
17-11-2022, 04:08 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (191)
صـ171 إلى صـ 180
ومنه ألا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي ، بل يربي بصغار [ ص: 171 ] العلم قبل كباره ، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه ، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق ، وهو مفسدة .
من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل ، وربما أوقع خبالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فقال هذه الفاكهة فما الأب ؟ ثم قال : ما أمرنا بهذا .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر ، وإن كان حقا ، وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ، ولا حدث بها ، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون [ ص: 172 ] ذلك فتنبه لهذا المعنى .
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة; فإن صحت في ميزانها; فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله; فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول; فإن قبلتها; فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ; فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية .
فصل .
هذه الفرق ، وإن كانت على ما هي عليه من الضلال; فلم تخرج من الأمة ، ودل على ذلك قوله : " تفترق أمتي " فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها .
وقد جاء في الخوارج : " في هذه الأمة كذا " فأتى ب " في " المقتضية [ ص: 173 ] أنها فيها وفي جملتها .
وقال في الحديث : " وتتمارى في الفوق " ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار في كفرهم ، ولقال : إنهم كفروا بعد إسلامهم .
[ ص: 174 ] فإن قيل : فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع ; كالخوارج والقدرية وغيرهما .
[ ص: 175 ] فالجواب : أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام ، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه ، وإذا قلنا بتكفيرهم; فليسوا إذا من تلك الفرق ، بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى [ ص: 176 ] الكفر ، وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله ، والأمر بالقتل في حديث الخوارج لا يدل على الكفر ; إذ للقتل أسباب غير الكفر ، كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل ، وما أشبه ذلك; فالحق ألا يحكم بكفر من هذا سبيله ، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب ، وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه; إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر ، وما أعز وجود مثله .
[ ص: 177 ] المسألة العاشرة
النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية; فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها; فيكون [ ص: 178 ] هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة .
والدليل على صحته أمور :
أحدها : أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد ، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية ، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم ، وأما الدنيوية; فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح; فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع ، والمسببات هي مآلات الأسباب; فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب ، وهو معنى النظر في المآلات .
لا يقال : إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب ، لأنا نقول - وتقدم أيضا - : أنه لا بد من اعتبار المسببات [ ص: 179 ] في الأسباب ، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ، ومسألتنا من الثاني لا من الأول; لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ; فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين ، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب ، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب ، وهو مآل السبب .
والثاني : أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة; فإن اعتبرت فهو المطلوب ، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال ، وذلك غير صحيح; لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ، ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد .
وأيضا; فإن ذلك يؤدي إلى ألا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع ، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق .
والثالث : الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية; كقوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
[ ص: 180 ] وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] .
وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية [ البقرة : 188 ] .
وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] .
وقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ النساء : 165 ] .
وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] .
وقوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية [ البقرة : 216 ] .
وقوله : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .
وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|