رد: قصص الحيوان في أدبنا والآداب الأخرى
قصص الحيوان في أدبنا والآداب الأخرى (3)
د. إبراهيم عوض
لافونتين (1621 - 1695م) هو أشهر كاتب قصص خرافية في تاريخ الأدب الفرنسي، ويقول فلوبير: إنه الشاعر الفرنسي الوحيد الذي استطاع أن يفهم تراكيب اللغة الفرنسية ويتمكن من استخدامها قبل عصر هوجو، وقد خلف وراءه شعرًا قصصيًّا يدور حول الحيوانات التي كان يحبها ويحب مراقبتها والقرب منها في الغابات الملكية التي كان أبوه يشرف عليها بمقاطعة شاتو تييري في جو شاعري حالم،ولم يكن لافونتين بطبيعة الحال مخترع فن الخرافة، بل استفاد من كل من سبقه، أمثال: إيسوب الإغريقي، وفيدر اللاتيني، وبلبى (بيديا) الهندي، ومارو ورابيليه الفرنسيين، وغيرهم من مبدعي القصص الخرافية في الشرق والغرب على السواء، فأبدع خرافاته الخاصة، باثًّا فيها طابعه الفني وعاطفته القوية ونكتته الرفيعة وسخريته اللطيفة وملاحظته الدقيقة وقدرته على الغوص إلى أغوار النفوس وإحساسه بالواقع، متناولًا الملوك والسادة ورجال الدين والعلماء والفلاحين بطبائعهم المختلفة من تكبر وجبن واستغلال وسذاجة، عارضًا كل ذلك خلف ستار من الرموز الحيوانية والنباتية والجمادية والبشرية، مع الغلبة للحيوانات، مختارًا لكل رمز الحيوان الذي يناسبه: فالأسد الملك، والثعلب لرجل الحاشية، والدب للفلاح...وهلم جرًّا، منوعًا في الأوزان والقوافي حسب الموضوع الذي يتناوله، مصطنعًا لكل أصحاب حرفة لهجتهم التي يتميزون بها (انظر د. نفوسة زكريا/ المرجع السابق/ 34 فصاعدًا).
وكان للافونتين تأثيره على بعض الشعراء العرب في العصر الحديث؛ كمحمد عثمان جلال وأحمد شوقي المصريين، وكلاهما درس الأدب الفرنسي وقرأ لافونتين في لغته الأصلية وأعجب به ونسج على منواله، وجلال هو أول من نقل خرافات لافونتين إلى العربية، إلى جانب بعض المترجمات العلمية والأدبية، ومنها عدد من المسرحيات الفرنسية، وقد عنون الكتاب الذي أودعه ترجمته لتلك الخرافات باسم "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ"، وقال: إن له سوابق في الأدب العربي القديم مثل كتاب "الصادح والباغم" وكتاب "فاكهة الخلفاء" وغيرهما، وإنه يريد أن يستبدل القراء مطالعته بقصص أبي زيد الهلالي وعنترة والظاهر بيبرس وذات الهمة، ورغم هذا فقد استقبلن هذه الأشعار بالنفور والتهكم، وإن لم يَثنه ذلك عن المضي في خطته، وطبع الكتاب على نفقته، وتكلفه في طباعته المال الكثير، وفي ذلك يقول:
يقولون ما هذا الكتاب وما به؟ 
أكاذيب أقوال البهائم في قبح 
وقد زعموا أن البلاغة لم تكن 
بأحسن مما قيل في القد والرمح 
وتشبيه لون الخد بالورد واللظى 
وتمثيل نور الوجه إن لاح بالصبح 
وما علموا أن الغراب وثعلبًا 
حديث النهى فيه وداعية النصح 
وقولي صرار حكى مع نميلة 
فقصدي به التفريط يذهب بالربح 
ولصَّان في جحش صغير تشاجرا 
فذلك كم شاهدته في بني الفلح 
وقصة طاعون الوحوش رأيتها 
كثيرًا وكم من طعنها أوسعَتْ جرحي 
فيا قارئًا إن كنت بالقول ساخرًا 
ولم تدرِ شيئًا فالتعرض كالنبح 
وإن كنت تدري أنما بك جنة 
ترجَّح حب الحرب فيك على الصلح 
فما أنت إلا في الحقيقة جاهل 
وما لكلام قلت فيَّ سوى الطرح 
والغريب أن جلال لم يشر في كتابه: "العيون اليواقظ" إلى لافونتين من قريب أو بعيد، لا في الأشعار التي نظمها ولا في المقدمة النقدية التي صدر كتابه بها رغم تأثره الواضح بالشاعر الفرنسي، ورغم أن كثيرًا من القصائد التي يحتوي عليها الكتاب مأخوذة من لافونتين بعناوينها وبتفصيلاتها، وإن لم يترجمها ترجمة بل اكتفى بتمصيرها،أما الباقي فمستقى من تراثنا العربي،وتمضي د. نفوسة فتورد بعض أشعار جلال، وتورد إزاءها الأصل اللافونتيني، ثم تقارن بينهما لترى كيف تصرف أديبنا المصري مع الأصل الفرنسي تارة بالتقديم والتأخير، وتارة بالتصرف الواسع، وتارة بالاقتراب الشديد...ومن ذلك المقطوعة اللافونتينية التالية التي تحكى قصة "الثعلب والعنب: Le Renard et les Raisins
Certain renard gascon، d autres
Dissent monrmand.
Mourant Presque de faim، vit au
Haut d une trille
Des raisins murs apparemment.
Et couverts d une peau vermeille.
Le galand en eut fait volontiers
Un repas;
Mais comme il my pouvait point
Atteindre:
IIs sont trop verts، dit - il، et bons
Pour de gougats.
Fit - il pas mieux que de se
Plaindre?
والتي وضعها جلال نصب عينيه حين نظم القصيدة التالية:
حكاية عن ثعلب قد مر تحت العنب
وشاهد العنقود في لون كلون الذهب
وغيره في جنبه أسود مثل الرطب
والجوع قد أودى به بعد أذان المغرب
فهم يبغي أكلة منه ولو بالتعب
عالج ما أمكنه يطلع فوق الخشب
فراح مثلما أتى وجوفه في لهب
وقال: هذا حصرم رأيته في حلب
والفرق عندي بينه وبين تين العلب
فإن هذا أكله يشبه لحم الأرنب
ولحم ذلك مالح كالضرب فوق الركب
قال له القطف: انطلق ثعلب ابن ثعلب
طول لسان في الهوا وقصر في الذنب
(د.نفوسة زكريا/ المرجع السابق/ 42 وما بعدها إلى 63).
ويمكن أن نلاحظ أن شعر جلال أطول من نظيره اللافونتيني وأملأ منه بالتفاصيل؛ إذ هو مثلًا يحدد الوقت الذي رأى فيه الثعلب عنقود العنب بأنه بعد أذان المغرب، فضلًا عن أنه لا يكتفي بوصف لون العنقود الذي رآه أولًا بل يضيف إليه وصف لون عنقود آخر،كما أنه يذكر حلب، التي لم يرد لها بطبيعة الحال ذكر في أبيات الشاعر الفرنسي، وهي لمسة عربية في شعر جلال يقابلها النص في قصيدة لافونتين على أن الثعلب هو من إقليم جسكونيا أو نورماندي الفرنسي، وفوق هذا نرى شاعرنا المصري في نهاية القصيدة يستطرد إلى الكلام عن تين العلب ولحم الأرانب مما لا وجود له في شعر لافونتين،كذلك نلاحظ أن عنقود العنب يتكلم مخاطبًا الثعلب يتهكم به وبثرثرته السخيفة ونفاقه العاجز مما لا نرى مثيله في أبيات لافونتين...وهلم جرًّا.
أما بالنسبة للصلة بين لافونتين وشوقي فقد صرح شوفي نفسه في مقدمة ديوانه (1898م) بمحاكاته للافونتين في نظم ما نظم من خرافات، وبأنه كان كلما أنجز شيئًا من هذا الشعر قرأه على بعض الأطفال كي يتأكد من أن ما يكتبه مشوق لهم، وأنه كان يهدف من ذلك إلى غاية تعليمية،وترى د. نفوسة زكريا أن شوقي كان أصدق من لافونتين في حبه للأطفال؛ إذ لم يكن الشاعر الفرنسي يهتم حتى بطفله الوحيد،إلا أن شوقي لم يبالِ بنشر خرافاته في ديوان مستقل كما فعل لافونتين، بل ضمنها ديوانه: "الشوقيات"، وإن كانت الطبعات التي ظهرت من ديوانه بعد موته قد أهملت تلك الخرافات، إلى أن تدارك هذا النقص محمد سعيد العريان في نشرته لذلك الديوان عام 1943م،وقد عرفت بعض تلك الخرافات طريقها إلى الكتب المدرسية،وتدور الحكايات المنظومة عند شوقي على موضوعات إنسانية عامة، أو موضوعات تتصل بعصره؛ كالأوضاع السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت، بالإضافة إلى ما اقتبسه من خرافات لافونتين مع إضفاء شخصيته على تلك المقتبسات؛ إذ وضع فيها لمسات عربية إسلامية،وهناك قصائد خرافية أخرى استلهم فيها أمير الشعراء موضوعات عربية قديمة.
وتتميز الخرافات الشوقية بروح الفكاهة العالية؛ إذ كان يحرص على إمتاع الناشئة بتلك الأشعار، ولم يكن يقصد التوجيه التعليمي فحسب،كما اتسمت تلك الأشعار ببساطة الأسلوب ومناسبتها لعقلية الناشئين، الذين وضعت لتعليمهم وتسليتهم، مع حفاظها على الفصحى، على عكس محمد عثمان جلال، الذي لجأ إلى العامية أحيانًا،وفوق ذلك كان شوقي حريصًا على استخدام الأوزان القصيرة في تلك الأشعار، أما القافية فكانت أحيانًا واحدة على مدار القصيدة كلها، وأحيانًا ما كانت تقوم على الازدواج، وفي كل الأحوال كانت القصيدة الخرافية عنده تهتم باستخلاص الحكمة التي تكمن في القصة كما فعل لافونتين (انظر كتاب د. نفوسة زكريا: "خرافات لافونتين في الأدب العربي"/ 74 فصاعدًا).
وقد أشارت الأستاذة الدكتورة إلى استلهام شوقي قصيدته التي مطلعها: "برز الثلعب يومًا" من قصيدة لافونتين: "Le Cop et le Renard"، مع انطلاق أمير شعراء العرب على سجيته مع ذلك بعيدًا عن مصدر إلهامه،لكنها لم تورد النص اللافونتيني الفرنسي ليكون النصان تحت أعين القارئ فيستطيع الحكم بنفسه على ما تقول،وهأنذا أورد هنا نص كل من القصيدتين:
la branche dun arbre etait en
inelle
ieux coq adroit et natois
ditunrenard
cissant sa voix
ne sommes plus en
Querelle:
Paix generale cette fois.
Je viens te lannoncer; descends.
Que je t embrasse.
Ne me ratarde point، de grace;
Je dois faire aujourd hui vingt
Postes sans manquér.
Les tiens et toi pouvez vaquer
Sans nulle crainte a vos affaires;
Nous vous y serbirons en freres.
Faites - en les feux des ce soir.
Et cependant viens recevoir
Le baiser d amour fraternelle.
- Amo، reprit le coq، je me pouvais jamais
Apprendre une plus douce te meilleur nouvelle
Que celle
De cette paix;
Et ce m est une double joie
De la tenir de toi،Je vois deux
Levriers.
Qui، je Massure، sont courriers
Que pour ce sujet on envoie.
IIs vont vite، et seront dans un moment a nous.
Je descends; nous pourreons nous entre - baiser tous.
- Adieu، dit le Renard، ma traite est longue a faire;
Nous nous rejouitons du success de laffaire
Une autre fois،Le galand aussitot
Tire ses gragues، gagne au haut.
Mal ******* de son stratagem;
Et notre vvieux coq en soi - meme
Se mit a rire de sa peur;
Car c est double plaiser de
Tromper le tronpeur.
برز الثعلب يومًا 
في شعار الواعظينا 
فمشى في الأرض يهدي 
ويسب الماكرينا 
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 08-10-2022 الساعة 06:03 PM.
|