عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 03-09-2022, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصيدة عوف بن الأحوص "ومستنبح يخشى القواء..." قراءة في المعاني والأساليب



هُمُ رَفَعُوكمْ لِلسَّماءِ فَكِدْتُمُ

تَنَالُونَهَا لَوْ أَنَّ حَيًّا يَطُورُها



مُلُوكٌ عَلى أَنَّ التَّحِيَّةَ سُوقَةٌ

أَلايَاهُمُ يُوفَى بِهَا ونُذُورُها



فإِلَّا يَكُنْ مِنِّي ابْنُ زَحْر ورَهْطُهُ

فَمِنِّي رِياحٌ عُرْفُهَا ونَكِيرُها



وكَعْبٌ فإِنِّي لَابْنُهَا وحَليفُهَا

وناصِرُها حيثُ استَمَرَّ مَريرُها



لَعَمْري لقد أَشْرَفْتُ يومَ عُنَيْزَةٍ

على رَغْبَةٍ لو شَدَّ نَفْسًا ضَمِيرُها







الشاعر

هو عوف بن الأحوص، وقد كان سيدًا مِن سادات بني عامر، شهد يومي جبلة ورحرحان، ولقِّب بالجزَّاز؛ لأنه جزَّ ناصيةَ معاوية بن الجون، وله ثلاث قصائد في المفضليات وهي رقم 35، 36، 107، وهذا النصُّ هو المفضلية 36، ورغم ذلك فإنَّ عليَّ بن أبي الفرج البصري يقول في الحماسة البصرية قبل أن يذكر القصيدة: "وَقَالَ مُضرس بن ربعي بن لَقِيط الأسديُّ: وَمِنْهم مَن ينسبها إلى شبيب بن البرصاء، وَقيل: إنَّها لعوف بن الْأَحْوَص الكلابي، وفيهَا اخْتِلَاف رِوايات"، وفي نصِّ الحماسة البصريَّة زيادة لأبيات، ونقص مِن أبيات المفضلية، والحقيقة أنَّ الأبيات الموجودة في الحماسة البصرية غير مترابطة وغير متوائمة بعضها مع بعض.



والشاعر في هذا النصِّ يعرض لنا صورًا لكرمه وحِلمه وفخرِه بأحلافه، وهو يستمدُّ الصور التي تكشف عن أوصافه من البيئة العربية القديمة في عاداتها وطبيعتها، ومن ثَمَّ فهو ينقلنا مِن مشهد لآخر ببراعة وإيجاز، كما أنه يأتي بالحكمة التي تكشف عن خِبرةٍ بالحياة أكسبَتْه حنكةً وفطنة في التعامل مع الناس، وهو لا يبدأ نصَّه بالوقوف على الأطلال، مع وجود مفضلية له بدأها بذكر الديار والوقوف عليها، ولعلَّه يمكن للبعض أن يقول: إنَّنا أمام نصٍّ مكثَّف انطلق مِن ذات الشاعر ليعبِّر عن أغراض محدَّدة، وأنَّ الشاعر يريد المبادرةَ إلى إيصال الرسالة، وذكره للأطلال هنا يعوقه عن هدفه، كما أنَّه لا يتلاءم مع رغبته وواقعِه ومشاعره، كما يمكن للبعض أن يرى أنَّ للقصيدة مقدِّمة طلَلية لم تصِلْنا، خاصَّة أنَّ استهلال النصِّ قد يوحي بذلك.



صورة أولى للكرم



ومُسْتَنْبِحٍ يَخْشَى القَوَاءَ ودُونَهُ

مِنَ اللَّيْلِ بَابَا ظُلْمَةٍ وسُتُورُها



رَفَعْتُ لَهُ نارِي فَلَمَّا اهْتَدَى بِهَا

زَجَرْتُ كِلابِي أَنْ يَهِرَّ عَقُورُها






معاني الكلمات:

المستنبح: الذي يضِلُّ الطريقَ فينبح لتجيبه الكِلابُ، فيستدلُّ على الحيِّ فيقصدهم، أو الذي يطلب مكانَ نَبْح الكلاب ليعرف به أماكنَ الضيافة

القواء: الخالي مِن الأرض، أي: يخشى أن يَهلِك فيه، والقَواء أيضًا: ذهابُ الزَّاد.



بابا ظُلمة وستورها، أي: بابان مِن الظُّلمة، بابٌ بعدَ باب، ثم فَظَّعَ ذلك بذِكْر السُّتور، وقال أحمد بن عُبيد: بابا ظُلمة، يعني: أوَّل الليل وآخره، والسُّتور: الظُّلمة التي بين أوَّل اللَّيل وآخره، وهي بين البابين.

هر الكلب: صات مِن دون نباح وكشر عن أنيابه.

عقور: يجرح ويفترس ويعض.



الشرح

أي: رُبَّ رجلٍ ضالٍّ يخاف على نفسه الهلاكَ، ويريد مكانًا يَبيتُ فيه وهو على أبواب ليلٍ كثيف الظُّلمة في مكان قفر فينبح كما تنبح الكلاب لتجيبه فيعرف أن هناك من يسكن قريبًا منه، وما كان الشاعر بعد سَماع صوت نباحه إلا أنْ فعل كما يفعل كرماء العرب؛ حيث يرفعون النارَ على قِمَم الجبال، وكانت النار التي يرفعونها تسمَّى نار القِرَى ليراها الضيوف فيهتدوا بها إلى من يريد ضيافتهم، فلمَّا اهتدى ذلك الضيف زجر عوفٌ كلابَه خشية أن يقترب من ذلك الضيف مفترسها، وقد رأى الأصمعيُّ أنَّ الشاعر لم يُجِد في وصف كلابه؛ لأنه لو كان الضيفان يكثرون إتيانه أنِسَتْ بهم كلابه، فوجود الكلب العقور - كما يرى الأصمعيُّ - يتنافى مع الكرم؛ لأنَّ الكلاب إذا تعوَّدتِ الناسَ لن يكون فيها عقور؛ بل ستصبح كلابًا أليفةً؛ ولذا رأينا العربَ يصِفون الكريمَ بأنه جبان الكلب، وقد ردَّ المرزوقيُّ في شرح الحماسة على مثل هذا الكلام بقوله: "كأنَّه كان في الكلاب ما لم يكن يلزم الفناء، وإنما يكون مع الراعي في السرح للحفظ، فاتفق أن حضر مع كلاب الحيِّ؛ فلذلك احتاج إلى زجره"، فكلب عوف العقور مِن الكلاب التي لا تكون أمامَ الدار لتعتادَ الناس - بل هو من كلاب الحراسة الذي تحتاجه العرب - ووجوده في ذلك الوقت الذي جاء فيه الضيف كان مصادفة.



وقد استخدم الشاعر الاستعارةَ المكنية في تكثيف الإحساس بظَلام ذلك الليل المتراكم، فجعَل الليلَ كالبيت الذي له بابان وستور؛ فالباب الأول هو بدايةُ الليل، ثمَّ تتكاثف الظُّلمة كتكاثف الستور.

والشاعرُ يستخدم الفعلَ المضارع "يخشى" ليبيِّن لنا تجدُّد خوف ذلك الرجل وخشيته، ويستخدم الجملة الاسمية:

... وَدُونَهُ ♦♦♦ مِنَ اللَّيْلِ بَابَا ظُلْمَةٍ وسُتُورُها



ليصوِّر لنا امتدادَ ذلك الليل المطبق بظلمته، الذي لا يكاد ينتهي، والشاعر لا يستخدم اللغةَ المباشرة؛ وإنَّما يأتينا بمشاهد مِن الواقع نراها بخيالنا ونتأثَّر بها ونتابعها، وفي مدحه لنفسه أيضًا يأتينا بالمشاهد أو بالمعادل الموضوعيِّ الذي يصوِّرُ لنا هذا الكرمَ؛ مثل رفع النَّار للضيف حتى يَهتدي إلى مكانه، ومثل قِدْرِه التي تَغلي بالطَّعام للضيفان الملتفِّين حولها في وقت الجدب كما في الأبيات الآتية.





صورة ثانية للكرم





فَلا تَسْألِينِي واسْألِي عن خَليقتي

إذا رَدَّ عَافِي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها



وكانوا قُعُودًا حَوْلهَا يَرْقُبُونَها

وكانَتْ فَتَاةُ الحَيِّ مِمَّنْ يُنِيرُها







معاني الكلمات:

الخَلِيقَةُ: الطَّبيعةُ التي يُخْلَقُ المرءُ بها، والجمع: خَلِيقٌ، وخلائِق.

عافي القِدر: ما تبقَّى فيه مِن مرَق، وقال الأصمعيُّ: كانوا في الجَدْب إذا استعار أحدُهم قِدرًا رَدَّ فيها شيئًا من طبيخ، وسُمِّيَ ذلك (عافي القدر)، وقال غيره: عافي القدر: مَن يأتيها لينال مما فيها.



الشرح

لا تَسأليني أنا واسأَلي الناسَ عن خُلُقي الذي طُبعتُ عليه حتى يتبيَّن لكِ كيف أكون إذا أجدَب الناسُ ومنعهم ما تبقَّى في قدورهم من طبيخ أن يعيروه لأحد ضنًّا منهم بما تبقَّى فيه؛ لشدَّة حاجتهم له في وقت الشدَّة والجوع، وإذا قلنا: إنَّ المعنى - كما قال الأصمعيُّ - يكون المستعير قد خالَف سنَّةَ العرب في ردِّ شيء مِن الطعام في القدر التي يستعيرها؛ وذلك لشدَّة الحاجة إلى الطعام في وقت الجدب، لكن هنا يكون المستعيرُ هو الفاعلَ، والعافي مفعولًا به، ولم تظهر فيه علامة النصب، بل سكَّن الياء كما تسكن في الرفع والجر، وإذا قلنا: إنَّ العافي هو المحتاج الذي يأتيها لينالَ منها، يكون المعنى: أنَّ الذي يَمنع المستعيرَ للقِدر من أخذها هو المحتاج الذي يشغلها في ذلك الوقت الذي يكثر فيه المحتاجون ويتوالون على القدور، فإذا جاء ووجدهم عليها لا يطلبها، ولعلَّه مما يرجح هذا المعنى البيت الذي يليه؛ حيث يصوِّر هؤلاء المحتاجين للطَّعام بأنَّهم حولَ النار يرقبون القِدرَ متشوقين لانتظار نضج الطَّعام في صورةٍ تعكس ضراوةَ الجوع وشدَّته، ويؤكِّد تلك الحالة أكثرَ صورةً فتاةُ الحيِّ التي مِن المعلوم أنَّها مَصونةٌ عند العرب لا تَختلط بالرجال ولا تشارِك في مثل هذا الأمر، ولكنَّنا نراها هنا وهي تشاركهم في إنارة النار مِن شدَّة الجدب.



وإنَّ الشاعر هنا باستحضاره للمرأة يجعلنا أمامَ حوارٍ نتخيَّل فيه تلك المرأةَ وهي تسأله عن خُلُقه، فيَطلب منها ألَّا تسأله هو، وإنما تسأل الناسَ الذين يشاهدون آثارَ كرمه في الوقت الذي يضطرُّ فيه الكرماءُ للمَنْع، ثمَّ يعرض لنا مَشاهدَ هي بمثابة الدليل العمَليِّ الناطِق بكَرمه، وفي البيت مَجازٌ عَقليٌّ علاقته السببيَّة؛ لأنَّ العافيَ، أي: (ما تبقى مِن الطعام) لا يردُّ المستعير حقيقةً، وإنما هو سببٌ في الردِّ، والشاعر هنا أيضًا يبتعد عن المباشرة في ذِكْر القَحْط ويرينا صورةً واقعيَّة تبيِّن شدَّةَ هذا القحط الذي دفَعهم إلى تغيير عاداتهم.



تَرَيْ أَنَّ قِدْرِي لا تزالُ كأنَّها

لذي الفَرْوَةِ المَقْرُورِ أُمٌّ يَزُورُها



مُبَرَّزَةٌ لا يُجعل السِّتْرُ دُونَهَا

إِذَا أُخْمِدَ النِّيرَانُ لاحَ بَشِيرُها







معاني الكلمات:

ذو الفروة: السائل المستجدي، وفروته: جَعْبَتُه التي يضَع فيها ما يعطى.

المقرور: الذي اشتدَّ به البرد.

مُبَرَّزَةٌ: هذه النَّار بارزة للعيان لا تُستَرُ عن العيون ضنًّا بما فيها.

بَشِيرُها: تبشِّر الضُّيوف بالطعام.



في هذا الوقت الذي يدفع فيه القحطُ النَّاسَ إلى الشحِّ بما في أيديهم ترَين ناري وقد الْتفَّ حولَها المحتاجون الذين أنهَكهم الجوعُ والبردُ الشديد، وكأنها أمٌّ لهم يزورونها ويلتفُّون حولها متشوقين إليها بعد غَيبة، وهذه القدر لا تُستَرُ عن العيون بُخلًا بما فيها كما يَفعل الأكثرون في هذا الوقت المضني، وإذا أُخمدتْ نيرانُ الضِّيافة بسبب القَحْطِ لاحَ ضوءُ ناريٌّ يبشِّر الضيفان بالقِرى.



والصورة التي شبَّه الشاعرُ فيها القِدرَ بالأم تُرينا الحالةَ النفسية التي تلفت فيها القلوب والعيون، إضافة إلى الأجساد إلى تلك القِدر، والشاعر يَستخدم الأفعالَ التي تدلُّ على التَّكرار والتجدُّد والحدوث (لا تزال - يزورها) ليبيِّن لنا أنَّ هذا الفعل يتكرَّر ويتجدَّد ولا يتوقَّف في ذلك الوقت، ثمَّ إنَّه يستخدم الجملةَ الاسمية "مبرزة" ليفيدَ الدَّوامَ والثُّبوتَ؛ فهذه حالها الثابتة الدَّائمة، ويحذف المسنَد إليه، أي: "هي مبرزة" ليسرع إلى ميتبعدحها وإلى أهمِّ ما يميزها، ويؤكِّد هذا بقوله: "لا يجعل الستر دونها" وكأنَّه يريد أن يقول لنا: إنَّها تَختلف عن الكثير مِن قدور القوم الذين يَجعلون لها سترًا يَحجبها عن المحتاجين، والشاعر يَذكر الفعلَ (أخمد) ولعلَّ هذا يُشير إلى قلَّة النِّيران في ذلك الوقت، فبعض العلماء يرون أنَّ تذكير الفعل في جمع التكسير لمؤنَّث يأتي مع القلَّة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ [يوسف: 30].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]