
31-10-2022, 10:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة :
|
|
رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة
حيث فسَّر الزجَّاج بِنيتَها العميقة بقوله: "أتْلُ عليكم تحريمَ الشِّرْك"[14].وقدْ آثرتُ نقْل هذه النصوصِ هنا، لأُثبتَ مِن طرف أنَّ علماءَنا القُدامى كانوا يَبنون آراءَهم في المسألة النَّحْوية وفقًا للمعطيات اللُّغويَّة الممثِّلة للظاهِرة التي يقومون ببحثِها، كما كانوا يُقيمون منهجَهم على أساس أنَّ اختيارَ العناصر اللُّغويَّة لما جاوَرها لا يَرِد مصادفةً أو اعتباطًا، بل إنَّ كلَّ عنصر منها يأتي في مواقعَ محدَّدةٍ بالنسبة إلى العناصِر الأخرى ضِمنَ السِّياق الذي تَرِد فيه، فهذا الخلافُ بينهم كان مبنيًّا على ورودِ العنصر اللُّغويِّ الذي يلي (أن) المصدريَّة، فالمُنكِرون لجعْله فعلَ أمْر استندوا إلى أنَّ فِعل الأمر لا يُساعِد على التأويل بالمصدر؛ حتى لا يتحوَّل الكلامُ إلى معنًى خبريٍّ مُحتمل للصِّدق والكذب، وهو ما يُنافي معنى الأمْر.والمؤيِّدون لذلك مالوا إلى أنَّه يمكن الإتيانُ بالمصدر مِن الأمْر، وأنَّ التعبير بالأمر إنَّما كان لهدفٍ دَلالي عبَّروا عنه بمزيدِ الفائدة، ومزيد الفائدة لا يَخرُج (أن) عن كونها مصدريَّة.نخلص إذًا إلى أنَّ العنصر اللُّغوي الذي يَلي (أن) المصدرية هو الفِعل المتَّسم بسِمة التصرُّف، ماضيًا كان، أو مضارعًا، أو أمرًا، غير أنَّنا لا نجِد في أقوالهم ضابطًا دلاليًّا لهذه الأفعال، ويبدو أنَّ ذلك راجعٌ إلى صلاحيتها للدخولِ على أفعال متباينة الدَّلالة، متعدِّدة المعاني.ولتوضيحِ ذلك أكثرَ علينا أن نتَّجه صوبَ الضوابط الجوهريَّة التي وضعَها النحاةُ لفئةِ الأفعال التي تَسبق (أن) المصدرية، والتي تُشكِّل معها هي ومدخولها علاقةً إسناديَّة يكون فيها المصدرُ المؤوَّل منهما في موقِع الفاعل المحقِّق للحدَث المفاد مِن العنصر الفِعلي السابق، وفي هذا الصَّدد يُقابلنا هذا الزَّخَمُ المتراكِم مِن أقوالهم، والتي تَفي في مجموعِها بعض التقييدات الدلاليَّة المحددة لنمطِ هذا النَّوع من الأفعال، ففي مجال التفريق بيْن (أنْ) و(أنّ)، ينصُّون على أنَّه لَمَّا كانت (أنّ) للتأكيد والتحقُّق "مجراها في ذلك مجرَى المكسورة، فيَجِب لذلك أن يكونَ الفعل الذي تُبنى عليه مطابقًا لها في المعنى، وأن يكونَ مِن أفعال العِلم واليقين، ونحوهما ممَّا معناه الثُّبوتُ والاستقرار؛ ليطابق مَعْنَيَي العامل والمعمول، ولا يَتناقضا...، ولا يقَع قبلها شيءٌ مِن أفعال الطمَع والإشفاق، نحو اشْتَهيت، وأرَدتُ، وأخاف؛ لأنَّ هذه الأفعال يجوز أن يوجد ما بعدَها، وألاَّ يوجد، فلذلك لا يقع بعدَها إلاَّ (أن) الخفيفة الناصِبة للأفعال؛ لأنَّه لا تأكيد فيها"[15].
ومفاد هذا القول أنَّه لَمَّا كانتْ (أن) لا تُستعمل إلاَّ في سِياق الطَّمَع والرَّجاء في حصول الحدَث الملحَق بها، أو عدَم حصوله، فإنَّ هذا مما يَتنافى مع أفعالِ العِلم أو التحقيق أو اليقين، التي تدلُّ على ثبوتِ الحدَث وتُحقِّقه في الواقِع اللُّغوي، ومِن ثَمَّ يكون العنصرُ اللُّغوي الذي يناسِب هذه الأفعالَ هو (أنّ) المشدَّدة التي تُضفي على هذه الأفعالِ زيادةً دلاليَّة، وهي توكيدُ العِلم واليقين وتحقيقه؛ "فالعلمُ مِن مواضِع التقدير والتحقيق، والطَّمَع والرَّجاء مِن مواضع الشكِّ وغير الثبات، و(أنّ) المشدَّدة تُفيد التوكيد، والمخفَّفة لا تُفيده، وإذا كان الأمرُ كذلك، وجَبَ أن تُقرنَ المشدَّدة بما كان تقريرًا، والمخفَّفة بما كان شكًّا.. ولو قيل: علمتُ أنْ يخرجَ زيد، وأرجو أنَّ زيدًا يخرجُ، لكان قلبًا للعادة، مِن حيثُ يقرن ما هو عَلَم التوكيد بما لا تَقريرَ فيه، وما هو عارٍ مِن التوكيدِ بما هو تقرير"[16].
وتُظهِر هذه الأقوالُ - وغيرُها كثير - أنَّ النحاة لَم يُهمِلوا تمامًا أنْ يَذكروا بعضَ السِّمات الدلاليَّة التي تتراءَى لهم في دَرسِهم لظاهرةٍ ما، تلك السِّمات التي يعدُّها بعضُهم من مُستحدَثات المدارسِ اللِّسانيَّة الحديثة، وبخاصَّة المدرسة التوليديَّة والتحويليَّة، حين فكَّر أتباعُ هذه المدرسة في إدراجِ مفهومِ السِّمة بوصفه معادلاً لقاعدةِ التفريع؛ وذلك لما رَأَوْه مِن قوَّة قواعدِهم على توليدِ جُمل غير مقبولة دَلاليًّا، فقواعد التكوين عندَهم ذاتُ قُدْرة كبيرة على التوليد، حتى إنَّ نموذجًا مثل: فعل + اسم + اسم يمكن أن يُولِّد جملاً غير ملائِمة للمعنَى؛ فعن طريقِه يمكن توليدُ تركيب مثل: أكَل المنـزلُ الطعام، وقد سبَق أنْ أشرتُ - في بحثٍ لي عن صِيَغ الأمْر في العربية - إلى أنَّ نموذجًا مِثل هذا أفْضَى بتشومكي ورِفاقه إلى اقتراحِ نوعٍ آخَرَ مِن القوانين، سَمَّوْه بـ(قواعد التفريع)، وهي القواعدُ التي تُقدِّم لنا العناصر المعجميَّة مصحوبةً بسِماتها السياقيَّة، والذاتيَّة، وقدْ أُوكِلَتْ هذه المهمَّة للبِنية العميقة في الطَّور الثاني مِن النظرية، بدلاً مِن ترْكها في الطورِ الأوَّل إلى التفسير الدَّلالي لرفضِ مِثل هذه الجُمل، ففي الطورِ الثاني أدخلتِ النظريةُ مفهومَ السِّمة بوصفِه معادلاً لقاعدةِ التفريع، ففي مجالِ تحديد الاسمِ مَثلاً لجؤوا إلى السِّمات التالية[17]
: [+ عام]، [+ متحرِّك]، [+ إنسان]، [+ محسوس]، [+ معدود]، [+ معرَّف] [+ مذكَّر] [+ مفرد]، وبالرجوع إلى نموذج: أكَل المنـزلُ الطعامَ، نجِد أنَّ كلمة المنـزل تحتوي على سِمة (- حيوان)، (- متحرِّك)، (- حيّ)، في حين أنَّ الفِعل (أكَل) يَتطلَّب فاعلاً يحتوي على سِمة (+ حيوان)، (+ متحرِّك)، (+ حيّ)، وبالتالي لا يأخذ اسمًا فاعلاً تَنعدِم فيه هذه الصفاتُ، أمَّا في مجالِ تحديد الفِعل، فقد أُولِعوا بتفريعِه تفريعاتٍ متعددةً[18]،
فالفعلُ يدلُّ على واقعةٍ تكون؛ إمَّا عملاً action، أو حدَثًا Process، أو وَضعًا position، أو حالة State، ومِن ثَمَّ بالإمكان اللجوءُ إلى السِّمات التالية: [+ عمل]، [+ حدَث]، [+ حالة]، [+ وضع]، [+ شخْصي]، [+ متعد]، فمثل الأفعال: كتَب - ذاكَر - ضَرَب - قَتَل - جَلَس - قامَ، تتَّسم بسِمة (+ عمل)، فإذا صدَر بعضُها عن شخصٍ وسَمْت بسِمة أخرى هي (+ شخصي)، وهناك نوعٌ مِن الأفعال لا يصدُر عن شخص، مثل الأفعال: يَجِب - يَجوز - يُمكِن - يَحِل - يَحرُم، فهذه تُوسَم بسِمة (- شخْصي)، أمَّا الأفعال: كَرِه - أَبْغَض - سرَّ - ودَّ - خاف، فإنَّها تُوسَم بسِمة (+ حالة)، وهي أفعال تدلُّ في ذاتِها على حالةٍ يمكن أن يتَّصف بها الإنسان، أو غيرُه؛ سواء كانتْ ثابتةً أو زائلةً، وحتى هذا النوع قَسَّموه تبعًا لنوع الحالة؛ لذا يُمكن أن تَنضوي تحتَها التقسيماتُ التالية[19]:
/ حالة / - > بيولوجيَّة، مِثل: عطِش - ظَمِئ - جاع - شَبِع./ حالة /- > فسيولوجيَّة، مِثل: عَوِر - حَوِل - طال - قَصُر./ حالة /- > سيكولوجيَّة، مِثل: فَرِح - حَزِن - غَضِب./ حالة / - > فيزيائية مثل: احمرَّ./ حالة / -> طارئة، مِثل: وَسِخ - دَنِس.وباختبارِ هذه المُعطيات اللِّسانيَّة على فِئة الأفعال التي يأتِي فاعلُها مصدرًا مؤولاً مِن (أنْ) والفِعل نتبيَّن أنَّ تِلك الأفعال لا تتَّسم مثلاً بسِمة (+ عمل)؛ إذ لا نقول: يَكتبني أن تُذاكِر في مقابل: يسرُّني أن تُذاكِر، فالجملتان مركَّبتان تركيبًا يتَّسق وقواعدَ اللغة، غير أنَّ الجملةَ الثانية مقبولة دَلاليًّا وقاعديًّا، بخلافِ الأولى فهي جملةٌ مرفوضة، وغير أصوليَّة، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الفِعل يكتُب "لا يُنتقَى عادةً فاعلاً مُحوَّلاً عنِ اسم حدَث في سياقِه المألوف، في حين أنَّ الفعل (سرّ) يعدُّ ذلك مِن أخصِّ خصائصه[20].
وما ذلك إلاَّ لأنَّ المصدرَ المؤوَّل في حقيقتِه اسمُ حدَث، والحدَث معنى، والمعاني لا تكون مِن أفعالِ الحرَكة، بل مِن أفعال الحالة.وللحقِّ فإنَّ ثَمَّة باحثًا جادًّا قام بحصْر الضوابط الدلاليَّة للأفعال التي يقَع الفاعلُ المُحقِّق لها مصدرًا مؤوَّلاً مِن (أن) والفعل، وانتهى إلى ما يلي:
1- تَنتمي هذه الأفعالُ إلى فِئة الأفعال غيرِ الشخصيَّة، وهي تلك التي لا تَصدُر عن شخصٍ؛ مِثل الأفعال: يَجِب - يجوز - يَنبغي - يَحِل – يحرُم، وذكَر أنَّ هذا النوعَ لا يتَّسم بسِمة (+ متعدي)؛ "لأنَّها لا تُقيم علاقةً إسناديَّةً خارجةً عن ذات الشيء، أو الشخْص الذي هي مِن أجله"[21].
ومِن نماذج هذا النوع مِن الأفعال قوله تعالى:ï´؟ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ï´¾ [البقرة: 229].ï´؟ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ï´¾ [يس: 40].• يَجدُر أن تقولَ الصِّدق، ويَجِب أن تتواضَع - ويُمكِن أنْ أُصادِقك.
2- تَنتهي هذه الأفعالُ إلى حقْلِ الأفعال الدالَّة على حالةٍ نفسيَّة انفعاليَّة، كالحُزن والفَرَح، والسُّرور والإعْجاب، والإسعادِ والإغضاب، والرِّضا والإساءة، ومِن نماذجها:قولُ اللهِ تعالى عن يعقوبَ - عليه السلام -: ï´؟ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ï´¾ [يوسف: 13].وقول الشاعر:أَسَرَّكَ أَنْ تَلْقَى بَعِيرَكَ عَافِيًا 
وَتُؤْتَى بِبُرْنِيِّ العِرَاقِ المُحَطَّمِ[22] 
وقول الآخَر:لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بِمَسَاءَةٍ 
لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ[23] 
فالأفعال: يَحزَن - سرَّ - ساءَ، التي أقامتْ علاقةً تركيبيةً بينها وبيْن المصدر المؤوَّل مِن (أن والفعل)، هي مِن تلك الأفعال ذات الأبْعاد الدلاليَّة المتَّسِمة بسِمة (+ حالة انفعاليَّة).ويَنطبِق هذا المفهومُ على (عسى) الذي يكونُ مع (أن + الفعل) رُكنًا إسناديًّا يكون فيه المصدرُ المؤوَّل متبوِّئًا لموقِع الفاعل المحقِّق لما فيه (عسى) مِن معنى الطَّمَع، وهو مِن المعاني التي تتَّسم بسِمة (+ حالة)، ولعلَّ إكسابَها معنى الطمَع هو ما جَعَلَها صالحةً للدخول على (أن) فيما يذكُره ابنُ الأنباري[24]، وإذا كان الفِعل (عسى) لا يَقبلُ أن يُقيم علاقةً إسناديَّة مع فاعِله إلاَّ إذا كان مَصدرًا مؤوَّلاً من (أن) والفِعل، فإنَّ باقي الأفعال تَقبل الثنائيَّة بطرَفيها؛ فقد يكون فاعلُها صريحًا وقد يكون مُؤوَّلاً، وهنا يكونُ البحثُ والتقصِّي عن الدواعي الدلاليَّة التي كانتْ وراءَ الجنوح إلى المصدرِ المؤوَّل، والعُدول عنِ الصريح، وهو ما سوف نَعرِض له في حينِه مِن هذا البحث.ونأتي الآن إلى الأفعالِ التي يحتلُّ فيها المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) موقعَ المفعول، وبتأمُّلنا لبعضِ التراكيب القرآنيَّة الممثِّلة لتلك الفِئة من الأفعالِ مِن مِثل قوله تعالى:ï´؟ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ï´¾ [الإسراء: 59].ï´؟ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ï´¾ [آل عمران: 188].ï´؟ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ ï´¾ [البقرة: 105].ï´؟ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ï´¾ [البقرة: 108]. ï´؟ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ï´¾ [المدثر: 37].نتبيَّن أنَّ تلك الأفعالَ ليستْ مِن النمطِ الذي يتَّسم بسِمة (+حركة)، ويُمكِننا أن نُسمِّيها إلى جانبِ سِمة (+ حالة) التي تتَّسم بها أفعالٌ مثل يَوَدّ - يحبُّ، بسمة أخرى وَسَمها بها الرضيُّ، وهي سِمة (+ ترقب)، ومَثَّل لذلك بالأفعال (حَسِبت، وطَمِعت، ورَجَوت، وأرَدت)[25].
ومِن اللافتِ للنَّظرِ أنَّ تلك السماتِ الدلاليَّة التي قدَّمناها للأفعالِ التي تختار المصدرَ المؤوَّل مِن (أن والفعل) فاعلاً لها، أو مفعولاً، سوف تَصدُق بصفةٍ عامَّة على كلِّ التراكيبِ ذات المصادِر المؤوَّلة؛ سواء كان الرُّكن التركيبي فيها (أن مع الفعل)، أو (ما مع الفعل)، أو (لو مَع الفعل).وما ذلك إلاَّ لأنَّها أفعال معبِّرة عن موقِفٍ أو حالة، والحالةُ لا تكون حركةً أو عملاً، ومِن ثَم يُناسبها أن يكونَ الفاعل المحقِّق لها حَدَثًا، أو معنًى، أو تقَع على حدَثٍ أو معنًى.أمَّا عن الضابطِ الدلاليِّ للمصدرِ المؤوَّل إذا شغَل وظائفَ أخرى - كأن يقَع مبتدأً، أو مجرورًا بحرفٍ أو إضافة - فالحقُّ أنَّ النُّحاةَ لَم يشغلوا أنفسَهم بذلك، ويَبدو مِن حذف الألف أنَّ ذلك راجعٌ إلى أنَّ المصدرَ المؤوَّل نفسَه لا يتقيَّد بقيدٍ مِن تلك الضوابطِ الدلاليَّة، فقد يكون الفعلُ المتصل بـ(أن) فعلَ حالة، أو مُتَّسمًا بسِمة (+ عمل)، أو موقِف...، وهَلُمَّ جرًّا، وإنْ كان قد ورَد عن بعضِهم بعضُ التقييدات التركيبيَّة، كتلك التي ساقَها ابنُ القيِّم مِن أنَّه إذا وقَع المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) مبتدأً، لا يكون خبرُه ظرفًا، ولا جارًّا ومجرورًا، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ المجرور لا يتعلَّق بالمعنى الذي يدلُّ عليه (أنْ)، ولا الذي مِن أجْلِه صِيغ الفِعل، واشتقَّ مِن المصدرِ، وإنَّما يتعلَّق المجرورُ بالمصدرِ مُجرَّدًا مِن هذا المعنى - كما تقدَّم - فلا يكون خبرًا عنْ (أن) المتقدِّمة، وإنْ كانتْ في تأويل اسمٍ[26].
ولا أتَّفِق مع هذا القولِ؛ إذ إنَّه يمكن الإخبارُ بالجارِّ والمجرور عن المصدرِ المؤوَّل مِن (أن والفعل) شريطةَ تقدُّم الخبر؛ إذ تقول مثلاً: مِن دلائل التفوق أنْ نجحْت في الاختبار، أو أنْ تَنجح، ومِن ذلك قولُه تعالى: ï´؟ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ï´¾ [الروم: 20]، غير أنَّنا نتَّفق معه فيما ذَكَره أنَّه لا يُخبر عنِ المصدر المؤوَّل بشيءٍ ممَّا هو مِن صِفة المصدَر، وإنْ كان يجوزُ ذلك في الصَّريح؛ تقول: القيام سِريعٌ، ولا نقول: أنْ تقوم سريعٌ "لا يكون مِثل هذا خبرًا عن المصدَر"[27]، وسوف نَعرِف السرَّ الدَّلالي لذلك.
[1] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ "دلائل الإعجاز في علم المعاني" ص (80)؛ تصحيح الشيخ محمد عبده، والشنقيطي، جدة، مكتبة العلم، 1411هـ - 1990م.
[2] أحمد حساني؛ "السِّمات التفريعيَّة للفعل في البنية التركيبيَّة، مقاربة لسانية" ص (3) الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1993م.
[3] السابق ص (3 - 4).
[4] مُوفَّق الدِّين يعيش بن علي بن يعيش؛ شرح المفصَّل (8/ 77)، بيروت، عالم الكتب، دون تاريخ.
[5] لن أتَعرَّض في بحثي هذا لمواطنِ إضمار (إن) بقِسميها، فعندي لها تفسيرٌ آخَر، سوف أُخصِّص له بحثاً مستقلاًّ -إنْ شاءَ الله تعالى.
[6] رضي الدِّين محمد بن الحسن الإستراباذي؛ "شرح الكافية" (2/ 233)، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ.
[7] الرَّضي؛ شرح الكافية، (2/ 223).
[8] الإمام أبو محمَّد عبدالله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري؛ "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (1/ 28)؛ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دون تاريخ.
[9] الإمام محمود بن عمر الزمخشري؛ "الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" (3/ 374)؛ ترتيب وضبْط مصطفى حسين أحمد، بيروت، دار الكتاب العربي، ط (3)، 1407هـ - 1987م.
[10] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).
[11] ابن هشام؛ "مغنى اللبيب"، (1/ 29).
[12] أَثير الدين أبو حيَّان النحوي؛ "تفسير البحر المحيط" (5/ 122)، دار الفِكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط (2)، 1403هـ - 1983م.
[13] أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله السُّهيليّ، "نتائج الفكر في النحو" (ص: 129) تحقيق الدكتور/ محمد إبراهيم البنا، السعودية، دار الرياض للنشر والتوزيع ط2 1404هـ 1984م، وانظر: الإمام شمس الدين محمد بن قيِّم الجوزية، "بدائع الفوائد" (1/103) تحقيق بشير محمد عون، الرياض مكتبة المؤيد 1415هـ 1994م.
[14] أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزجَّاج؛ "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 304)؛ تحقيق الدكتور عبدالجليل عبده شلبي، القاهرة دار الحديث، ط (1)، 1414هـ - 1994م.
[15] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 77).
[16] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ كتاب المقتصد في شرح الإيضاح، (1/ 482 - 483)؛ تحقيق الدكتور كاظم بحر المرجان، العراق منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1982م.
[17] ميشال زكريا؛ "مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة"، ص (114)، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، ط (3)، 1405هـ - 1985م.
[18] د. أحمد المتوكل؛ "من البنية الحملية إلى البنية المكونية"، ص (17) الدار البيضاء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط (1)، 1407هـ - 1987م.
[19] أحمد حساني؛ "السمات التفريعيَّة للفعل"، ص (70 - 174).
[20] السابق، ص (41 - 42).
[21] السابق، (168 - 169).
[22] أبو زيد الأنصاري؛ "النوادر في اللغة"، ص (144)، بيروت دار الكتاب العربي، ط 1387 هـ - 1967م.
[23] أبو علي القالي؛ "الأماني"، (1/ 30).
[24] الإمام أبو البركات عبدالرحمن بن محمَّد بن أبي سعيد الأنباري، "أسرار العربية" (126)، تحقيق محمد بهجة البيطار. دمشق مطبوعات المجمع العلمي. دون تاريخ.
[25]الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 234).
[26] ابن قيم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 103).
[27] ابن القيم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 103).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|