عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-09-2022, 09:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المحاسبة والهمة وطلب العلم

وإياك والتردد، فإنه عيب في الرجل، وخَوَر في العزم، بل افعل ما يلزمك أن تفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا




وإن من أقوى مخلوقات الله - فاعلم - همة الإنسان إن صاحبها عزم وثبات ويقين، فلا تعجل، فكل شيء بحساب ومقدار، وفي كل معركة - حسية كانت أو معنوية - يتبقى هناك خندق أخير، يجتازه المنتصر ويُدفَن فيه المهزوم، فهل حصنت خندق إيمانك من عدوك الرجيم؟

واعلم أن اتباع العاطفة كثيرًا ما يعقبه الندم، فاتبع علمك وعقلك ففيهما الحكمة، أما قلبك فأخِّره قليلًا، فعاطفتا الشهوة والغضب عمياوان، وناصح العقل خير من ناصح القلب، فالنفس تملي وتتمنى، وتزيِّن وتسوِّل، وتبدل وتتأول، والعقل واعظ ناصح، عليم مشفق حكيم، والقلب بينهما حَرُّون متقلب، حتى يطمئن في فردوس الإيمان؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "رأس الحكمة مخافة الله"، فمن خاف الله، خافه كل عدو، ونزل عليه كل توفيق، واعلم أن مصيرك غدًا – بإذن الله - هو قرارك اليوم.
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكونُ
وإن درَّت نِياقُك فاحتلبها
فما تدري الفصيل لمن يكونُ


وعليك عليك بوقود الآخرة؛ وهو الإيمان والعمل الصالح، واعلم أن الأمل وقود الصابرين، والشوق وقود المحبين، والرجاء وقود العاملين، والخوف وقود الهاربين، وكل شيء تخافه ففرَّ منه سوى الله: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، وكل شيء يُحَبُّ لغيره خلا الله؛ فإنه يحب لذاته، وكل فوز زائل حاشا الفوز بالجنة: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، ومهما كثرت الحِكَمُ، فلن تجد كهذه الثلاثية الربانية الفريدة: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
الحمد لله؛ أما بعد:
فاتقِ الله يا عبدالله، واعلم أن الموفَّق هو من ورد مناهل الحكمة من أهلها، وقدحها من معادنها، وتأمل وصية علي رضي الله عنه لصاحبه كميل بن زياد النخعي، ويكأنما يصف عليٌّ حال الناس اليوم؛ قال كميل: "أخذ بيدي علي بن أبي طالب فأخرجني إلى ناحية الجبانة، فلما أصحر تنفس، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة، يا كميل، محبة العالم دين يُدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة لربه في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، يا كميل، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، إلى أن قال: لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهر مشهور، وإما خائف مغمور؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم وأين أولئك، أولئك هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حُجَجِهِ حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستسهلوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحُها معلقة بالنظر الأعلى"؛ [انتهى كلامه رضي الله عنه].

ويا طالب العلم، لا تتشعبن بك سُبُل الطلب، فسيِّد العلوم كلها هو القرآن العظيم حفظًا وتفسيرًا وتدبرًا، وعملًا ودعوة، وكل الطرق الصحيحة لطلب العلم تبدأ وتنتهي بالقرآن العظيم؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد العلم، فليثوِّر القرآن؛ فإن فيه علمَ الأولين والآخرين"، ورب العزة والجلال يقول: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، وتدبر: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51]، بلى وعزتك، فالموفَّق المريد نهضةَ أمته لا تتشعب به طرق النهوض بالأمة، بل يختصر طريق إصلاحها بالرجوع للينبوع التالد الأصيل؛ القرآنِ المجيد، ومن ذلك أن كل أدوات مدافعة النفاق والشرك والكفر والتغريب وغيرها من الشر موجودة بالتفصيل في القرآن العظيم، فعُدْ إليه، وحرِّك كنوزه، وفُزْ بنفيس ذخائره؛ ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

وإن أردت أن تعرف حقيقة اليهود، فقد بسطها الله تعالى لك في مائة وسبع آيات من سورة البقرة، ابتداءً من الآية الأربعين، فهي أمة غريبة أطوارها، غليظة أكبادها، متين كفرها، وفي سورة البقرة فضيحة اليهود، وفي سورة المائدة فضيحة النصارى، وفي سورة التوبة فضيحة المنافقين، ثم في بقية سور القرآن مزيد للثلاث طوائف: الغضب والضلال والفسق، فإذا اجتنبتَ صفات اليهود، وصفات النصارى، وصفات المنافقين، فقد اجتنبت الشر كله، ولقد فصَّل الله تعالى صفاتهم كي نجتنبها فنكون من الحنفاء المرضيين، ومن توضيح الواضحات أن عداء الرافضة واليهود والنصارى والمشركين لأهل الإسلام لا يزال ما بقي على الأرض مسلم، لكن معاملتهم تختلف بحسب الأحوال.

ومن حكمة الوالد والمربي والعالم أن يحرص على تلقين القرآن طلابه ومتربيه، فعلِّمهم القرآن، والقرآن سيعلمهم كل خير.

واعلم أن العقل البشري فيه عجيبة، فإنك إن شغفت بأمر وولَّيتَ وجهك ونباهتك ووقتك إليه، نشط نشاطًا مضاعفًا، وأدهشك بقوته وصفائه، وهنيئًا لمن كان في الله ولله.

لقد ركَّب الله فيك أيها الإنسان طاقاتٍ هائلة كامنة تنتظر منك تحديد أي هدف مشروع تريده، فكن واضح الهدف، حسن التخطيط لبلوغه، متحليًا بالجدية والانضباط، مع ثقة بالله، وتوكلٍ عليه، واستعانة به، ثم إرادة عازمة، ثم انطلق، فكل من وصل ليس لديه شيء زائد عنك، فآلة العلم وحدها ليست كافية، بل الصمصامة محتاجة لذراع عمرو:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا
إذا لم يكن فوق الكِرام كرامُ




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.66 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.09%)]