رد: عبدالله بن أبي عتيق: قراءة في نقده النظري والتطبيقي
وفي الأغاني: "فانصرف الرجلُ خجِلًا مُذْعنًا"[11].
يمكن القولُ هنا: إن موطنَ الضعف في أبيات الحارث شديد الوضوح، ولا يشترط في ناقدها أن يكون عالمًا أو عارفًا بالشعر، يكفيه فقط أن يكون عارفًا للمعنى ليدرك مباشرة الخلل الذي يجتاح الفكرة التي تحتويها، لكن الإدراك الواعي برز هنا في الموازنة عبر اختياره لأبيات تزيد مِن الإحساس بالفارق الشاسع بين النصين، لقد اختار ابن أبي عتيق أبياتًا تتحدث عن الطلل أيضًا، لكن عمر يمنح لهذا الطلل الحياة - يؤنسنه - ويصنع معه حوارًا ليصور لنا المدى الذي وصل إليه تعلقه بهذا الربع، ثم المدى الذي وصل إليه تعلق هذا الربع بمن غادروه، فحتى المكان الذي عاشوا فيه عشِقهم وهام بهم وحزن لفِراقهم، وعلى المتلقي بعد ذلك أن يتخيل ما كانوا عليه من رقة وجمال جعلت المكان حزينًا لفِراقهم، إنه الشعر الذي له نوطة في القلب، وعلوق في النفس.
ورغم رأي ابن عتيق في شعر عمر فإنه حين يراه تعدى الخطوط التي يظل في محيطها أشعر الناس، فإنه يوجهه بنقدِه الذي يكون في بعض الأحيان لاذعًا، سمعه مرة ينشد:
بينما ينعَتْنَني أبصَرْنَني 
دون قيد الميل يعدو بي الأغر 
قالتِ الكبرى: أتعرِفْنَ الفتى 
قالتِ الوسطى: نَعم، هذا عُمَر 
قالتِ الصُّغرى وقد تيَّمتُها: 
قد عرَفْناه، وهل يخفى القَمَر؟ 
فقال له ابن أبي عتيق: "أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ينبغي أن تقول: قلت لها، فقالت لي، فوضعت خدي فوطئت عليه"[12].
ونلاحظ هنا أنه لم يقُلْ له: أنت مدحت نفسك، أو فخرت بنفسك، وإنما قال له: نسبت بنفسك، فعمر قد نسي المرأةَ أمام إعجابه بنفسه، فبدأ يتغزَّل بها على لسان تلك المرأة غزلًا إنثويًّا لم يُعْتَدْ في الشعر العربي أن يكون موجهًا لرجل، لم يُعجِبِ ابنَ أبي عتيق هذا الأمرُ، الذي حاول المعاصرون تفسيره، وبعضهم سعى لتحليل شخصية عمر من خلاله، فرأى العقاد أن عمر كان به "جانب أنثوي في طبعه"[13]، ويقترب رأي شوقي ضيف من رأي العقاد؛ حيث يرى أن عمر به جانب من انعكاس العاطفة وشذوذها، وأن المرأة كانت "قبل غزل ابن أبي ربيعة هي المعشوقة، أما في غزله، فقد تحولت إلى عاشقة، كما تحوَّل عمرُ نفسه من عاشق إلى معشوق"[14].
وهذا ما قاله ابن أبي عتيق لعمر عندما رآه انحرف عن السمت الذي يكون عليه العاشق لتصبح ذاتُه هي المعشوقَة التي يتوجه إليه بالنسيب.
وفي صورةٍ تعكس لنا ملمحًا آخر مِن فكر ابن أبي عتيق النقدي: ما يروى من أنه "حضر عمر بن أبي ربيعة وهو ينشد:
ومَن كان محزونًا بإهراق عَبْرةٍ 
وهَى غَرْبها فليأتِنا نبكِه غدَا 
نُعِنْه على الإثكالِ إن كان ثاكلًا 
وإن كان محروبًا، وإن كان مُقصدَا 
قال: فلما أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدًا الخريت، وقال له: قم بنا إلى عمر، فمضيَا إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئناك لموعدك، قال: وأي موعد بيننا؟ قال: قولك: "فليأتِنا نبكه غدا"، قد جئناك، والله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقًا في قولك، أو ننصرف على أنك غير صادق، ثم مضى وتركه"[15].
لقد لاحظ ابنُ أبي عتيق بحسِّه المرهف أن بيتَيْ عمر يفتقدان للصدق الشعوريالذي يجذب مشاعر المتلقي إلى النص فيتفاعل معه، وأراد أن يثبت لعمر عمليًّا أن تخليَه عن هذا الصدق - الذي هو نتاج لمعايشة الشاعر الوجدانية للحظة الإبداع الفني - سوف يضَعُه تحت طائلة النقد اللاذع، وهذا تطبيق لِما سماه طه أحمد إبراهيم بنقد الشعور.
وكثيرًا ما ينصب نقد ابن أبي عتيق على المعنى الغزلي، وكأن أول سؤال كان يتبادر إلى ذهنه بعد سماعه للشعر: هل يتواءم هذا المعنى معمفهوم العشق الصادق ومقتضيات الشعر الغزلي الرقيق؟
أنشد كثيرٌ ابنَ أبي عتيق كلمته التي يقول فيها:
ولستُ براضٍ مِن خليل بنائل ♦♦♦ قليلٍ ولا أرْضَى له بقليلِ
فقال له: هذا كلامُ مكافئٍ ليس بعاشق، القرشيان أقنعُ وأصدق منك: ابن أبي ربيعة حيث يقول:
ليت حظِّي كلحظةِ العين منها ♦♦♦ وكثير منها القليلُ المهنَّا
وقوله أيضًا:
فعِدِي نائلًا وإن لم تُنِيلي♦♦♦ إنه يقنع المحبَّ الرجاءُ
وابن قيس الرقيَّات حيث يقول:
رقي بعيشِكم لا تهجُرينا 
ومنِّينا المنى ثم امطلينا 
عِدينا في غدٍ ما شئتِ إنا 
نحبُّ وإن مطلتِ الواعدينا 
فإما تنجزي عِدَتي وإما 
نعيش بما نؤمِّل منك حينا"[16] 
لقد خالف كثيرٌ قانون العشق الذي يفرض على العاشق أن يرضى بأقل القليل، ويقنع بالوعد وإن لم يتحقق؛فهو يعيشُ على أملِ اللقاء وإن كان وهمًا بعيد المنال، أما ما يقوله كثير فبعيد عن مشاعر العاشق، وإن كان يعبر عن مشاعر نفسه وطبيعته التي تتسم بالخيلاء والتِّيهِ؛ فقد كان كما يقولون: "مِن أتيه الناس وأذهبهم بنفسه على كل أحد"[17].
ومِن خلال تعبير ابن أبي عتيق نستطيع أن ندرك الجانبَ الذي افتقده في قول كثير، وذلك عندما قال له: " لقد كان القرشيانِ أقنعَ منك وأصدق"، ولا شك أن المقصودَ بالصدق هنا هو الصدق الشعوري الذي يجعلنا نرى الأبيات تخرج مِن وجدان عاشق صادق العشق.
ومِن نقده التطبيقي الذي يدل على اهتمامه بدقة المعنى ووضوحه وإنارته: ما رُوِيَ مِن أنه قال "لعبيدالله بن قيس وقد مر به فسلم عليه فقال: وعليك السلام يا فارس العمياء، فقال له: ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد بأبي أنت؟! قال: أنت سميتَ نفسَك حيث تقول:
سواء عليها ليلُها ونهارُها
فما يستوي الليلُ والنهار إلا على عمياء، قال: إنما عنيتُ التعب، قال: فبيتُك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه[18]".
وهذه النماذج توضِّح لنا أننا أمام ناقدٍ له منهجُه ورؤيته المميزة للشعر، ويأتي نقده التطبيقي تصويرًا حيًّا لرؤيته للنص الذي يتمتع بسمات أسلوبية ومعنوية وشعورية تجعل منه نموذجًا للشعر الذي تتعلق به النفوس، ويبقى أثره ماثلًا في القلوب، كما أن افتقاد واحدة من هذه السمات يجعله يقع تحت طائلة نقده اللاذع.
----------------------------------------------
[1] محمد بن يزيد المبرد، الكامل في اللغة والأدب، القاهرة: دار الفكر العربي، 1417هـ، ج2 ص175.
[2] أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، بيروت: دار إحياء التراث 1415هـ، ج1 ص108، 109.
[3] السابق ج1 ص87.
[4] السابق ج1 ص138.
[5] السابق ج1 ص88.
[6] السابق ج1 ص 87.
[7] طه حسين: حديث الأربعاء، القاهرة: دار المعارف 1993، ج1 ص 293.
[8] طه أحمد إبراهيم: تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، مكة المكرمة: المكتبة الفيصلية 1425هـ، ص 55، 56.
[9] عبدالرحمن حبنكة الميداني: البلاغة العربية، دمشق: دار القلم 1416هـ، ج1 ص125.
[10] المرزباني: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، القاهرة: نهضة مصر، ص268، 269.
[11] الأغاني: ج1 ص109.
[12] الأغاني ج1 ص116
[13] عباس محمود العقاد: شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2013م، ص25.
[14] شوقي ضيف: التطور والتجديد في الشعر الأموي، القاهرة: دار المعارف 1987م، ص229.
[15] الأغاني: ج1 ص140.
[16] الأغاني: ج5 ص66.
[17] السابق: ج9 ص6.
[18] السابق: ج5 ص61.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-10-2022 الساعة 12:38 AM.
|