
16-10-2022, 06:42 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,326
الدولة :
|
|
رد: الفقه على المذاهب الأربعة ***متجدد إن شاء الله
الفقه على المذاهب الأربعة
المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
الجزء الخامس
[كتاب الحدود]
صـــــ 12 الى صــــــــ 46
الحلقة (243)
حرمة الربح والناتج من هذه التجارة
لقد علم أن بيع هذه المخدرات حرام، فيكون الثمن الناتج من هذه التجارة حراماً، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي لا يؤخذ ولا يتبادل ببعضكم مال بعض بالباطل، وذلك من وجهين:
الأول: أخذه على وجه الظلم، والسلب، والسرقة، والنهب، والخيانة، والتدليس وما جرى مجرى ذلك.
الثاني: أخذه من وجهة محظورة، كأخذه بالعب القمار، أو بطريق غير مشروع، كالعقود المحرمة كما في المعاملة بالربا، وبيع ما حرم اللَّه الإنتفاع بهن كالخمر المتناول للمخدرات المذكورة. فإن هذا كله حرام مثل السرقة سواء بسواء، وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
ولما ورد من الأحاديث النبوية التي تنص على تحريم ثمن ما حرم اللَّه الإنتفاع به، كقوله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن اللَّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) رواه ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عن ابن عباس.
وقد جاء في كتاب (زاد المعاد) ما نصه: (قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً حرم أكل ثمنه. لخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلماً حرم أكل ثمنه. وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل اللَّه فثمنه من الطيبات. وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها حرم أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها) ا. هـ.
وإذا كانت الأعيان التي يحل الإنتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية اللَّه على رأي جمهور الفقهاء - وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الأدلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الإنتفاع بها كالمخدرات حراماً من باب أولى.
وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراماً، كان خبيثاً، وكان إنفاقه في القربات، كالصدقات وبناء المساجد، وحج بيت اللَّه الحرام غير مقبول أي لا يثاب المنفق عليه، فقد روى مسلم عن أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (إن اللَّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللَّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: " يا أيها الرسل كل من الطيبات واعملوا صالحاً" الآية. وقال تعالى: " يا أيها الذين أمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم وأشكروا الله أن كنتم أياه تعبدون"، ثم ذكر الرجل يطل السفر أشعث أغبر يمد يده الى السماء، يارب، يارب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب ذلك؟.
وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي مسعود رضي اللَّه عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده في النار، إن اللَّه لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) .
وروي عن أبي هُرَيْرَة عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (من كسب مالاً حراماً فتصدق به لم يكن له أجر، وكان اصره - يعني اثمه وعقوبته - عليه) .
وما في مراسيل القاسم بن مخيمرة قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (من أصاب مالاً من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به أو أنفقه في سبيل اللَّه، جمع ذلك جميعاً، ثم قذف به في نار جهنم) .
وروي عن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قَالَ: (أنه إذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال: لبيك، ناداه ملك من السماء: لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك) .
فهذه الأحاديث التي يشد بعضها بعضاً تدل على أنه لا يقبل اللَّه صدقة، ولا حجة، ولا قربة آخرى من القربات من مال حرام، من أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الإنفاق على الحج من المال الحرام حرام.
ونستطيع أن نلخص ما ذكرناه فيما يأتي:
أولاً: تحريم تعاطي الحشيش والأفيون والقات، وغيرها من المخدرات المسكرة والمفطرة.
ثانياً: تحريم الإتجار فيها واتخاذها حرفة تدر الربح.
ثالثاً: حرمة تهريبها، ومساعدة التجار على رواجها، والتدليس عليها.
رابعاً: حرمة زراعتها لإتخاذ المادة المخدرة لتعاطيها، أو الإتجار بها.
خامساً: إن الربح الناتج من الإتجار في هذه المواد حرام خبيث، وإن إنفاقه في الطاعات غير مقبول.
هذا وقد أطلت القول في شرح هذا الموضوع وإقامة الأدلة عليه، تبياناً للحق، وكشفاً للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين الذين يفتون بحل هذه المخدرات، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين، وأباضاليل المضلين، وحتى أضع حداً لهذه المخدرات التي شاعت في هذا الزمان، وانتشرت بين جميع الأوساط والطبقات، حتى كادت تودي بالأمة الإسلامية، وتطيح بكرامتها وعزتها. واللَّه ولي التوفيق.
مضار البيرة
لقد أعلن البروفيسير ايت موترين مدير جامعة لاما في "كندا" أمام المؤتمر العالمي لأمراض القلب المنعقد في لندن - أنه قام بالدراسة تبين منها أن 48 رجلاً وامرأتين كانوا يعانون من أعراض تشبه مرض "البري بري" اتضح فيما بعد أنهم مصابون بمرض في القلب بسببه أحد مكونات أنواع معينة من "البيرة". وقال: (إن هؤلاء المرضى كانوا يحتسون يومياً 11. 3 ليتراً من البيرة، وأن سبب المرض هو مادة "الكبريتات والكربات" التي تستخدم لزيادة تأثيرات المادة المسكرة في أنواع معينة من البيرة وأثبتت التجارب أنها تسبب تضخماً في القلب وتمدداً في الصمامات.
وقد ذكر الإمام مُحَمَّد رشيد رضى في تفسيره، بعد تفسير آية الخمر التي في المائدة وقد اطنب فيها ما نصه: أطلنا هذه الإطالة في بيان حقيقة الخمر، لأنه قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال الناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعاً كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضرراً في الجسم والعقل باتفاق الأطباء، وأشد إيقاعاً في العداوة والبغضاء، وصداً عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة. والقول بأنه لا يحرم منها قطعاً إلا ما كان من عصير العنب، وأنه إنما يحرم من غيرها القدر المسكر فقط، يجرئ الناس على شرب القليل من تلك السموم المهلكة، والقليل يدعو إلى الكثير، فابلإدمان فالإهلاك، وفي هذا القول مفسدة عظيمة، وليس في تضغيفه، وترجيح قول السلف والخلف عليه إلا المصلحة الراجحة، وسد ذرائع شرور كثيرة، اه.
هذا وإن حوادث العداوة والبغضاء التي تنشأ عن السكر، ما يحدث بين السكارى من القتل والضرب، والعداوة والسلب، والفسق والفحش، والتجرؤ على ارتكاب المحرمات، والإقدام على الزنا، ومن إفشاء أسرار الأسر والعائلات، وهتك الأستار المخبئة، وخيانة الحكومات، والأوطان - ما زالت حديث الناس في كل زمان ومكان وكثيراً ما يلجأ بعض الجواسيس إلى إسكار كبار القادة، وعظماء الساسة، لكي يسلب منه أسرار الجيوش، وسياسة الشعوب. ورب جرعة خمر من رئيس أضاعت أمة بأجمعها، وأهلكت شعباً بأكمله، وكانت سبباً في هزيمة جيش جرار. ولهذا شدد الدين الإسلامي في تحريم شرب الخمر، وذكرها في ثلاث آيات من كتاب اللَّه تعالى، وشدد رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في النهي عنها فقال صلوات اللَّه وسلامه عليه: (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الأخرة) رواه البخاري وأصحاب السنن، وزاد اٌاما مسلم في رواية (فلم يسقها) ومعناها أن اللَّه حرم عليه الجنة فلا يدخلها فيشربها فيها، وقيل معناه: لا يشربها فيها وإن مات مؤمناً ودخل الجنة، لأنه استعجل شيئاً فجزي بحرمانه، إلا أن يعفو اللَّه عنه.
وروى أحمد والبخاري وملسم وأبو داود والترمذي والنسائي، عن أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه تعالى عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قيل النفي لكمال الإيمان، وقيل هو خبر بمعنى النهي، وقيل: إن الإيمان يفاق مرتكب هذه الكبائر مدة ملابسته لها، وقد يعود إليه بعدها. وإذا مات وهو مرتكبها مات على غير الإيمان.
ومن العجيب أننا نرى جميع المتعلمين مذنباً في العصر. وأكثر الناس في البلاد المتحضرة الراقية التي تنتشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديدة الضرر في الجسم، والعقل، والمال، والصحة العامة، وأداب الإجتماع، ولم نر هذا الإعتقاد باعثاً على التوبة منها والإقلاع عنها، حتى أن الأطباء منهم - وهم أعلم الناس بمضارها - كثيراً ما يعاقرونها، ويدمنونها مع علمهم أن السكر يحدث الأمراض، والأدواء، ويؤدي بصاحبه إلى الجنون، ويفسد عليهم شبابهم، وعفتهم، وبيوتهم، وثروتهم، ولكن ضعف الإرادة عند هؤلاء، وغريزة حب التقليد للأصحاب والخلان، ما يحدثه الخمر من لذة النشوة، والذهول عن المكدرات، ومجاملة الأخوان، جعلهم يدمنون عليه، ويقدمون على شربه، ويغضبون رب العالمين.
(وقد لخص العلماء أضرار الخمور فيما يأتي
أولاً: تنتزع من الشارب الخمر أنواع الإيمان حين شربه.
ثانياً: استحق لعنة اللَّه وطرده من رحمته، لمخالفته أمره تعالى.
ثالثاً: شرب الخمر يدعو إلى جلب الهموم، وتضييق الأرزاق وإنتشار الأزمة والسخف والمسخ، ويسبب التخنث.
رابعاً: لا يقدم على شرب لاخمر إلا الفاجر العاصي، الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر.
خامساً: شرب الخمر يجر إلى الوقوع في ارتكاب المعاصي كلها، لأنها أم الخبائث.
سادساً: يعذب اللَّه شارب الخمر يوم القيامة، بشربه القذارة الخارجة من فروج الزناة. - والعياذ باللَّه -.
سابعاً: حرم اللَّه تعالى الجنة على شارب الخمر، فلا يشم رائحتها.
ثامناً: عقاب شارب الخمر، كعقاب عابد الوثن والصنم.
تاسعاً: يحشر اللَّه شارب الخمر شديد الظمأ، كثير العطش.
عاشراً: لا يقبل اللَّه عبادة شارب الخمر أربعين يوماً، ولا يجيب له دعاء.
الحادي عشر: يستحق شارب الخمر الإهانة والإزدراء، والتحقير كما قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (لا تسموا على شربة الخمر) .
الثاني عشر: شارب الخمر حل عليع غضب اللَّه، ولو مات في هذه الحالة حرم من ثواب اللَّه تعالى ورحمته.
الثالث عشر: السكران إن مات على حالته يعذبه اللَّه بسكره، ويذوق مرارة فعله هذا في غيره. ويموت على غير اٌيمان.
الرابع عشر: شارب الخمر تنبع له عين في نار جهنم تمده باقيح والصديد وأنواع الأذى (يجري منها القيح والدم) .
الخامس عشر: شارب الخمر مسكين، مضيع فاقد الخير، (فكأنما ملك الدنيا، وسلبها) .
السادس عشر: شرب الخمر إحدى الخصال المدمرة التالفة، المذهبة للثروة، المضيعة للعقل المهلكة للأمة.
السابع عشر: شرب الخمر يفسد الصحة، ويحرم صاحبها من التمتع بعافيته، ويجلب له النقم والهلاك والدمار.
الثامن عشر: إن أضرارها تنتقل من الرجل إلى أولاده وذريته، فيولدون مرضى.
التاسع عشر: شارب الخمر لا يقبل اللَّه منه صرفاً ولا عدلاً، ولا فرضاً ولا نفلاً.
العشرون: من فارق الدنيا وهو سكران، يدخل القبر سكران، ويبعث من قبره سكران، ويزج في النار سكران، ويؤمر به إلى حبل يقال له سكران فيه عين يجري منها القيح والصديد وهو طعامهم وشرابهم، مادامت السموات والأرض، كما أخبر بذلك رَسُول اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الحديث الشريف (ملخص من شرح الترغيب والترهيب) .
الآيات الواردة في تحريم الخمر في كتاب اللَّه تعالى
-1 - قَالَ اللَّه تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما} : آية 219 من سورة البقرة.
-2 - قَالَ اللَّه تعالى: {يا أيها الذين آمنو إنما الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} . آية 90 من سورة المائدة.
-3 - قَالَ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسنين} . آية 195 من سورة البقرة.
-4 - قَالَ تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} . آية 2 من سورة النساء.
-5 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم} . آية 172 من سورة البقرة.
-6 - وقال تعالى: {وكلوا مما رزقناكم حلالاً طيباً} . آية 88 من سورة المائدة.
-7 - قَالَ تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن اللَّه كان بكم رحيماً} . آية 29 من سورة النساء.
-8 - قَالَ تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} . آية 51 من سورة المؤمنون.
-9 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} . آية 43 من سورة النساء.
إقامة الحد في الحرب
اتفق الأئمة على أن الحدود لا تقام في حال الغزو، ولا في دار الحرب.
مع أن الشريعة اٌسلامية تأمر أتباعها من الضباط، والجند، والقادة، بالمحافظة على طاعة اللَّه تعالى، والتمسك بأوامر الشارع الحكيم، والتحلي بالتقوى حتى يكتب اللَّه لهم النصرة على الأعداء حيث يقول اللَّه تعالى: {ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز} .
ويقول تبارك وتعالى: {إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم} ولهذا كان الأمراء والقادة يوصون الجند والضباط، بالمحافظة على الصلاة في ميدان القتال. ويأمرونهم بالبعد عن ارتكاب المعاصي والذنوب، حتى ينصرهم اللَّه تعالى على أعدائهم، {وما النصر إلا من عند اللَّه} .
وقد ثبت أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أرسل إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قائد جيش المسلمين في حرب الفرس بالقادسية فأرسل إليه يوصيه وجنده ويقول له: أوصيك ومن معك بتقوى اللَّه تعالى على كل حال، فإن تفوى اللَّه من أفضل العدة على العدو، ومن أقوى المكيدة في الحرب. وأمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخطر عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بطاعتهم للَّه تعالى وإيمانهم به ومعصية عدوهم له، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة.
ومع كل هذا فإذا وقع أحد المسلمين المجاهدين في ذنب يوجب الحد، فلا يقام عليه الحد في دار الحرب، والدليل على ذلك ما فعله سيدنا سعد بن أبي وقاص مع أبي مجحن الثقفي. فقد كان من الشجعان الأبطالفي الجاهلية والإسلام، ومن أولي البأس والنجدة. وكان شاعراً مطبوعاً كريماً، إلا أنه كان منهمكاً في الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وقد جلده عمر بن الخطاب في "الخمر" مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو يحارب الفرس، وكان قد هم بقتل الحارث الذي بعثه معه عمر، فأحس الرجل بذلك فخرج فاراً ولحق بعمر، وأخبره خبره. فكتب سيدنا عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس أبي محجن فحبسه. فلما كان (قس) الناطف بالقادسية والتحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده، وتعطيه فرس سعد، وعاهدها أنه إذا سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة غليه، فخلت سبيله وأعطته الفرس. فقاتل أيام القادسية، وأبلى فيها بلاءً حسناً ثم عاد إلى محبسه، وكان نصر المسلمين على يده، فترك سعد بن أبي وقاص إقامة الحد عليه حيث أن الحدود لا تقام في حال الغزو. والتعزير يرجع إلى الاجتهاد وقد رأى سيدنا سعد عدم إقامة حد الشرب على أبي محجن ولا تعزيره بعد أن بذل نفسه في سبيل اللَّه تعالى، وأبلى ما أبلى. ولا مطهر من الذنب أقوى من هذا، فقد ضمن اللَّه للمجاهد إن مات أن يدخله الجنة، وإن رجع يرجعه بما نال من أجر وغنيمة مغفور له، وقد أثر هذا العفو في نفس أبي محجن فتاب إلى اللَّه تعالى توبة نصوحة، وأقلع عن الشرب بعد ذلك. وهكذا يكون المؤمن قوي الإيمان، قوي العزيمة. يقلع عن الذنب بعد الادمان عليه، إذا خاف ذنبه. ورجع إلى ربه.
وقد روي أن الْنَّبِيّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (نهى أن يقام حد في أرض العدو) أخرجه ابن أبي شيبة رحمه اللَّه تعالى) .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|