عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 20-08-2022, 05:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,706
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع


الخطايا تغوص فيهِ وتطفو
والمنايا تُشيرُ من كلِّ رقعةْ

عصركم سيّد الأكاذيبِ، يُلقي
للذي قنّن الأكاذيبَ سمعهْ

إنّه يحلم بحالة ثقافيّة غير تلك التي خنقت شعورَه وفكرهُ وحسّه الأدبيّ، وهو يصفها بأقسى ما يمكن من وصف، والتعبير عن سيادة تلك الثقافة بكلمة "عصركم" يدلّ دلالة عميقة على "السيطرة" و "الطغيان"، فنحن نسمي العصور وننسبها للشيء البارز فيها، وعادة ما يكون هذا البارز هو "المسيطر" الذي يقف على هرم التوجيه في هذا العصر أو ذاك. وفي نهاية المقطع يشير الشاعر إلى ميزة هذا العصر، فهو "سيّد الأكاذيب" لأنه يتلقى هذه "الأكاذيب" من "الآخر". ومن هو هذا الآخر؟ إنه "الثقافة الغازية" الغربية التي استقى منها "الشيوخ" الكبار (كما يصفهم محمود شاكر) ثقافتهم ونهلوا منها باعتبارها الثقافة المثلى. وقبل أن نذهب إلى تحليل المقطع التالي لا بد لنا من وقفة مع الدكتور عبدالحميد إبراهيم في كتابه "الوسطيّة العربيّة: مذهبٌ وتطبيقٌ" حيثُ يقول بعد أن عرض لحالة التأثر بالحضارة الغربية واستيراد المصطلحات الأجنبية لعناصر ثقافتنا:
"وربّما كان هذا نتيجة طبيعيّة للتفوّق الأوروبيّ، الذي أضاع الثقة وجعل المغلوب يولع بتقليد الغالب، أعرف الكثيرين - وأنا واحد منهم - قد يصل إلى فكرة ما عند الغزالي أو ابن تيمية أو ابن الجوزيّة فيجد تحرّجًا من إظهارها، ويحذر ألف مرّة من تهمة الرجعيّة والتخلّف والجمود وضيق الأفق والسلفيّة والتقليديّة وغير ذلك من عبارات تتوالى وتقف عقبة أمام استيحاء الذات، ولكنّه حين يجد هذه الفكرة عند سارتر أو نيتشه أو جيته، فإنّه يسرع لإظهارها، لأنّه يعرف أنّ الآخرين سينظرون إليها نظرة الإعجاب والتقدير، بل الأدهى أن الفكرة قد يقولها العربيّ نقلاً عن الغزاليّ أو ابن تيمية فلا تجد من يلتفت إليها، حتى إذا ما نقلها مستشرق تجد الترحيب والاهتمام"[52].
هل سمعتَ المثقفينَ؟ هراءٌ
ما يقولونهُ وزيفٌ وخُدعةْ

القديمُ الذي يريدون خاوٍ
والجديدُ الذي يسمّونَ "صرعهْ"

هم أجادوا تأليفَ فكرٍ جديدٍ
قل: أجادوا مع الصفاقةِ جمعهْ

عادَ "دنلوب" فيهم رافعَ الرأ
سِ يمنّيهم خلودًا ومنعةْ

أبشعُ العهرِ أن تحولَ الخيانا
تُ تنويرًا ويصبحَ الفكرُ سلعةْ


نحن في هذا المقطع مع مجموعة من الأفكار التي تتحدّث عن "النسق الثقافي المعيب" المختبئ وراء "البهرج" و"المظهريّة" اللذين تختبئ وراءهما الثقافة المسيطرة، فكل ما يقوله هؤلاء المثقفون "المهيمنون" هو "زيف" و "خدعة"، وقضية "القديم والجديد" تجعلنا نعود إلى رسالة محمود شاكر، فالتجديد عند شاكر هو: "حركةٌ دائبة في داخل ثقافة متكاملة، يتولاها الذين يتحرّكون في داخلها كاملةً حركةً دائبةً، عمادها الخبرةُ والتذوّق والإحساس المرهف بالخطر، عند الإقدام على القطع والوصل، وعند التهجّم على الحلّ والربط. فإذا فقدَ هذا كلّه، كان القطع والحلّ سلاحًا قاتلاً مدمّرًا للأمة ولثقافتها، وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكّك والضياع، إذ يورِّثُ كلُّ جيل منها جيلاً بعده، ما يكون به أشدّ منه حيرة وتفكّكًا وضياعًا"[53].

تلك هي "العاقبة" كما يسميها محمود شاكر[54]، فما ظنّنا بالعاقبة إن "لم تكن الأفكار "المجدّدة" إلا ترديدًا لصياغة غريبة، صاغها غريب عن الثقافة، منتسبٌ إلى ثقافة غازية مباينة، وهو مع ذلك ناقص الأداة، لا خبرة له بتشابكها وعقدها، ثمّ هو في نفسه لا يضمر لها إلا التدمير والاستهانة، لغرض راسخ في قرارة النفس؟ ثمّ ما ظنّك أيضًا بالعاقبة، إذا صار "التجديد" عند أصحاب الثقافة أنفسهم، لا يزيدُ على أن يكون "سطوًا" مجرّدًا على هذه الصيغ الغريبة، ثمّ إقحامها إقحامًا على ثقافتهم، لا لحاجة أدّى إليها النّظر والفكر والتدبّر، بل الهوى وحبّ الظهور من مفرَّغٍ، أو من شبيهٍ بالمفرَّغِ، من ثقافته المتكاملة المتماسكة؟ ما أبشع العواقب عندئذٍ، وأبشعها التدهوُرُ المستمرُّ!"[55].

وقبل أن نمضي مع بيان محمود شاكر حول قضيّة "القديم والجديد" لا بدّ لنا أن نلاحظ أن ناقدًا كالغذامي مثلا لا تنطبق عليهِ كل الصفات التي تحدّث عنها شاكر في الفقرة السابقة، وليس ذلك مجال بحثنا، أعني: إن كان الرجل متغرّبًا أم غير ذلك، بل المهم هو أن نثبت الصفات التي تعبّر عن النسق الثقافي "المعيب"، والتي اتصفت بها ثقافة عصر شاكر وعصر الشاعر علي فريد، أما الغذامي فنظنّه وفق ما يقدّم أنه ليس "ساطيًا" بمعنى أن ينسب النظريّة له، إنما هو يثبت نُقوله من الثقافة الغربيّة ولديه تصوّر حول ضرورة استعمال تلك الأدوات المستوردة، وهذا ما قد يعارضه موقف الشاعر وموقف محمود شاكر دون أن يصل إلى الحدّ الذي يتحدّث عنه شاكر في الفقرة السابقة بكامل عمقه.

هناك "ميلٌ ظاهر إلى رفض "القديم" والاستهانة به، دون أن يكون الرفض ملمًّا إلمامًا ما بحقيقة هذا "القديم" وميلٌ سافر إلى الغلوّ في شأن "الجديد"، دون أن يكون صاحبه متميّزًا في نفسه تميّزًا صحيحًا بأنّه "جدّد" تجديدًا نابعًا من نفسه، وصادرًا عن ثقافة متكاملة متماسكة، بل كان ما يميّزه أنّ الله قد يسّر له الاطلاع على آداب وفنون وأفكار تعب أصحابها في الوصول إليها من خلال ثقافتهم المتماسكة المتكاملة!! وكفى الله المؤمنين القتال!"[56]

ويتحدّث شاكر عن ظاهرة "السطو"، وهو يعني بها أناسًا لا يربطهم في أنفسهم بهذا الماضي إلا اللسان العربيّ وحده، أما ضمائرهم فمرتبطة بشيء آخر[57]. وكان هؤلاء "الساطون" يأخذون آراء المستشرقين ومناهجهم في النظر، وقد يُسّرَ لهم السبيل لجعل "السطو المباشر أمرًا مألوفًا لا غبار عليه، بل زاد فقرّب إلى الأذهان سبيل الاقتناع بأنّه ضربٌ من "التجديد"، ومن متابعة "ثقافة العصر" ومناهج تفكيره في الدراسات الأدبية والتاريخيّة الخاصة بلغة العرب وتاريخهم وعلومهم وفنونهم ودينهم أيضًا!![58]" وقد "صار الآن ممكنًا أن يصبح من الممكن ومن السهل اليسير، أن يكون معنى "الجديد" و "التجديد" في دراسة آداب أمّة ما وفي دراسة تاريخها: أن يعمد "المجدّد" إلى اقتباس آراء وأفكار قد تولّى صياغتها من هوَ لصيقٌ دخيلٌ عليها وعلى لسانها، لم ينشأ فيه، وإنّما تعلّمه على كبر، فهو لا يعلم منه إلا أقلّ القليل، ومن هو نابتٌ في لسان آخر بآدابه وعلومه وفنونه وعقائده، ومن هو محرومٌ بطبيعته من القدرة على تذوّق آدابها تذوّقًا شاملاً، والتذوّق وحده عقدة العقد، ومن هو مسلوبٌ كلّ إحساسٍ بتاريخها كلّه"[59].

وبعد هذه النقول الكثيرة من محمود شاكر تتضح لنا القضية؛ قضيّة "النسق الثقافي" المعيب الذي يختبئ من وراء هذا المنهج "المجدّد". قضية "القبحيّات" التي تلخّصها أبياتُ الشاعر علي فريد، وتكشف عنها:
القديم الذي يريدونَ خاوٍ
والجديد الذي يسمّون "صرعهْ"

هم أجادوا تأليف فكرٍ جديدٍ
قل: أجادوا مع الصفاقةِ جمعهْ

عادَ "دنلوبُ" فيهم رافع الرأ
سِ يمنّيهم خلودًا ومنعةْ

أبشعُ العهر أن تحولَ الخيانا
تُ تنويرًا ويصبح الفكرُ سلعةْ

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]