علم الشفرة
يعنى علم الشفرة Cryptology بتحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة معينة يستطيع من يعرفها ان يفهم النص والعملية العكسية التي يتم بها تحويل النص المكتوب بالشفرة إلى نص واضح مفهوم تعرف باس «تحليل الشفرة».Cryptanalysis
ويحظى هذا العلم باهتمام كبير في عصرنا الحاضر بالنسبة لحكومات والمؤسسات والأفراد على حد سواء، نظراً للحاجة إليه في الحفاظ على المعلومات في المجالات العسكرية، وفي الميادين الصناعية والتجارية والسياسية والاقتصادية، وفي أغراض الاتصالات، وغير ذلك. وتستخدم الدول المتقدمة أحدث التقنيات والحاسبات العملاقة لتطوير قدراتها وتحقيق تميزها في هذا العمل .
وقد عرف علم الشفرة وتحليلها عند العرب باسم «التعمية واستخراج المعمى» ، وكان لهم دور رائد في تأسيسه وتطويره والتاليف فيه من زوايا مختلفة، فصنفوا عدداً لا بأس به من المخطوطات، منها:« رسالة الكندي في علم التعمية واستخراج المعمى» وهي أول رسالة عربية يعود تاليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وكتاب «المؤلف للملك الأشرف في حل المترجم» (ت 666هـ إلى 1268م)، وكتاب «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» لجابر بن حيان الكيميائي (ت 200هـ إلى 815 م) وكتاب «حل الرموز وبرء الأسقام في كشف أصول اللغات والأقلام» لذي النون المصري ثوبان بن إبراهيم (ت 245هـ إلى 859 م)، وكتاب «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» لأحمد بن علي بن وحشية (ت بعد 291 هـ إلى 914 م)، وكتاب «خصائص المعرفة في المعميات» لأسعد بن مهدى بن مماتي (ت 606 هـ إلى 1209 م)، وكتاب «مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة» لإبراهيم بن محمدين (ت 627 هـ إلى 1228 م)، وغير ذلك كثير. هناك من اشتهر بخبرته وكثرة مؤلفاته في هذا العلم، مثل علي بن محمد الدريهم (ت 762 هـ إلى 1361م) صاحب كتب «مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز» و «إيضاح المبهم في حل المترجم»، و «مختصر المبهم في حل المترجم» و «نظم القواعد في المترجم وضوابطه».
وقد اعترف كبير مؤرخي علم الشفرة المعاصرين «دافيد كان» D. Kahn في كتابه The Code Breakers بان هذا العلم ولد بشقيه بين العرب، ونسب اليهم الفضل الأول في اكتشاف طرق حل الشفرة وتدرينها قبل الغرب بمدة طويلة، وأقر بان هذه الحقيقة التي توصل إليها عن ريادة العرب في علم الشفرة تعتبر أهم انجاز تاريخي في كل ما احتواه كتابه .
It showed that the Arab had practiced cryptanalysis long before the west، and provided me with the most important historical break through in my whole book.
والباحث عن مؤلفات المسلمين الأوائل في علم الشفرة (أو التعمية) يجد انهم استحدثوا عدة طرائق ، لعل أبسطها طريقة القلب أو البعثرة، وتكون بتغيير مواقع حروف الرسالة وفق قاعدة معينة، كان تبدل الأول من الكلمة بالآخر منها، مثل: (رضوان ـ نضوار)، أو تقدم الحرف الأخير، نحو: (قاسم ـ مقاس)، أو تقلب حروف كل كلمة ضمنها، أي تكتبها معكوسة، مثل: (أحمد أخو علي ـ دمحا وخا يلع).
وهناك أيضاً طريقة التعمية بالاستبدال أو التعويض، وتقوم على ان يبدل كل حرف بحرف أخر، أو رمز من خارج النص وفق قاعدة محددة كان يبدل الحرف بما قبله على ترتيب حروف المعجم، مثل: (محمد ـ لجلخ)، أو يبدل كل حرف بما بعد، مثل: (محمد ـ نخنذ). وقد يكون التبديل بوضع الحروف على أسماء الأعلام، فيجعل لكل حرف اسم رجل أو غيره، أو على أسماء النجوم، أو الشهور، أو البلدان، أو الأذهان، أو العقاقير، أو الأشجار. ويمكن ان يكون التبديل على أسماء الأجناس، فيجعل لكل حرف اسم جنس مثل: الانام، والبشر، و البقول، والتراب والتوابل، والثياب، والجلود، والحديد، أو الحبوب، والخشب… إلى آخره.
وأشهر أنواع التعمية بالتبديل استعمال أشكال مبتكرة للحروف يخترعها المترجم أبجدية جديدة له على ترتيب حروف المعجم، وطريق ذلك كما يقول ابن الدريهم: ان «يثبت حروف المعجم، ثم يرتب تحت كل واحد شكلاً لا يماثل الآخر، فكلما جاء في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع له غلط، ثم يفصل بين الكلمات إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك» .
وعرف المسلمون طرائق أخرى مركبة أكثر تعقيداً تشمل تعمية المعاني بالتورية، واستعمال الصفات الكمية أو الكيفية للحروف، واستعمال الكلمات المحتملة، وغيرها ولعل الكندي كان أول من قام بإحصاء الحروف في الكلام المزيد لاستعمالها في حل الشفرة، وذلك اعتماداً على ما ورد في نص معين، فيكون الأول لأكثرها عداً، والثاني للذي يليه، وهكذا تتوالى مراتب الحروف في الاستعمال لتقابل بمراتب الرموز المستخدمة في الرسالة المعماة.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان مراتب الحروف تختلف باختلاف المادة اللغوية المحصاة، فمراتبها في إحصاء حروف القران ـ وهو أسبق من إحصاء أهل التعمية، لانه يعود إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم ـ تختلف قليلاً عن مراتبها في إحصاء الكلام العادي لنصوص فيها المزيد والمجرد، ومراتبها في كلا الإحصائين تختلف عما هي عليه في إحصاء الحروفذ إذا كانت مادة الإحصاء هي الجذور العربية لاشتمالها على الأصلي من الحروف دون الزائد.
وقد توفر المسلمون على العناية بحل الشفرة على أساس علمي تلبية لضرورات حضارية إبان استقرار الدولة الإسلامية واستحبار العمران ونشاط حركة الترجمة، بغية كشف ما رمزه الأقدمون من علومهم وكنوزهم في آثارهم التي ترجمت انذاك. وتشهد كنوز التراث الإسلامي ان الكندى سبق الإيطالي «ألبرتو» بسبعة قرون إلى وضع أول مخطوط في استخراج المعمي، وهو أيضاً أول من عرف مبدأ استعمال الكلمة المحتملة، وأول من فرق بين طريقتي التعمية بالبعثرة والاستبدال قبل «بورتا» في القرن السادس عشر الميلادي. كذلك كان ابن الدريهم أول من عرض طريقة التعمية باستعمال شبكة بسيطة، سابقاً بذلك «كاردانو» بقرنين من الزمان.
انها صفحات منسية من تراث المسلمين تنتظر من بعيد قراءتها بلغة عصرية، ليؤكد قيمتها التاريخي في سيرة علم الشفرة الذي بلغت أهميته الذروة في عصرنا الحاضر، عصر الحاسبات الإلكترونية وما تحويه نظم المعلومات من قواعد بيانات تحتاج إلى الحفظ من العبث أو السرقة عن طريق تعميتها، سواء أثناء تخزينها أو عند نقلها عبر خطوط شبكات الحاسبات .
علم البيزرة
تتفق المصادر على أن ـ كلمة البيزرة مأخوذة من اسم «الباز» أو «البازي» وهو نوع من الصقور، ولعل الاقتصار في إطلاق اسمه على هذا العلم دون غيره، يرجع إلى كونه أشهر طيور الصيد وأمهرها في الإمساك بالفريسة. وقد وصفه أبو عبد الله القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» بانه أشد الجوارح تكبراً وأضيقها خلقاً (مزاجاً)، ويوجد بأرض الترك، والغالب عليه بياض اللون.
و «البيزرة» هي حرفة «البيزار» الذي يدرب جوارح الطير على الصيد، وهي كلمة فارسية الأصل، أخذت من كلمة «البازيار»، أو «البازدار»، وهما تعنيان: القائم بأمر «البازى» أو الحامل له في الصيد، ثم عربت الكلمة إلى «البيزار» ويري الدميري في كتابه >. حياة الحيوان الكبرى» ان كلمة «البيزرة» عربية الأصل.
و« علم البيزرة» ، هو الذي يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث أصنافها، وتربيتها، وحفظ صحتها ومداوتها من الأسقام والأمراض التي تعرض لها، ومن حيث صفاتها وعلاماتها الدالة على قوتها في الصيد أو ضعفها فيه، وقد ألحق البعض هذا العلم بطب الحيوان (البيطرة). وقالوا: هو فرع منه، داخل فيه، ومن جملته.
ولا يعرف على وجه الدقة أول واضع لقواعد علم البيزرة وفنونه، فقيل: انه علم هندي المنشأ، وقيل: ان «بطليموس» الذي خلف «الإسكندر» هو أول من اقتنى البزاة، ولعب بها وضراها على الصيد، ثم لعب بها الملوك بعده.
وكان الصيد عند العرب حرفة وهواية مشهورة وقد أشار القران الكريم إلى تدريب الجوارح، فقال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (المائدة: 4).
وقد عني الأمويون والعباسيون بتربية الجوارح، وجعلوا لها أعطيات من بين المال، وكان يطلق على «البازيار» في عهد الدولة الأموية «صاحب الصيد»، كما عرفت في الدولة العباسية وظيفة «أمير الصيد» الذي يدبر أمر الصيد ويقوم عليه، واقتدت الدولة الفاطمية بالدولة العباسية في باب العناية بالطيور وصيدها بالجوارح وما يصلحها. ثم ثار للصيد بالطير أهمية كبري في عصر المماليك، وكانت وظيفة «صاحب الصيد» أو «أمير الصيد» من الوظائف التي يشغلها العسكريون، وكان القائم بها يضطلع بالإشراف على الجوارح من الطيور وغيرها وسائر انواع الصيد السلطانية، وكما كان يقوم بتنظيم جميع أمور الصيد، ويعاونه غلمان يكلفون بتزويد بيوت الطيور بالحمام وغيره من طيور الصيد لتغذية الصقور والجوارح وتدريبها ولم تكن وظيفة «أمير الصيد» تقتصر على رسوم السلطانية وحدها دون غيرها، بل كان عند بعض الأمراء في العصر المملوكي من يشغل تلك الوظيفة.
وقد تنوعت مساهمات العلماء المسلمين في علم البيزرة وتوسعوا في مباحثه التي اتصلت بعلوم أخرى، كالطب، والصيدلة، ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) واللغة، والفقه، ومن ثم نشأ عن ذلك تراث ثري في مجال البيزرة، فمنه ما عني بالجانب اللغوي، مثل: كتاب «الطير» للسجستاني، وكتاب «الوحوش» للأصمعي، وكتاب «البازي» وكتاب «الحمام»، وكتاب «العقاب» لأبي عبيدة ومنه ماعني بالناحية الفقهية وحكم الشرع في اصيد بالجوارح، مثل: كتاب «الصيد والذبائح» للإمام الشافعي، وكتاب «الصيد والذبائح» لمحمد بن الحاسب صاحب «أبي حنيفة». ومنه ما تناول علم البيزرة العام، مثل كتاب «الكافي في البيزرة» لعبد الرحمن بن محمد البلدي، وكتاب «الجمهرة في البيزرة» لعيسي الأزدي، وكتاب «المصايد والمطارد» لكشاجم، وكتب «البيزرة» لبازيار العزيز بالله الفاطمي، وكتاب «نزهة الملوك والسادات بالطيور والجوارح والجياد الصافنات» لمؤلف مجهول (وهو مطبوع) وكتأبي «البيزرة» و «ضواري الطير» «للغطريف بن قدامة الغساني» . ونجد «البلدي» على سبيل المثال في كتابه «الكافي في البيزرة» قد أوضح الأسس المنهجية لهذا العلم، فذكر ان البيزرة صناعة تنقسم إلى أربعة أقسام يقع كل منها في أربعة أبواب:
أما القسم الأول فيتناول معرفة أجناس الجوارح، ويبحث الباب الأول منه في عدد أصناف الجوارح، والباب الثاني في الفرق بين كل جنس منها والآخر، والباب الثالث في ذكر النافع من أصنافها، والباب الرابع في عدد ألوانها.
ويعني القسم الثاني بمعرفة النوع الفاضل المختار من الجنس النافع من الجوارح، ومعرفة الردئ منها. وبتناول الباب الأول من هذا القسم معرفة الجيد والردئ من قبل معدنه. والثاني معرفة الجيد والردئ من قبل صورته وهيئته، والثالث معرفة الجيد والردئ من قبل لونه، والرابع عرفة الجيد والردئ من قبل أخلاقه وأفعاله.
ويعني القسم الثالث بمعالجة «تدبير الجوارح النافعة ورياضنتها» ويبحث الباب الأول منه في ذكر أول من لعب بالضواري وتصيد بها، والثاني في وصية المتعلم لهذه الصناعة والمتعرض لها، والثالث في نعت الإجابة والتعلم لكل نوع، والرابع في تقدير طعم الضواري على طبيعة كل واحد منها.
ويتناول القسم الرابع «مداواة أمراض الجوارح» وفيه أربعة أبواب: الأول: في صفة طبائع الجوارح الضواري وأمزجتها وامتحانها عند ابتياعها، والثاني: في ذكر أسباب أمراضها وعلامات كل مرض، والثالث: في صفة مداواتها وعلاج أمراضها وتدبير أدويتها، والرابع: في تدبير قرنصتها وعلامات موتها وهلاكها.
ويتضح من هذا العرض المنهجي لموضوعات علم البيزرة انه متصل بعلوم أخرى أهمها علم البيطرة، وقد عني «البلدي» بالبحث في طب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات قيمة عن انواع الطفيليات التي تصيبها، منها قوله عن الديدان في دبر الطائر:«علامة الدود إذا كان في دبر الجارح، ان تراه يحك دبره دائماً وذرقه متصل على حاله لا خضرة فيه بل متغير الشكل الطبيعي، وربما خرج الكبار يأكل القمل الصغار. والقمل ينشف رطوبة الطير حتى يتركه جلداً وعظماً ان لم يعالج».
كذلك عني الغطريف الغسائي في كتابه «ضواري الطير» بطب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات دقيقة، منها قوله عن ديدان الحوصلة:«إذا رأيت الطائر قد ألقي ريمحه فكان له الدود، فاعلم ان في حوصلته دوداً». وقوله عن الديدان المعوية:« إذا رأيت الطير قد ورم ما فوق كتفيه، فاعلم ان في بطنه ديداناً عراضاً مثل حب القرع (الديدان الشريطية) التي تكون في الصبيان» وقوله أيضاً: «ان ترى الطير ينتف ريش مراقه، أو ينتف ريش فخذيه، فذلك يدل على العراض، أمثال دود الخل يعرض للصبيان في بطنه» .
إلى جانب المؤلفات التراثية التي استقلت بموضوعات علم «البيزرة» من جوانبه المختلفة، هناك من عرض فصولاً مطولة عنه، كالجاحظ ي كتابه «الحيوان»، والقزويني في كتابه «عجائب المخلوقات» والدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى».
وقد صيغ علم «البيزرة» شعراً، فوضع «ابن نباتة» أرجوزته «فرائد السلوك في مصايد الملوك»، وألف الفحيمي قصيدة في البيزرة.
ومن الجدير بالذكر ان عدداً من الكتب التراثية المعنية بعلم البيزرة قد ترجم في عصر النهضة الأوربية الحديثة إلي اللغة اللاتينية، ثم انتشرت هذه الترجمات بعد ذلك في مختلف بلدان أوروبا، وانتشرت معها رياضة الصيد بواسطة الصقور.
علم الطفيليات
هناك من بين المعنيين بدراسة إسهامات المسلمين في الحضارة الانسانية من أعطى اهتماماً كبيراً لعلوم الطب والصيدلة والأحياء في التراث الإسلامي بصورة عامة، ولا شك في ان الأبحاث والدراسات المعاصرة في كشفت عن الكثير من انجازات علماء الحضارة العربية الإسلامية في هذه الميادين التي أصبحت في عصرنا تتألف من فروع عديدة يشكل كل منها علماً مستقلاً. وهنا نجد ان مبحثاً حديثاً مثل «علم الطفيليات» Parasitology يكاد يكون منسياً أو مغموراً في المؤلفات التراثية، اللهم إلا من بعض الدراسات المحدودة التي تحتاج إلى مزيد من التطوير والتعميق .
ومن يتناول مؤلفات علماء الحضارة الإسلامية باحثاً عن أصول علم الطفيليات، سوف يجد الكثير من الحقائق العلمية والمنهجية التي تنسب زوراً وبهتاناً لعلماء الغرب دون أدنى إشارة إلى مكتشفيها الأصليين في العصر الإسلامي، فقد عرضت مراجع التراث الطبي للمسلمين ملاحظات دقيقة عن انواع الطفيليات التي تعيش داخل الجسم والتي تعرف اليوم «بالطفيليات الباطنية» Endoparasites التي تعيش على ظاهر الجسم، ولا يقلل من أهمية هذه الملاحظات الدقيقة انها كانت تعتمد في اكتشافها على ملاحظة الديدان الطفيلية بالعين المجردة، أو على الأعراض المرضية الدالة على وجودها. من ذلك ما جاء في المراجع التراثية عن أوصاف بعض «الطفيليات الأولية» Protozoa، مثل انواع الأميبا التي تعيش في جدار وتجويف الأمعاء الغليظة وتسبب مرض الدوسنتاريا Dysentry ، وما جاء عن أعراض بعض الأمراض، مثل حمى الملاريا التي كشف العلم الحديث عن طفيليانها التي تصيب الانسان من جنس «البلازموديوم» Plasmodium.
وتوافق المراجع الحديثة ما جاء في كتاب «الحاوي» لأبي بكر الرازي عندما ربط في ملاحظاته السريرية للإصابة بالملاريا بين نوبات الحمى وبين حالة تضخم الطحال المعروفة علمياً باسم Splenomegaly ، حيث قال:«…. الحميات التي تبتدئ بنافض أعلم انها من التي تنوب بأدوار، وذلك ان الغب والربع في الأكثر تحدث مع نافض شديد، ولكن يعقب حميات مختلفة، أما النائبة كل يوم فلا تكاد تحدث إلا مع علة في فم المعدة، على أن (حمى) الربع لا تكاد تحدث إلا مع علة الطحال» .
أما الديدان الطفيلية المعوية فقد تحدث عنها الرازي في كتابه «القانون مراجع التراث الطبي الإسلامي بين أربعة من هذه الديدان. هي الديدان العراض (المعترضة). أو الشريطية Taenia والديدان العظام (الكبار)، المعروفة حالياً «الإسكارس» Ascaris والديدان الصغار التي تشبه الدود المتولد في الخل وتسبب داء «الدبوسيات» Enterobiasis والديدان المستديرة، أو الشصية Hook Warm ، لاسيما الانكلستوما. وقد أشارت المراجع الحديثة إلى أنواع الديدان الشصية التي تعيش في الأمعاء الدقيقة وتتغذى على الدم والانسجة مسببة داء الانسيلوستوما (الشصيات) Ancylostomiasis .
وتجدر الإشارة في هذا الشان إلى ما اكتشف حديثاً من ان الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» هي ما نسميه الان «الانكلستوما» وقد أعاد دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838 م، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بأكثر من ثمانية قرون، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة «روكفلر» الأمريكية التي تعنى بجمع كل ما يكتب عن هذا المرض .
وتطرقت المراجع التراثية أيضاً إلى بعض انواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيداً عن القناة الهضمية، مثل ديدان العين التي تفضل منطقة العين، و«ديدان الفلاريا» المسببة لداء الفيل الذي وصفه الرازي في كتابه «المنصوري» بقوله:«ان هذا الداء إذا استحكم لم يبرأ، أما إذا لوحق في ابتدائه وعولج بما ينبغي برأ ووقف ولم يتزايد»، وقال عنه يعقوب الكشكري في كتابه «كناش في الطب» الذي وصفه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي): «إذا امتلأت عروق الدوالي بالدم العكر في الساقين وورمتا ورماً عظيماً حتى صارتا أشبه برجل الفيل، ولا يتهيأ للمريض ان ينهض بهما من عظمتهما، فان هذه العلة تسمى داء الفيل» .
أما بالنسبة لأنواع الطفيليات الخارجية التي تصيب جسم الانسان، فقد كثر الحديث عنها في مؤلفات الأطباء والعشابين، خاصة الصئبان والقمل الذي يتولد في الرأس وسائر الجسد.
من ناحية أخرى، لم يقتصر علم الطفيليات في التراث الإسلامي على تناول الطفيليات التي تصيب الانسان، بل انه امتد ليشمل بعض انواع الطفيليات التي تصيب الحيوان والطيور .
وليشمل أيضاً طرق المكافحة والعلاج وتحضير الأدوية من الأعشاب والنباتات الطبية التي ورد ذكرها للإفادة، بعد إجراء الاختبارات اللازمة على ما فيها من مواد فعالة باستخدام تقنيات العصر المتطورة.
وإذا كانت كل هذه المعلومات تؤكد دور علماء المسلمين الرائد في تأسيس علم الطفيليات استناداً إلى منهج تجريبي رائد، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اننا نعمد إلى مقارنته بالحالة المتقدمة التي وصل إليها في عصرنا الراهن، وان كنا ندعو أهل الاختصاص إلى بذل المزيد من الجهد لاستيفاء المعلومات التراثية الناقصة في هذا المجال، وذلك بالقراءة المتانية لمؤلفات الرازي وابن سينا والبغدادي والقيرواني والجاحظ، والبلدي والغطريف الغساني وابن زهر وغيرهم.
أحمد فؤاد باشا
المراجع :
1- زكريا بن محمد بن محمود القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، شركة الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة، 1401 هـ – 198 م، ص 204.
2- محمد مروان السبع، أعمال ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، 1990 م.
3- ناهد البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، عالم المعرفة، الكويت 1413 هـ – 1993 م.
4- عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، الحيوان، بيروت، 1978 م.
5- Sampson، A. W.، Range Management، Practices، John Wiley & Sons. New York، 1952.
6- محيي الدين قواس، أعمال الندوة “التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية” – طرابلس -ليبيا، 1990 م.
7- علي علي السكري، البيئة من منظور إسلامي، منشأت المعارف – الإسكندرية : 1995.
8- Ali، S. I، Hima – The Protected – area Concept in Islam، Journal of Islamic Thought and Scientific Creativity، OIC، vol. 7، No 1، 1996.
9- David Kahn، The Code Breakers، New Yourk، 1976.
10- J. H. Finch & E. G. Daugall، Computer Security: A Global Challenge، North Holland، 1984.
11- بازيار العزيز بالله الفاطمي، البيزرة، تحقيق : محمد كرد علي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1409 هـ – 1988م.
12 – أحمد فؤاد باشا، “مدخل البيزرة” دائرة سفير للمعارف الإسلامية، الجزءان 39 – 40، القاهرة، 1990.
13- عبد الرحمن محمد البلدي، “الكافي في البيزرة” ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983.
14- الغطريف بن قدامة الغساني، كتاب ضواري الطير، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 1984.
15- إسماعيل الحديثي وآخرون، علم الطفيليات، مديرية دار الكتب، جامعة الموصل، 1984.
16- محمد حسن الحمود، علم الطفيليات في التراث العربي، ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، ديسمبر 1990.
17- أحمد فؤاد باشا، التراث العلمي للحضارة ال؟إسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة، القاهرة، ط 2، 1984.
18- يعقوب الكشكري، كناش في الطب، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1985.
19- أحمد فؤاد باشا، “علوم منسية في تراث المسامين” (1)، مجلة المسلم المعاصر، ع 81 بيروت : 1996.