عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-10-2022, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,306
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (183)
صـ81 إلى صـ 100




قال : وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية ، أو لعل فيها رخصة ، وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ، ولو [ ص: 91 ] كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ، ولا من سواي ، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ، ولا يسوغ ، ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه; فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية [ المائدة : 49 ] فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض ؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه ، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه ، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته ؟ ! .

هذا ما ذكره ، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ، ولا أن يفتي به أحدا [ ص: 92 ] والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر ; فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى ، وأما المجتهد; فهو أحرى بهذا الأمر .
فصل

وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية; حتى صار الخلاف في المسائل [ ص: 93 ] معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف; فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع; فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها; فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة .

حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال : إن الناس لما اختلفوا في الأشربة ، وأجمعوا على تحريم خمر العنب ، واختلفوا فيما سواه; حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه ، قال : وهذا خطأ فاحش ، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السنة حجة على المختلفين من [ ص: 94 ] الأولين والآخرين ، هذا مختصر ما قال .

والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه; فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه .

ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال ، وعدم التحجير على رأي واحد ، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ، ويقول إن الاختلاف رحمة ، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك ، وهذا القول خطأ كله ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله .

وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ، ولكن نقرر منه هاهنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله ، وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض; إما أن يكون حاكما به ، أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي .

[ ص: 95 ] أما الأول; فلا يصح على الإطلاق; لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين; فكذلك ( أو بالنسبة إلى الأول فكذلك ) أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة ، وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ، ومن هاهنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد ، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان ; فانضبطت الأحكام بذلك ، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط ، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه .

وأما الثاني; فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز له [ ص: 96 ] إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول .

وأيضا; فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا .

وأما إن كان عاميا; فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب; فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين : لمة ملك ، ولمة شيطان; فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] [ ص: 97 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ الإنسان : 3 ] وهديناه النجدين [ البلد : 10 ] .

وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات ، والهوى لا يعدوهما ، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي; فهو قائل له : أخرجني عن هواي ، ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ؟ فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ، ولا ينجيه من هذا أن يقول : ما فعلت إلا بقول عالم; لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل ، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية ، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية ، وجهل بالشريعة ، وغش في النصيحة ، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره ، والتوفيق بيد الله تعالى .
فصل

واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب ، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله; فقال : إن أراد المانع ما هو على خلاف [ ص: 98 ] الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي; فمسلم ، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف; فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك ، بل قوله عليه الصلاة [ ص: 99 ] والسلام : بعثت بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك; لأنه نوع من اللطف بالعبد ، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد ، بل بتحصيل المصالح ، وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام; لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها ، وليس تتبع الرخص ، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها; فما قاله عين الدعوى .

ثم نقول : تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس ، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى; فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ، ومضاد أيضا لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] وموضع الخلاف موضع تنازع ، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس ، وإنما يرد إلى الشريعة ، وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض .
فصل

وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة ، وإلجاء الحاجة ، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب; فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم; فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة; فإن كانت هذه المسألة [ ص: 100 ] منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع; فلا حاجة إلى الانتقال عنها ، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ، ودعوى غير مقبولة .

وقد وقع في " نوازل ابن رشد " من هذا مسألة نكاح المتعة .

ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل : ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب; إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم : ما عندنا إلا الطعام; فربما صدقوا في ذلك; فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ، ولا حكام بالبادية أيضا ، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة ، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع .

[ ص: 101 ] فأجاب : إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى; فهذا ممنوع في المذهب ، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت .

قال : ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه; لأن الورع قل ، بل كاد يعدم ، والتحفظ على الديانات كذلك ، وكثرت الشهوات ، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه ، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب; لاتسع الخرق على الراقع ، وهتكوا حجاب هيبة المذهب ، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها ، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما; فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ، ويقبض البائع الثمن ، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.49%)]