عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 20-08-2022, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القرآن وأمية بن أبي الصلت .. أيهما أخذ من الآخر ؟!

ثم هناك قدوم أمية على النبي ومدحه إياه بقصيدة يقِرُّه فيها على دعوته ويُثني عليه، ويصدِّق به، ويبدو أن ذلك كان بتأثير الأسئلة التي من المؤكَّد أنها كانت توجَّه له ممن حوله؛ إذ لا بد أن يثورَ في أذهانهم التساؤل عن السبب - يا ترى - الذي يمنعه من الإيمان بمحمد ما دام يردِّد ما يقوله تقريبًا، ويضمِّن شعره بعض ما جاء في قرآنه! أقول هذا رُغم أن في نفسي من صحة هذه القصيدة شيئًا للأسباب التي سأذكُرها من فوري، لكنني قلتُه على الشرط الذي وضعتُه حين بيَّنتُ أنه لكي نقبَل أشعار أمية التي تُشابه القرآن الكريم لا بدَّ أن نقبل معها الأحداث التي صاحبتها حسبما أوردتها الروايات، على أية حال هأنذا أورد جُلَّ أبيات القصيدة أولاً، ثم ننظر فيها بعد ذلك:
لك الحمد والمنُّ رب العبا
دِ أنت المليك وأنت الحَكَمْ

ودِنْ دين ربك حتى التُّقى
واجتنبنَّ الهوى والضَّجَمْ

محمدًا ارْسَله بالهدى
فعاش غنيًّا ولم يُهتضَمْ

عَطاءٌ من الله أُعطيتَه
وخصَّ به الله أهل الحرمْ

وقد علِموا أنه خيرهم
وفي بيتهم ذي الندى والكرمْ

نبيُّ هدًى صادق طيِّب
رحيم رؤوف بوصْل الرَّحمْ

به ختَم الله مَن قبله
ومَن بعده من نبي ختَمْ

يموت كما مات مَن قد مضى
يُردُّ إلى الله باري النَّسمْ

مع الانبياء في جنان الخلو
د، همُ أهلها غير حِلِّ القَسمْ

وقُدِّس فينا بحب الصلاة
جميعًا، وعلَّم خط القلمْ

كتابًا من الله نقرا به
فمن يعتريه فقَدْمًا أَثِمْ

أمية بن أبي الصلت - حياته وشعره " لبهجة عبدالغفور الحديثي/ 260 - 264).

وقد رفَض د. جواد علي هذه القصيدة على أساس أن ما فيها من إيمان قوي بالنبي ودينه يتناقَض مع ما نعرفه من تردُّد أمية بالنسبة للإسلام وافتقار قلبه إلى الإيمان العميق، وأنه يُشير فيها إلى وفاة الرسول التي لم تقع إلا بعد موت أمية أولاً (المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/497 - 498).


لكن بهجة الحديثي لا يشكُّ في القصيدة، بل يرى أنها تمثِّل خَطْرة من الخَطَرات التي كانت تنتاب أمية؛ فالمعروف أنه لم يكفُر بالرسول تكذيبًا بل حسدًا؛ إذ كان في دخيلة نفسه مصدِّقًا بما جاء به، بل همَّ أن يعلِن إسلامه فعلاً، كما أن الأنطاكي، الذي كان يعيش في القرن الثالث الهجري، قد أكَّد أنها موجودة في شعره ومفهومه عند أهل الخبرة به؛ (أمية بن أبي الصلت/ 78 - 79)، والحق أن الحُجَّة الأخيرة تكاد تكون العقبة الوحيدة التي تمنعني من القطع بزيف هذه القصيدة رغم ما فيها مما يُدابِر المنطق: فهي تتحدَّث عن اختتام النبوة بمحمد - عليه السلام - وهي قضية لم تكن قد طرحت بعد؛ لأن القصيدة لا بدَّ أن تكون قد سبقت غزوة بدر على آخر تقدير حيث حسَم أمية أمره بعد تلك الغزوة وشقَّ جيوبه، وعقَر ناقته، وتراجَع نهائيًّا عن الدخول في الإسلام، على حين أن الإشارة إلى أن نبوَّة محمد هي خاتمة النبوات قد وردت في سورة "الأحزاب"، التي نزلت بعد ذلك بزمن طويل على ما هو معروف، أما ما جاء في القصيدة من ذكْر موت النبي فلا يعني بالضرورة أنه قد مات فعلاً، إذ الكلام يحتمل هذا، كما يحتمِل أنه سيموت كسائر البشر حسبما جاء في قوله -تعالى-: ï´؟ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ï´¾ [الزمر: 30]؛ إذ أتى الفعلُ الدال على الموت في القصيدة في صيغة المضارع لا الماضي كما لا بدَّ أن يكون القارئ قد لاحظ، رغم أن في ذكْر الموت في حد ذاته في هذا السياق كثيرًا من الغرابة والخروج على مقتضيات المديح، كذلك فوصْف الرسول بأنه "رحيم رؤوف" هو صدًى لوصفه في القرآن في الآية قبل الأخيرة من سورة "التوبة" بهاتين الصفتين، وإن جاءنا في القصيدتين بعكس ترتيبهما في السورة، والآية المذكورة تنتمي لمرحلة زمنيَّة متأخِّرة عن تاريخ نظْم القصيدة، كذلك ففي القصيدة صدًى لقول رسول الله في حديث أبي هريرة: ((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلَّة القَسَم))، والمقصود الإشارة إلى قوله -تعالى- في الآية 71 من سورة "مريم": ï´؟ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ï´¾ [مريم: 71]، ومعروف أن أبا هريرة إنما أسلَم في المدينة في السنة السابعة للهجرة، أي بعد نظْم أمية قصيدته بأعوام، فكيف يمكن أن يتأثَّر أمية بحديث كهذا لم يكن قد قيل إلا بعد ذلك ببضع سنوات؟ وأنا هنا، كما يلاحظ القارئ، أنطلِق من أن القصيدة هي التي تأثَّرت بالقرآن لا العكس، ما دام أمية قالها في مدح النبي والتصديق بدعوته؛ إذ معنى هذا أنه لم يكن يرى في القرآن أي أثر لشعره، وإلا ما فكَّر في مدحه - عليه السلام - بتاتًا، بل في هجائه وفضحه، ثم إن في النظْم هنَات لا يقعُ فيها جاهلي عادة: فقد جاءت كل من كلمتي "أرسَله" و"الأنبياء" في القصيدة بهمزة، وهو ما يُحدِث اضطرابًا في موسيقا البيتين اللذين وردت الكلمتان فيهما، إلا إذا حذفنا الهمزتين كما فعلت أنا هنا، فعندئذ نشعر على الفور أننا بإزاء شعر إسلامي صوفي مما يصعُب انتماؤه للعصر الأموي أو حتى بدايات العباسي، لكن هل يمكن أن يكون هذا قد فات ابن داود الأنطاكي؟ تلك هي المعضلة، إلا أننا لو استحضرنا في المقابل أن كِبار مؤرخي الأدب ونقَّاده في تلك الفترة، وهم العلماء الذين شغلتْهم قضية الانتحال في الشعر الجاهلي والمخضرم؛ كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ وأبي الفرج وابن هشام، لم يرَوُوا شيئًا من هذا الشعر لأمية - لوجدنا أنها ليست بالمعضِلة التي تستعصي على الحل، وأيًّا ما يكن الأمر فكما قلت: إن مَن يريد منا أن نقبَل نِسبة الأشعار محل الدراسة لأمية فلا بد أن يقبَل معها الأحداث المصاحبة لها في الروايات التي أوردتها لنا.


ومما تقوله الروايات عن النبي وأمية أيضًا ذلك اللقاء الذي تمَّ بينه - صلى الله عليه وسلم - وفارعة أخت الشاعر حينما جاءته عند دخوله الطائف في السنة التاسعة للهجرة، وحكَت له قصة أخيها، وأَنشدتْه من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به - عليه السلام - قائلاً: ((يا فارعة، إن مَثل أخيك كمَثل من آتاه الله آياته فانسلَخ منها))؛ (ابن حجر، الإصابة في معرفة الصحابة، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، 1939م، 4/363، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، 1939م/ 4/379)، هل يُعقَل أنه - صلى الله عليه وسلم - يسعى إلى فتح ملف أمية ويقول فيه هذه الكلمة القارصة، وعلى مسمَع من أخته، وفي أشدِّ اللحظات على أهل الطائف وطأة؛ لأنها لحظة انكسار وانهِزام، لو كان قد استمدَّ شيئًا من قرآنه من شِعر الرجل؟ إنه في هذه الحالة كمَن يمد يده في جحر الثعابين والعقارب معرِّضًا نفسه لخطر الهلاك الوحِي دونما أدنى داعٍ، ومعاذ الذكاء المحمدي أن يَفوته - عليه السلام - ما ينتظِره من الخطر فيُقدِم على التصرف بمِثل هذا التهور! ونفس الشيء نقوله عن موقفه من الشريد بن الصامت، إذ لماذا يشجِّعه - صلى الله عليه وسلم - على الاستمرار في إنشاد الشعر الذي من شأنه أن يفضح دعواه لو كان أمية قد قاله فعلاً قبل القرآن، واستمدَّ هو قرآنه منه؟ بل لماذا يُنشِد سويد أمامه شعر أمية أصلاً لو كان مُتطابِقًا مع القرآن هذا التطابق الذي يدلُّ على استمداده منه؟ بل كيف لم يتنبَّه لهذا التشابه ولم يختلِج على الأقل ضميره بالشكوك والوساوس؟ ولنفترض بعد ذلك كله أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أقدَم على هذا التصرف الخاطئ في الحالين، فكيف لم يصدُر عن الطرف الآخر أيُّ شيء يُلمح إلى أسبقية شعر أمية على القرآن أو حتى إلى مجرَّد المشابهة بين النصين ولو على سبيل فلتات اللسان؟


وعندنا من الثقفيين، غير فارعة أخت شاعرنا، كنانة بن عبدياليل، وكان رئيس ثقيف في زمانه، واشترَك مع أبي عامر الراهب العدو اللدود للإسلام في التآمر على الدين الجديد وصاحبه، ولم يتركا سبيلاً إلا وسلكاه لبلوغ هذه الغاية، حتى إنهما ذهبا إلى قيصر للاستعانة به ضد الإسلام، ولما فشلا بقي أبو عامر في الشام، وعاد ابن عبدياليل بعد تَطواف هنا وهناك وأعلَن إسلامه، ويقال: إنه كان من بين المرتدين، ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى، والسؤال الذي يتبادَر إلى الذهن لو كان الرسول قد أخذ شيئًا من شعر أمية - هو: كيف سكت مثل كنانة فلم يتخذ من هذا الأمر سلاحًا يوجِّهه إلى قلب الإسلام في مقتل فيريح نفسه وقومه والعرب جميعًا من هذا البلاء الذي أرَّقهم وأزعجهم بدلاً من الضرب في الآفاق والاستعانة بمن يساوي ومن لا يساوي؟ أليس هذا هو ما كان ينبغي أن يُمليه المنطق على مِثل ذلك الزعيم القَبلي؟ لكنه لم يفعل، فعلامَ يدلُّ هذا؟ أيُعقل أن يكون بيده ذلك السلاح الحاسم ولا يفكِّر في استخدامه على طول ما حارَب الإسلام وكثرة ما تآمَر ضده؟ (ابن حجر، الإصابة في معرفة الصحابة، 2/496، و3/ 305).


وكان عروة بن مسعود الثقفي قد بكَّر بالدخول في الإسلام قبل قومه بزمن، فأراد من حُبه لهم أن يهديهم الله على يديه، فاستأذن الرسول - عليه السلام - أن يأتيهم فيدعوهم إلى الدخول في دين التوحيد، لكنه - صلى الله عليه وسلم - حذَّره من أنهم سيقتلونه، إلا أنه لم يكن يتصوَّر أنهم يمكن أن يُعادوه ويتأبَّوا عليه؛ اعتقادًا منه أنهم يحبونه ويُكرمونه أشد الإكرام، فعاود الاستئذان، والرسول يحذِّره، ثم أذن له في الثالثة ليذهب إليهم ويَلقى المصير الذي حاول الرسول أن يجنِّبه إياه؛ إذ ما إن بدأ يدعوهم إلى الإسلام حتى اجتمَعوا إليه من كل جانب ورمَوه بالنَّبل فقتلوه - رضي الله عنه؛ (أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة، ط2، حيدر أباد الدكن، 1950م/ 467)، أوَلو كان الرسول قد أخذ قرآنه من أمية ابن الطائف التي طال استعصاؤها على الإسلام إلى وقت متأخر، أكان عروة يدخُلُ في دينه مخالِفًا قومه بهذه البساطة؟ بل أكان الرسول يرضى أن يذهب إليهم هذا المندفِع الذي لا يفكِّر في العواقب، ومعروف أن أول ما سيجيبونه به هو: أوَقد نسيتَ أن الرسول الذي تدعونا إلى الإيمان بدينه ليس سوى سارق لشعر شاعرنا، أخذه وزعم أنه قرآن يوحى إليه من السماء؟ وحتى لو لم يفكِّر أي منهما في تلك النتيجة التي لا يمكن أن يتَّجه الذهن إلى أي شيء غيرها، أكانت ثقيف تدَعُ تلك الفرصة السانحة دون أن تتهكَّم بعروة على غفلته وتحمُّسه لدين يقومُ على هبْش النصوص الشعرية من الشعراء الآخرين والزعم بأنه وحي من عند رب العالمين؟


وهناك أيضًا من مشاهير الثقفيِّين الشاعر أبو مِحجن، الذي كان مدمِنًا للشراب، وكان يتأرْجَح بين عشقه المتوله للخمر وتحرُّجه الديني، وإن كان للعشق الغَلَبة في بداية أمره حتى لقد حُدَّ فيها مرارًا، ونفاه عمر إلى إحدى الجزر، إلى أن جاءت حرب القادسية، وقصَّته فيها معروفة؛ إذ كان ساعتها في القيد في بيت سعد بن أبي وقاص (قائد المسلمين في تلك المعركة) بسبب الخمر انتظارًا لإيقاع الحد عليه، فأخذ يُلح على امرأة سعد من وراء زوجها أن تَحُلَّ وَثاقه كي يستطيع المشاركة في الجهاد في سبيل الله، ولها عليه عهْد الله أن يعود من تلقاء نفسه بعد المعركة فيضع رجليه في القيد كَرَّة ثانية، حتى نجح في إقناعها فأطلقتْه فحارَبَ وأبلى في الحرب بلاء حسنًا وانتصَر المسلمون، فكان عند كلمته وعاد فوضَع رجليه في القيد، ثم أعلَن توبته النهائية عن أم الخبائث بعد أن أبدى سعدٌ إعجابه به ووعده أنه لن يَحدَّه أبدًا، إذ صرَّح قائلاً: إنه يستطيع الآن أن يُقلِع عنها دون الخوف من أن يقول أحد عنه: إنه ترَكها خَشية العقاب، ولا يزال ديوانه يمتلئ بالأشعار التي يتغزَّل فيها في بنت الكَرْمِ متمرِّدًا على تحريمها في دين محمد، بل إنه كان أحد الذين دافَعوا عن الطائف أثناء حصار المسلمين لها عقِب فتح مكة، وأصاب سهمه فيها ابنًا لأبي بكر؛ (الزركلي/ الأعلام/ ط3/ 5/243، ودائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية، 2/597 - 598، وديوان الشاعر، وبهجة عبدالغفور الحديثي، أمية بن أبي الصلت/ 42 - 43).


والسؤال هنا أيضًا: كيف لم يتحدَّث مِثل هذا الشاعر عن استعانة الرسول بشعر ابن قبيلته ولو في نوبة من نوبات تهتُّكه وتمرُّده على تحريم الإسلام الصارم لأم الخبائث، أو في شعره قبل دخوله في الإسلام؟


ثم لدينا من الثقفيين أيضًا الحَجَّاج بن يوسف، الذي كان معلِّمًا للقرآن في بداية حياته كأبيه، لا يبتغي بذلك مالاً، بل احتسابًا عند الله، ثم أصبح فيما بعد أحد عمَّال بني أمية الكبار، وهو الذي أدخَل على نظام الكتابة العربية المزيد من الإتقان والضبط؛ إذ عهد إلى نصر بن عاصم بإعجام الخط، أي وضَع النقاط للتمييز بين الأحرف المتشابهة؛ كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، طلبًا لمزيد من الدقة والتسهيل في قراءة القرآن، الذي يدَّعي بعض الرقعاء أنه مقتَبَس في بعض مواضِعه من شعر أمية، كما كان - رغم كل ما قيل عن قسوته أيام ولايته على العراق - من المداومين على قراءة القرآن، وكذلك كان يشجِّع بكل وسيلة على حفْظه، ويُدني منه حُفاظه (أحمد صدقي العمد، الحجاج بن يوسف الثقفي - حياته وآراؤه السياسية، دار الثقافة، بيروت، 1975م/ 86 - 87، 96، 474، 477، 478، وهزاع بن عيد الشمري/ الحجاج بن يوسف الثقفي - وجه حضاري في تاريخ الإسلام، دار أمية، الرياض/ 44)، والآن ألا يَحِقُّ لنا أن نتساءل: ما الذي جعل الحجاج يتحمَّس لدين محمد كل هذا التحمُّس لو كان هناك ولو ذرة واحدة من الشك تحوم حول مصدر هذا الكتاب، وبخاصة أن المصدر في هذه الحالة لن يكون شيئًا آخر غير شعر ابن القبيلة التي يعتَزِي هو إليها؟ لا ليس ابن قبيلته فقط، بل هو ابن خالة جده الرابع لأمه: معتب بن مالك؛ (انظر في نَسبه "الحجاج بن يوسف الثقفي - وجه حضاري في تاريخ الإسلام"؛ لهزاع بن عيد الشمري/15)، ولا يظننَّ أحد أن شعر أمية لم يكن يهمُّ الحجاج لانشغاله بالسياسة وما يتَّصِل بها، فقد روي عنه قوله: ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام (د. جواد علي/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/483)، أي إن نصوص الشعر والأدب إنما تضيع بذَهاب من يحفظونها، وههنا نقطة مهمَّة جدًّا، ألا وهي أن شعر أمية قد ضاع، على أقل تقدير، جانبٌ كبير منه قبل الحجاج، فكيف وصَلَنا إذًا كل هذا الشعر الذي يُشابِه القرآن إذا كان واحد من أقرب من تَصِله به رابطة الدم يشكو من ضياعه على هذا النحو؟


وأهم من ذلك كله دَلالة على ما نريد من أن القضية التي يُثيرها الفارغون الجهَّال من المبشرين، ومن لفَّ لفَّهم من أبناء المسلمين الذين ختَم الله على قلوبهم وعقولهم وأعينهم، فهم لا يفكِّرون ولا يستمعون إلا لكل مغرِض ممن يريد أن يقضي عليهم وعلى أمتهم، إنما هي زوبعة في كُستُبان لا أكثر - أنَّ الفارعةَ أخت أمية، وأبناءه القاسم وأمية وربيعة ووهبًا، قد دخلوا مع ثقيف كلها في الإسلام، وكان القاسم وأمية وربيعة يقولون الشعر، ولم يُؤثَر عن أي منهم ولا من غيرهم ممن كان يمتُّ بِصلة نَسب إلى أمية أية كلمة تُومئ مجرَّد إيماء إلى أن الرسول يمكن (يمكن فقط) أن يكون قد استفاد من شعر ذلك الشاعر على أي نحو من الأنحاء، ودَعْك من أن مجرَّد اعتناقهم الإسلام هو في حد ذاته برهانٌ على تكذيبهم بأبيهم وانحيازهم إلى محمد، وهو ما ينقُض ما يهرِف به الأغبياء المحترِقون حقدًا على دين محمد من أن القرآن هو في بعض جوانبه اقتباس من شعر متحنِّف الطائف، كما أن كثيرًا من العرب قد ارتدَّ بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وكان لكل قبيلة تَعلاتها السخيفة التي تحاول أن تسوِّغ بها هذه الردة، لكننا لم نسمع قط أن أحدًا ممن ارتدَّ قد فتح هذا الموضوع، بل إن قبيلة ثقيف قد همَّت بالارتداد، لولا أن عثمان بن العاص كرَّه إليهم الإقدامَ على مِثل ذلك التصرُّف الذي لا يَليق، فما كان منهم إلا أن فاؤوا إلى رُشْدهم ولم يعودوا إليها، بل كان منهم كثيرون حارَبوا المرتدِّين بكل إخلاص، وهنا أيضًا لم نسمع أية نأمة حول الاستفادة المحمدية المزعومة من شعر أمية! ليس ذلك فحسب، فهناك - كما أشار د. جواد علي (في كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"/ 6/493) - يوحنا الدمشقي مثلاً، وهو مِن أوائل مَن كتب مِن النصارى مهاجِمًا الإسلام، وكان معاصرًا لدولة بني أمية، أفلو كان لهذه الشُّبهة أي ظل من الحقيقة مهما ضؤل، أكان هذا الراهب المتعصِّب على الإسلام، والذي يريد أن يهدِمه على رؤوس أصحابه، ويُثبِت بكل وسيلة أن محمدًا لم يكن نبيًّا صادقًا، يُفلت تلك السانحة الغالية، ويسكُت فلا يستخدم هذه الورقة الجاهزة والرابحة بكل يقين؟


بهذا تكون القضية قد ظهَرت على وجهها الحقيقي: فلا أُميَّة ولا أي واحد من أبنائه أو أقاربه أو قبيلته أو حتى من العرب، بل ولا من النصارى واليهود الذين عاصَروا النبي أو جاؤوا بعده بقليل، قد أثار هذا الأمر على أي وضْع، أليس لنا الحق بعدئذ في أن نصف من يفتح هذا الموضوع الآن بالرقاعة والوقاحة؟ إن ذلك بمثابة رفْع دعوى من غير ذي صفة، بل من شخص لا يستنِد إلى أي توكيل من أي من أصحاب الشأن رُغم أن الظروف كلها من شأنها أن تدفَع أصحاب الشأن هؤلاء إلى الكلام لو كان لتلك المزاعم أساسٌ أي أساس!


خلاصة القول:
إنه ليس أمامنا في هذه المسألة إلا أمران: فإما قلنا بزَيْف نِسبة هذه الأشعار إلى أمية، وإما قلنا: إنه قد نظَمها تقليدًا لما جاء في القرآن، لكن د. جواد علي يرفُض الاحتمال الثاني، ولا يرى إلا احتمالاً واحدًا هو زيف الأشعار المعزوَّة إلى أمية، ومن بين ما اعتمَد عليه في هذا الرأي أن النبي - عليه السلام -لم يتَّهِم أمية بالأخذ منه (المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6/491)، وأنا - وإن كنت أَميل إلى رأى الأستاذ الدكتور - لا أستطيع أن أنبِذ الرأي الآخر مائة في المائة؛ لعدم توفُّر دليل قاطع على صحته، ولكيلا أترُك فرصة لأي جعجاع يريد أن يجلِب على القرآن والرسول، فكان لا بدَّ أن أسُدَّ هذه الثغرة، ومن هنا فإني أُجيب على الحُجَّة التي ساقها د. جواد بالقول: إن النبي - عليه السلام - أكبر من أن يقف عند هذه الأشياء، وبخاصة أنه قد نزَل عليه القرآن كي يفيد منه الناسُ أيًّا كان نوع تلك الإفادة لا ليَشمَخ به عليهم، ثم إن القرآن ليس مِلكًا للرسول، بل هو كتاب الله، فماذا كان يمكن للرسول أن يقول لأميَّة في هذه الحالة، وبالذات إذا علِمنا أن أمية لم يواجِهه بل اكتفى بالازورار؟ وحتى هذا الازورار لم يكن كاملاً، فقد جاء في بعض الروايات أنه وفد عليه ذات مرة، واستمَع منه إلى سورة "يس"، وشهِد له بالحق، وأنه، عند عودته من الشام، قد أخذ طريقه إلى المدينة ليُعلِن الدخول في دين محمد لولا تحريض المشركين له بإثارة نقمته على الرسول جرَّاء مقتل بعض أقاربه على يد المسلمين في بدر حسبما جاء في "الإصابة"؛ لابن حجر و"مجمع البيان"؛ للطبرسي، وغيرهما (د. جواد علي/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/486)، أما إذا كان لا بدَّ من أن يرُدَّ عليه النبي رغم ذلك كله، أفلا يكفينا ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله فيه: ((آمن شعره، وكفَر قلبه، أو آمن لسانه، وكفَر قلبه))؛ من كتاب "الشعر"، وقد أورده الدكتور جواد نفسه في (المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/485)؟ إذ معنى "آمن شعره أو لسانه" أنه كان يأخذ ما جاء في القرآن ويردِّده في شعره ترديد المؤمن به، لكن حسده له - عليه السلام - قد منَعه أن يعلِن ذلك بصفة رسمية ونهائية، وهذا معنى كُفران قلبه، أما الاحتمال الثالث الذي طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألماني شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبي وأميَّة قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك، فهو احتمال ليس له رِجلان يمشي عليهما؛ إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكاني والنفسي؟ ثم لماذا هما وحدهما بالذات من دون العرب كلهم بل من دون العالم أجمَع؟
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]