضوع في كتابيه المشار إليهما وما فيهما من علم وتحليل، لا نستطيع أن نسلم بما يقول على علَّاته؛ إذ لا معنى لكلامه هذا إلا أنه قد وصلت فعلًا إلى مخترعي الخطب الجاهلية نصوص صحيحة منها قاسوا عليها ما صنعوه ونسبوه إلى الجاهليين، فلماذا رموها خلف ظهورهم واكتفوا بما اخترعوه رغم تَيْح الأصل لهم؟ وإذا كانوا لأمر ما غير مفهوم قد أقدموا على هذا الصنيع الأخرق فكيف لم يُتَحْ لهذه النصوص الصحيحة مَن يعرف لها قدرها ويحفظها من الضياع؟ وقبل ذلك من قال: إن بُعد الزمن ما بين الجاهلية وعهد التدوين كفيل بإنساء العربي تراث آبائه وأجداده؟ لقد عُرف العربي بذاكرته القوية وحرصه على تاريخه وأدبه واعتزازه بالكلمة الفنية التي ينتجها نثرًا كانت أو شعرًا، وقيام حياته الثقافية على الحفظ والرواية والتمثل المستمر بنتاج قرائح الشعراء والمتكلمين بحيث كان من الصعب أشد الصعوبة انتساخ تراثه القولي، فإذا أضفنا أن كثيرًا من خطبهم في الجاهلية كان مسجعًا مجنسًا مراعى فيه الموازنة وقِصر الجُمل، فضلًا عن قِصر الخُطب نفسها تبين لنا أن حفظ مثل هذا النتاج الأدبي لم يكن بالمهمة الشديدة الصعوبة، بله المستحيلة، كما يتخيل البعض منا قياسًا على ما يخبرونه من الذاكرة العربية الحالية، وهي ذاكرة لا تتمتع بما كانت تتمتع به سليفتها الجاهلية من حدة ودقة، مثلما لا يتمتع أصحابها بما كان يتمتع به نظراؤهم أوانذاك من اهتمام فائق بالكلمة المشعورة والمنثورة رغم تصورنا العكس اعتمادًا على ظواهر الحال المضللة، ولا ننسَ أيضًا أن العقل الجاهلي لم يكن ينوء بما ننوء به الآن من مشاغل ومتاعب تصرفنا صرفًا عن الحفظ والاهتمام برواية الأشعار والخطب على النحو الذي كان عليه الوضع في العصر الجاهلي، وفوق هذا فإن الأمية التي كانت تسم مجتمعهم بوجه عام قد دفعتهم دفعًا إلى الاستعمال المكثف والمستمر للذاكرة بما يجعلها ناشطة نشاطًا لا نعرفه الآن، وعلى كل حال فقد قال الأستاذ الدكتور أيضًا - كما رأينا -: إن الذين اخترعوا الخطب ونسبوها للجاهليين قد قاسُوها على ما وصلهم من خطب جاهلية حقيقية؛ أي إن بُعد الزمن لم يكن له ذلك التأثير الذي عزاه إليه وعلل به شكه في صحة خطب الجاهلية التي بلغتنا، "الواقع أن آخر كلامه ينقض أوله بكل أسف! بيد أن قولنا بقدرة الذاكرة العربية على تأدية المحفوظ من نصوص الخطابة الجاهلية شيء، والزعم بأنها قد أدته على وجهه لم تخرم منه شيئًا، فلم تضف إليه ما ليس منه ولم تنقص منه ما كان فيه، ولم تبدل بعض ألفاظه وعباراته أو معانيه ومضامينه، هو شيء آخر مختلف؛ فالذاكرة البشرية، ككل شيء في عالم البشر، عُرضة للسهو والكلال والالتباس، ودعنا من النصوص التي زيفت تزييفًا واخترعت اختراعًا مما سنتناوله بشيء من التفصيل فيما يلي حينما نقف عند طائفة من النصوص الخطابية التي ليست قمينة في نظرنا بالقبول والاطمئنان.
ومن هذه الخُطب المنسوبة للجاهلية التي يصعب علينا القول بجاهليتها: تلك الخطب التي يُفترض أن أصحابها يتنبؤون فيها بمجيء "محمد" عليه الصلاة والسلام؛ إذ السؤال هو: من أين لأصحابها هذا العلم بالغيب؟ إن الغيب هو من شأن الله سبحانه وتعالى وحده، لا يعلمه أحد سواه، يقول بهذا القرآن والحديث وينطق به العقل والمنطق، ولو أن الذين قالوا هذا كانوا يهودًا أو نصارى لقلنا: ربما قرؤوه في كتبهم، لكنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، فأنى لهم ذلك؟ وحتى لو كانوا من أهل الكتاب فإن الذي في القرآن أن عيسى قد بشَّر برسول يأتي من بعده اسمه "أحمد"؛ (الصف/6)، على حين أن اسم النبي في هذه الخُطب هو "محمد"! ليس ذلك فحسب، بل هناك أسئلة أخرى لا نستطيع الإجابة عليها لو قبلنا صحة هذه الخطب، وهي: لو أن ما جاء في تلك الأحاديث صحيح تاريخيًّا، فكيف لم يحاجِجِ النبي به قومه فيقول لهم مثلًا: لقد سبق أن سمعتم بأن هناك نبيًّا من قريش سوف يظهر، اسمه محمد، فكيف تكفرون بي بعد أن قال كهَّانكم أنفسهم ذلك قبل ولادتي؟ لكننا ننظر في كلامه صلى الله عليه وسلم وفي القرآن الكريم فلا نجد أثرًا لمثل هذه الحجة التي كان من شأنها أن تعضد موقفه عليه السلام أيما تعضيد! كذلك فبعض هذه الخطب قد نسب لكعب بن لؤي جد النبي البعيد، ولو كان هذا صحيحًا فكيف لم يُذكِّر عليه السلام أهل بيته الذين كفروا به؛ كعمه أبي لهب مثلًا أو عمه أبي طالب بما قاله جدهم، ونحن نعرف أن الجاهليين كانوا يتمسكون أشد التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد، كما تبدى في رد الأخير فيما يروون عنه عند موته؛ إذ اعتذر عن الدخول في دعوة محمد على أساس أنه لا يحب المخالفة عن دين آبائه؟ وعلى هذا فإننا نقف مرتابين أشد الريبة إزاء الخطبة التالية التي ينسبونها لجد النبي ذاك، والتي يقول فيها: "اسمعوا وعوا، وتعلَّموا تعلَموا، وتفهَّموا تفهموا، ليل ساج، ونهار صاج، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصِلُوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتًا نُشر؟ الدار أمامكم، والظن خلاف ما تقولون، زيِّنوا حرَمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.
نهارٌ وليلٌ واختلافُ حوادثٍ 
سواء علينا حلوُها ومريرُها 
يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا 
وبالنعَم الضافي علينا ستورُها 
يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا 
لها عُقَدٌ ما يستحيل مريرُها 
على غفلةٍ يأتي النبي محمد 
فيُخبرُ أخبارًا صَدُوقًا خبيرُها 
• • •
يا ليتَني شاهدٌ فحواءَ دعوتِه 
حين العشيرةُ تَبْغي الحقَّ خِذلانَا" 
وهذه الخُطبة، فوق ذلك، تحتوي على أشياء أخرى تدفعنا إلى مزيد من التشكك فيها، منها أن العبارة التي يتمنى فيها كعب أن يكون حيًّا عند ظهور محمد تذكرنا بما قاله في نفس المعنى ورقة بن نوفل، الذي كان هناك سببٌ وجيه لكلامه هذا، ألا وهو أنه كان يخاطب النبي عليه السلام، فمن الطبيعي أن يتمنى مثل هذه الأمنية؛ إذ ها هو ذا النبي الموعود واقفًا أمامه يجاذبه أطراف الحديث حول ما رآه في الغار عند ظهور جبريل له، فيجد من واجبه الإنساني على الأقل أن يبصره بما ينتظره من متاعب عند بدء الدعوة الفعلية، ويُظهر له تعضيده ويرفع من روحه المعنوية، أما كعب فكانت بينه وبين النبي الذي يتحدث عنه من الزمن ما لا معنى معه لما قال، وفضلًا عن ذلك فمِيسَم القرآن الكريم واضح وضوحًا كبيرًا في خطبته أسلوبًا ومعنى؛ كما في قوله: "والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين... فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم"، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 7]، ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الواقعة: 49، 50]، ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ [ص: 67]، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ [الدخان: 17]، ولو كان كعب قال ذلك فعلًا لكان حجة للمشركين يشهرونها بكل بساطة وشماتة في وجهه صلى الله عليه وسلم قائلين له: ما بالك تأخذ كلام جدك وتدعي أنه من وحي السماء؟ ثم ما معنى نصحه إياهم أن يتمسكوا بالبيت الحرام ولا يفارقوه؟ هل سمع أحد أن قريشًا فكرت يومًا في شيء من هذا القبيل، وهي التي لم يكن لها شرف في العرب إلا شرف القيام على أمر البيت الحرام؟ وبالمناسبة لماذا لم يعرج كعبٌ على الأوثان التي كانت في بيت الله فيزجر قومه من عبادتها وتقديسها ما دام يتحدث بهذا السرور والإيمان عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ والطريف أن أحدًا من سامعيه لم يخطر له أن يستفسر منه عمن يكون محمد هذا، أو يستغرب ظهور نبي من العرب أصلًا، بل إنه لمن الواضح أن كعبًا، حسب الخطبة التي طالعناها لتونا، لم يكن يدور في باله أن محمدًا هذا لن يكون أحدًا آخر غير حفيد من أحفاده سيولد بعد عدة أجيال!
وعلى نفس الشاكلة تجري الأحاديث التالية المنسوبة إلى خنافر بن التوءَم الحِميري وشافع بن كليب الصدفي وسطيح الذئبي وشق أنمار وعفيراء الكاهنة على التوالي:
1- حديث خُنافر بن التوءَم الحِميري مع رئيه شصار: "كان خنافر بن التوءم الحميري كاهنًا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم وسعة في المال، وكان عاتيًا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فخالف جودان بن يحيى الفرضمي، وكان سيدًا منيعًا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين، قال خنافر: وكان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى (انحدر في الجو) هوي العقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قُل أسمع، فقال: عِهْ تغنَمْ، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد قبيلة من الجن)، حكامًا على الحكام، يذبرون (يقرؤون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشَّبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفِراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم امَّلَس عني، فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبُدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها، بحولها وسقابها (أي بجمالها ونوقها، جمع: "حائل" و"سقب")، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، فبايعته على الإسلام، وعلمني سورًا من القرآن، فمنَّ الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".
2- شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي: "قدم على تُبَّع الآخر ملك اليمن قبل خروجه لقتال المدينة شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنًا، فقال له تُبَّع: هل تجد لقومٍ ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا، إلا ملك غسان، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: أجده لبارٍّ مبرور، ورائد بالقهور، ووصف في الزبور، فضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قُصي، فنظر تبع في الزبور، فإذا هو يجد صفة النبي".
3- سطيح الذئبي يعبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي: "رأى ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن، وقد ملك بعد تبع الآخر، رؤيا هالته، فلم يدَعْ كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها؛ فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق؛ فإنه ليس أحد أعلم منهما فيها، يخبرانه بما سأل عنه، فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني هذا أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون"، قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا انشق، إن ما أنبأتك به لحق".
4- شِق أنمار يعبر رؤيا ربيعة بن نصر أيضًا: "ثم قدم عليه شقٌّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان، قال: نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة، فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا، بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدني ولا مُدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، قال: أحق ما تقول؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض، فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور، فأسكنهم بالحيرة، فمن بقية ولده النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر".
5- وفود عبدالمسيح بن بُقيلة على سطيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما كان ليلة وُلد النبي ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فعظم ذلك على أهل مملكته، فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجرِ تلك الليلة في بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة، فلما تواترت الكتب أبرز سريره (أي عرشه) وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخبر، فقال الموبذان: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا، قال: رأيت عظيمًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلًا من علمائهم؛ فإنهم أصحاب علم بالحدثان، فبعث إليه عبدالمسيح بن بُقيلة الغساني، فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر، فقال له: أيها الملك، والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن جهزني إلى خال لي بالشام يقال له: سطيح، قال: جهزوه، فلما قدم إلى سطيح وجده قد احتُضر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبدالمسيح:
أصمُّ ألم يسمع غِطْريف اليمن؟ 
يا فاضل الخطة أعيَتْ مَن ومن؟ 
أتاك شيخ الحي من آل سَنَنْ 
أبيض فضفاض الرداء والبدَنْ 
رسول قَيْل العجْم يهوي للوثن 
لا يرهب الرعدَ ولا ريبَ الزمَنْ
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 04:25 AM.
|