عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-11-2022, 10:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم

الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم (2)


ما زال حديثنا موصولاً عن الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على كل من جاء بعدهم، وتحدثنا عن الأصل الأول وهو التَّعايش مع الوحي، وهذه ميزة اختصوا بها دون غيرهم؛ حيث تلقوا القرآن غضًّا طريا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، ثم ذكرنا الأصل الثاني وهو: بناؤهم المنهجي ووجود الضامن بمعني أن الصحابة -رضوان الله عليهم- بنوا فهمهم على معايشة النص الشرعي ومعرفة كل ما يحيط به، واليوم نستكمل الحديث عن تلك الأصول.
الأصل الثالث: الاختصاص والملازمة
من المعلوم أنَّ كل أحدٍ يخاطب الناس فإن الأحق بفهم كلامه فهمًا سليمًا هم أقرب الناس منه، وأكثرهم ملازمة له، وقد كان الصَّحابة -رضوان الله عليهم- أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- من كل من جاء بعدهم، فقد رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رأي العين، ولازموه، وعرفوا حاله، وتتبَّعوا أثره، واقتفوا سنَّته، وحرصوا على العمل بأقواله، وفقهوا مضمون أوامره ونواهيه، واجتمعوا به، وآكَلوه وشَاربوه، وصحبوه في السفر والحضر، وعرفوا طريقة كلامه، وحفظوا أساليب بيانه، بل حتى عرفوا تعابير وجهه، فهم قد مروا بتجربة لم يمرَّ بها أحدٌ بعدهم؛ فوجب تقديم فهمهم، ففهمُهم لكلامه بحكم الاختصاص به وملازمته مقدم على فهم غيرهم.
عمل ابن عباس - رضي الله عنه
وقد عمل بهذا الصَّحابة الكرام، فهذا ابن عباس - رضي الله عنه - بعدما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما ذهب يطلب العلم من أكابر الصحابة؛ لأنهم عاشوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- ولازموه أكثر منه، واعتمد على ذلك أهل السنة والجماعة، يقول اللالكائي: «فلم نجد في كتاب الله -تعالى- وسنَّة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلُّف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتَّبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم: «أصحاب الحديث»؛ لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعهم لقوله، وطول ملازمتِهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرةً، وشرائعه مشاهدةً، وأحكامه معاينةً، من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه واصلة. فجاولوها عيانًا، وحفظوا عنه شفاهًا، وتلقنوه من فِيهِ رطبًا، وتلقنوه من لسانه عذبًا، واعتقدوا جميع ذلك حقًّا، وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينًا».
علم الرسل يكون عند خاصَّتهم
ويقول ابن تيمية -رحمه الله- مقرِّرًا هذا الأصل: «فمن المعلوم أنَّ علم الرسل يكون عند خاصَّتهم كما يكون علمكم عند خاصَّتكم، ومن المعلوم أنَّ كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أنَّ أهل الحديث أعلم الأمَّة وأخصها بعلم الرسول وعلم خاصته، مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل: أبيّ ابن كعب، وعبدالله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل سعد ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء -رضي الله عنهم جميعا- ممَّن كان أخص الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره، وأتبعهم لذلك. فعلماء الحديث أعلم النَّاس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم، علم خاصة الرسول وبطانته، كما أنَّ خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمَّتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمَّة الإسلام مثل أئمة العلماء، فإنَّ خاصَّة كل إمام أعلم بباطن أموره»، فابن تيمية -رحمه الله- يبيِّن أنَّ هذه سنة بشرية تسري على كلِّ الناس، فكل أحد هو أفهم لكلام من اختصَّ به، ولازمه، وعرف كلامه، وفهمه هذا مقدم على فهم غيره.
الأصل الرابع: السلامة اللغوية
أنزل الله هذا القرآن باللغة العربية، كما ذكر الله ذلك في كتابه فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: 103)، وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113)، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 192 - 195)، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28)، وقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3)، وقال: {نَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3)، وغيرها من الآيات، ولا يستريب عاقلٌ في أنَّ أسعد النَّاس بفهم كلام الله هو أقرب النَّاس إلى هذه اللغة التي بها أنزل القرآن.
السبب في ظهور البدع
ومعلومٌ أنَّ سوء إدراك اللغة وفهمها فهمًا خطأ كان له أثرٌ كبيرٌ في ظهور البدع، يقول الشافعي -رحمه الله-: «ما جهل النَّاس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس»، بل يقول السيوطي: «وقد وجدت السَّلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أنَّ سبب الابتداع: الجهل بلسان العرب... وأخرج البخاري في تاريخه الكبير عن الحسن البصري قال: إنما أهلكتهم العجمة».
الصحابة أقرب الناس إلى لغة القرآن
ولا شكَّ ولا ريب أنَّ أقرب الناس إلى لغة القرآن، وأفهمهم لها، هم الصحابة الكرام، فقد كان زمنهم زمن الفصاحة والبيان، وقد بلغت اللغة القمَّة إبَّان بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت لها أسواقها العامرة، ومنتدياتها الجامعة، ولم يكن الصَّحابة بمنأى عن ذلك الحراك العلمي اللغوي، فكانوا هم أشد الناس فصاحةً وبلاغةً، وكانوا هم أهل اللغة المتقنون لها سليقةً لا تعلُّما، فإذا كان كذلك فإنَّ فهم النُّصوص الشرعيَّة ينبغي أن يكون من خلال اللغة التي أُنزلت بها قبل أن تدخلها الألفاظ الحادثة، ويطرأ عليها من دلالات الألفاظ ما لم تكن معهودةً في اللسان العربي في عصر الصَّحابة، ولذلك وجب علينا تقديم فهم الصحابة؛ إذ إنَّهم فهموا القرآن بلغته التي أنزل بها.
حجيَّة فهم الصَّحابة
وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في بيان حجيَّة فهم الصَّحابة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «وأيضًا فإنَّ الله -تعالى- لمَّا أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغًا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السَّابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدِّين، وصار اعتبار التَّكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم»، فالناس يحتاجون إلى معرفة لغة القرآن من أجل فهمه، وهم في ذلك عالة على الصَّحابة الكرام، يقول ابن تيمية -رحمه الله- في تقرير ذلك: «يحتاج المسلمون إلى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ الكتاب والسُّنة بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصَّحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإنَّ الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التَّابعين أعظم ممَّا بلغوا حروفه، فإنَّ المعاني العامَّة التي يحتاج إليها عموم المسلمين مثل: معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد، والإيمان والإسلام، ونحو ذلك؛ كان جميع الصَّحابة يعرفون ما أحبَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- من معرفته».
وقد رجَّح الشَّاطبي حجيَّة قول الصحابي؛ لأن معرفته باللغة فوق معرفة من جاء بعده، وفي هذا يقول -رحمه الله-: «وأمَّا بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته أيضًا، وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظرٌ وتفصيل، ولكنَّهم يترجَّح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين: أحدهما: معرفتُهم باللسان العربي؛ فإنَّهم عرب فصحاء، لم تتغيَّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قولٌ أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة».
سبب الخطأ في كلام كثير من المتأخرين
وقد وقع الخطأ في كلام كثير من المتأخرين؛ لبعدهم عن لغة الصحابة -رضوان الله عليهم-، ذلك أنَّهم يبنون الفهم على مصطلحاتٍ خاصَّة بهم لم تكن معهودة زمن الخِطاب، فإذا رأوا تلك المصطلحات في لسان الشَّرع حمَّولها حمولة معانيهم هم، وهذا غلطٌ بيِّن! وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «ومن لم يعرف لغة الصَّحابة التي كانوا يتخاطبون بها، ويخاطبهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم-، وعادتهم في الكلام، وإلا حرّف الكلم عن مواضعه؛ فإنَّ كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومٍ وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصَّحابة؛ فيظنُّ أنَّ مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك»، وكم جنت المصطلحات الحادثة، وتحميلُ الألفاظ من المعاني الحادثة التي لم يستعملها العرب مطلقًا، أو لم يستعملوها في تلك السياقات؛ من جنايةٍ عظيمة على عقائد المسلمين.


إبراهيم بن محمد صديق


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]