اهتمام العالم بخبر موته:
ما إن تسامع الناس بموته حتى نادت منائر بغداد لوفاة علامة العراق، وازدادت الجموع القادمة من أنحاء العراق للصلاة، حتى قال الأثري:
(وقد أشرفت حال الصلاة، وجعلت أنظر يمينًا وشمالًا، فرأيت المصلين قد أطبقوا تلك الفسحة كلها)، وأقيمت له عدة فواتح يتلى فيها القرآن تجمع فيها العلماء والأدباء والشعراء والخطباء، وألقى كل واحد منهم ما يعبر عن أسفه لفقدان علم العراق، حتى قال محمد بهجة البيطار في كلمة رائعة جاء فيها:
(لو كان السيد الآلوسي وليد الأيام، أو نتيجة الأعوام، لكان المصاب فيه خفيف الوقع، سهل الاحتمال، ولكنه من الأفراد الذين لا يجود العصر أو العصور بواحد منهم، أو رجال يعدون على الأنامل، وهذا هو الذي يجعل الفجيعة بمثله أليمة، والخطب عظيمًا) [31]، وقد صلي عليه في الكويت ونجد صلاة الغائب جماعات، ورثاه الشعراء والأدباء، وممن رثاه: الشاعر العراقي معروف الرصافي وتلميذه الأثري بقصائد رائعة، فهي تزري فرائد أسلوبها بالدر وبيانها وبحورها، ومدحه العلامة أحمد الشاوي الحميري بقصيدة[32] من الطويل، جاء فيها:
لعمريْ لقد جربْت أبناءَ دهرنا

برمتهم في حالة الخير والشرِّ
وقلبتهمْ ظهرًا لبطنٍ بأسرهمْ

مرارًا لدى الحاجات في العسر واليسرِ
فما سمعتْ أذاني ما سُر منهم

ولا أبْصرت عيناي وجهَ فتًى حرِّ
وما إن رأى إنسان عينيَّ واحدًا

كما شئتَ إنسانًا يُعد سوى شكري
وفاءً لعلامة العراق:
مما يلفت النظر أن علامة العراق الذي كرس حياته لخدمة الدين، والدفاع عن قضياه، ومن خلال مؤلفاته القيمة التي زادت على الستين مؤلفًا في شتى المجالات والفنون، لم تحظَ بما حظي شخصه من الاهتمام الواسع، فبقيت مؤلفاته رهن القيد، وحبيسة الرفوف في المكتبات العراقية - مكتبة الأوقاف المركزية ومكتبة القادرية، ودار صدام للمخطوطات - منذ وفاة العلامة وحتى وقت قريب، وهو ما دعاني والغيورين من أبناء الرافدين إلى أن أشمر عن ساعد الجد إلى استخراج هذه الكنوز والذخائر لطبعها ونشرها، ولفت الأنظار إليها ليطلع العالم على تراث الآلوسي الخطي، ومن خلال موسوعة شاملة جمعت تراث الآلوسيين جميعًا الجد والأب والحفيد والعم، وقد قام بهذا العمل الجبار الأستاذ إياد القيسي حفظه الله - من تلاميذ المحدث صبحي السامرائي - فقد دأب القيسي ومنذ بداية التسعينيات على لم شتات تراث الآلوسيين، وقد واجه جملة من الصعاب والعقبات في ظل ظروف حرجة حتى تمكَّن بفضل الله من تصويرها جميعًا، ولم يفته ألا قصاصات قليلة، وهو الآن بصدد طبعها ونشرها، ليقر بذلك عين الآلوسي رحمه الله وهو في رمسه، وليرد شيئًا من الوفاء لما بذله هذا العالم الجليل طيب الله ثراه، وجعل الجنة مستقره ومثواه آمين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خاتم أنبيائه وصفوة خلقه سيدنا وحبيبنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين.
[1] يقول د إبراهيم السامرائي: (وأنا أميل إلى أن تكون الشهرة بالمد، لشيوعها مع صحتها، على أني أثبتها مفتوحة جريًا على ما استحسنه أستاذي الأثري) أي إثبات همزة الألوسي مفتوحة في الشهرة وهي " الألوسي"، وعدم التزام المد، انظر: السيد محمود شكري الألوسي وبلوغ الأرب، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1412/ 1992م، ص 8
[2] ترجمة والده عبدالله شهاب تجدها في "أعلام العراق" ص: 85، 341، و"أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث" لأحمد تيمور باشا، ص: 311.
[3] كانت مدارس بغداد تزخر بالمدارس التي يرتادها طلاب العلم للتفقه في الدين، فمن مدارس الكرخ إلى الفضل وانتهاء بمدارس الأعظمية، وقد شجع ذلك كثيرًا من الموسرين حتى من النساء إلى التبرع إلى الجهات الخيرية والوقفية أمثال عادلة خاتون ونائلة خاتون ومرجانة وغيرهم، مما يدل على جهود العلماء المخلصين ومكانتهم المرموقة، وأثرهم على شرائح المجتمع المختلفة ومكانتهم الاجتماعية.
[4] الشيخ الواصل علَّامة عصره، وفهَّامة دهره، الشيخ/ إسماعيل الموصلي - رحمه الله - وكان في قوة الحفظ والذكاء، وحسن الأخلاق على جانب عظيم، كما أنه كان في الزهد والورع جُنيدَ زمانه، "الدر المنتثر"ص38، "لب الألباب" (2/318)، "أعلام العراق" للأثري ص (85إلى (341).
[5] انظر: محمود شكري وآراؤه اللغوية ص 28 أعلام العراق ص 85، 341، وأعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث لأحمد تيمور باشا ص 311، وله ترجمة بخط يده أيضًا في مخطوط لم ينشر عنوانه (الدر المنضود أو شرح القصيدة الشاوية).
[6] يبدو أن الآلوسي رحمه الله كان بشكل عام يدرك ما حوله من أخطاء عقائدية، لكنه كان مكتوف اليدين؛ يقول رحمه الله: ثم إني توغلت في اتباع سيرة السلف الصالح، وكرهت ما شاهدته من البدع والأهواء، ونفر قلبي منها كل النفور، حتى إني منذ صغري كنت أنكر على من يغالي في أهل القبور، وينذر لهم النذور، انظر: (محمود شكري وآراؤه اللغوية)ص 28.
[7] خلاف كبير حول تاريخ إنشاء هذا الجامع بين المؤرخ العزاوي وآخرين، ويبدو أنه من أقدم جوامع بغداد حيث بني في بداية العهد العثماني في بغداد بناه الوالي علي جلبي (قره علي) 989 هـ 1590، والسيد علي علي بن يحيى الرفاعي الحسيني المكي ولد في البصرة سنة 1054م، وذكرت بعض المصادر بأن السيد علي أعلن نفسه سلطانًا؛ ولذلك سمي بالسيد السلطان علي أو سيد سلطان علي لاحقًا، وجهلة الروافض وعلماؤهم يعتقدون أنه منهم لكونه اسمه علي.
[8] العلامة علي علاء الدين الآلوسي واعظ وفقيه وقاضٍ من أحفاد شهاب الدين الآلوسي، له مؤلفات عدة منها (الدر المنتثر في رجال القرن الثاني والثالث عشر)، أخذ الخط عن والده نعمان الآلوسي، كان سلفي المنهج علامة في الفنون درس في مرجانة، وتخرج على يديه علماء كثيرون انظر (كتاب
البغداديون أخبارهم ومجالسهم - تأليف إبراهيم الدروبي - مطبعة الرابطة - بغداد - 1958م - صفحة 33، 35)..
[9] ويقع في ثلاثة أجزاء، ومجموع صفحاته 1330، وقد طبع بتحقيق محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، والجزء الثالث طبع ببغداد، مطبعة دار السلام عام 1314-1896، وقد ألف إبراهيم السامرائي رسالة قيمة بعنوان (السيد الآلوسي وبلوغ الأرب) نشرته مؤسسة الجامعية للدراسات، والآلوسي له رسالة عنوانها: ملخص (بلوغ الأرب) برقم 40907 لم تطبع بعد، وهو مخطوط في دار صدام للمخطوطات.
[10] في فصل مراسلات الآلوسي مع معاصريه ذكرت كيف أن شهرته فتحت الباب على مصراعيه للاتصال بمثقفي العالم.
[11] ذكر الشيخ يونس السامرائي في (تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر الهجري)ص (24) بأن تأليف العلامة الآلوسي لهذا الكتاب كان على وجه القناعة؛ لأنه - أي الآلوسي - كان صلب الرأي، عرف بالاستقامة وعدم المجاملة، وذكر الأثري أن قصة الرفاعي - تلك القصة الخرافية - هي من زيادات الصيادي وليست من الآلوسي، علمًا أنه فندها بشدة في كتابه الكبير (غاية الأماني) ج1- ص196 فتأمل، وقد طبعت الرسالة الطبعة الأولى منها عام 1888 بالمطبعة الخيرية بمصر.
[12] لم يكن الآلوسي عالمًا عراقيًّا محليًّا فحسب؛ بل كان عالمًا من علماء الأمة، وله علاقات متنوعة مع جميع العلماء، ولهذا تنوع تلامذته ما بين نجباء علماء أمثال الأثري، والصاعقة، ومنير القاضي، والمؤرخ العزاوي، ومانع والنجدي من فقهاء المدينة، وما بين سياسيين أمثال علي علاء الدين الآلوسي، وكذلك عرب مستشرقون أمثال الأب أنستاس ماري الكرملي، وأجانب مثل المستشرق لويس ماسينون الفرنسي، والمستشرق مرجليوث من إنكلترا.
[13] الآلوسي رحمه أحسن صحبة الوالي سري باشا، فقد كان هذا الوالي معروفًا بالإحسان والمعروف، وهو على جانب من الأدب والعلم، فقد قام في ساحة الميدان حديقة واسعة أنشئت عام 1889 ووضع وسطها حوضًا فيه شذروان يقذف الماء؛ ليرتوي منه البغاددة بدلًا من الماء الملوث وغير النقي الذي يجلب من الأنهار مباشرة.
[14] ما أشبه الليلة بالبارحة، فهذه قوات الغزو تحتل بغداد دار السلام من جديد، وتمطر عليها وابلًا من القنابل المحرمة وغيرها دون أن يتدخل أحد لنجدتها، بل ولا ذرف الدموع على حالها، وإلى الله المشتكى من تفرق الأمة وتشرذمها !
[15] في المكتبة الوطنية ببغداد - مقابل جامع الأزبك - يوجد خمس مجلدات لجريدة الزوراء تحتوي على أعداد كثيرة لم أعثر فيها على مقال واحد للآلوسي رحمه الله.
[16] جاء عدة ولاة بعد تولي جمال بك منهم: محمد زكي باشا، وحسين جلال باشا، ثم محمد فاضل باشا فجاويد باشا، ثم رشيد بك ثم سليمان نصيف بك، ثم نور الدين بك فخليل بك، وأخيرًا ممدوح بك بقي وكالة لمدة أسبوعين قبل سقوط بغداد عام 1971 بيد الإنكليز.
[17] من أفضل ما ألِّف في هذا المجال كتاب (تاريخ
العراق بين احتلالين) تأليف/عباس العزاوي الطبعة الأولى-1935م مطبعة بغداد-العراق، وقد عاصر بنفسه الأحداث، يضاف إلى ذلك أن المؤرخ العزاوي هو من تلامذة الآلوسي رحمهم الله.
[18] نشر على موقع الألوكة.
[19] جمال باشا السفاح ناظر البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع، وقد عاد الآلوسي إلى بغداد، وعاد سيرته في التأليف حتى سقوط بغداد عام 1335، انظر كتاب أعلام العراق للأثري ص110.
[20] في رسالة موجه إلى علامة الشام القاسمي يقول الآلوسي رحمه الله: (هذا والمخلص مضطرب الحال، ضيق الصدر جدًّا جدًّا، مما وصل الحال ببلاد الإسلام من البلاء واستيلاء الكفار عليها، والفشل الذي أصاب الفسقة والمرتدين عن دين الإسلام، فما ندري ماذا نفعل، وقد أحاط الكفر بجميع بلاد المسلمين، وأصبحت على خطر عظيم لاسيما العراق من عدوَّينِ للدين روسيا والإنكليز، وهي مصيبة وأي مصيبة ليس لها من دون الله كاشفة، وذلك تحقيق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضن الناس بالدرهم والدينار....الحديث)، وانظر الرسائل المتبادلة بين الآلوسي والقاسمي، جمع وتحقيق محمَّد ناصر العجمي، ص 101، دار البشائر الإسلاميَّة لسنة 1422 - 2002.
[21] أقدم مجمع في الوطن العربي تأسس عام 1919، كان له دور بالنهوض باللغة العربية، وهو مجمع أكاديمي يتألف من عشرين عضوًا من أبرزهم محمد كرد علي، أما المجمع العلمي العراقي فقد تم تأسيسه في عام 1947، تم في عام 1978 دمج المجمعات اللغوية الثلاث السريانية والعربية والكردية، وفي عام 69 أعيد تنظيم المجمع، وتوسعت أهدافه لتشمل تخصصات العلوم التطبيقية والهندسية وغيرها، من أبرز أعضائه الآلوسي والزهاوي، والشاعر الرصافي، ومنير القاضي، ورضا الشبيبي وغيرهم.
[22] أعلام العراق، راجع فيه فصل أخلاقه وأحواله ص117، وفصل سيرته في بيته ص129 فستجد فيها أخلاق العالم الرباني الذي يطبق ما يقول، ويفعل ما يأمر به ويحث عليه.
[23] أعلام العراق، فصل أميز أطواره ص128، وهو جواب سديد يدل بلا ريب على أن الآلوسي وفق منهج السلف قولًا وعملًا، وأنه مشى على دربهم في الفرار من الأمراء فرار السليم من الأجرب حفاظًا على الدين، وبعدًا عن الشبهات، وفي ذلك من الآثار والأخبار عن السلف ما لا يمكن حصره، ومن الله نسأل السلامة.
[24] أعلام عرب محدثون ص 167 ـ 168. الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1994م.
[25] أعلام العراق ص 119.
[26] أكثر من النقل عن التفاسير كالزمخشري والبيضاوي، ومن كتب الحديث والأثر المشهورة، ومن كتب اللغة مثل الصحاح للجوهري، وأساس البلاغة للزمخشري، ونهاية الأرب للهندي، وشرح التبريزي وشرح المعلقات لزادة واليعقوبي، وتاج العروس للزبيدي، ولسان العرب لابن منظور، وسفر السعادة للسخاوي، وغير ذلك من المصادر على الرغم من صغر حجم الرسالة، والتي لم تطبع إلى الآن، مخطوط بخط يده (1319 -1901.
[27] توجد نسخة خطية من المخطوط في مكتبة المتحف العراقي -حاليًّا دار صدام للمخطوطات- رقم 8721و8616، وهي في الدفاع عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
[28] وقد نشرت الرسالة بتحقيق بهجة الأثري في مجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1409 1988، والنحت :معناه أن تعمد إلى كلمتين أو جملة، فتنـزع من مجموع حروف كلماتها كلمة فذَّة، تدل على ما كانت تدل عليه الجملة نفسها، ولما كان هذا النـزع يشبه النحت من الخشب والحجارة سمِّيَ نحتًا.
[29] وهو كتاب (الجوهر الثمين في بيان حقيقة التضمين)، توجد منه نسخة في مكتبة المتحف برقم 8533، في 50 صفحة، والتضمين معناه: إشراب اللفظ معنى لفظ آخر، لتصير الكلمة تؤدي مؤدى كلمتين، وقد قمت بطبعه على الكومبيوتر وتم نشره بين طلاب العلم.
[30] انظر أعلام العراق ص 112.
[31] المصدر السابق 115.
[32] من قصيدة رائعة في مدح العلامة الآلوسي نشرت على موقع الألوكة في بحث بعنوان: (الدر النضيد أو شرح القصيدة الشاوية دراسة وتحليل).