
18-08-2022, 08:07 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,926
الدولة :
|
|
رد: الصورة الكلية عند الصحابي الشاعر حميد بن ثور الهلالي
الصورة الكلية عند الصحابي الشاعر حميد بن ثور الهلالي
د. ياسر عبدالحسيب رضوان
لقد كان هذا المشهد بما يَحمله من درامية مؤثِّرة حلقة الوصل إلى صورة المرأة الشمطاء، الذي يُعيدها الشاعر مرة أخرى إلى سياق القصِّ بعدما تناساها طيلة تلك الأبيات، فقد ترَكها في لحظة ارتفعت بها الفرحة برجولة ولدها الوحيد إلى القمَّة، ثم ها هو يُعيدها إلى مسرح الحدث وهي تَستقبِل النبأ الفاجع بمصرَع ولدها، وبين قمة الفرح وقمة الحزن ترسم المفارقة مشهد العقدة الدرامية الكبرى في القصيدة القصصية، إنها وهي المُولَهة بحب ولدها لا تملك من تصرُّف وقد بلَغها خبر الفاجعة إلا أن تعمد إلى سكينها لتذبح نفسها في مشهد دراميٍّ بالغ الأثر، مشهد يُصوِّر طقسًا من طقوس الحزن على الفقيد؛ حيث الانتحار الذي يعني ارتباط حياة الأم بحياة ولدها وجودًا وعدمًا[20]:
فَلَمَّا دَنَوْا لِلْحَيِّ أُسْمِعَ هَاتِفٌ 
عَلَى غَفْلَةِ النِّسْوَانِ وَهْيَ عَلَى رَحْلِ 
فَقَامَتْ إِلَى مُوسَى لِتَذْبَحَ نَفْسَهَا 
وَأَعْجَلَها وَشكُ الرَّزِيئَةِ وَالثُّكلِ[21] 
ولكن القدر الذي حباها غير مرَّة بأنعمه لا يريد أن يفقدها حياتها، وهي في غمرة فرحتها؛ إذ أعاد إليها ابنها في مشهد يَجمع مفارقة صارخة بين الموت وموسى تذبَح بها نفسها والحياة التي استمرت مع عودة الابن المثقَل بالجراح:
فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى أَتَاهَا كَمَا بَدَا 
وَرَاجَعَهَا تَكْلِيمَ ذِي حُلُقٍ جَزْلِ[22] 
تَستوقِف هذه القصيدة القصصية بعناصرها الدرامية الباحث في مُحاولة لاستكناه هذا المَنحى الشِّعري الذي ربما يكون له نظائرُه في الشعر العربي القديم[23] مع ملاحظة صورة المرأة في حالات فرَحِها وترَحِها أمام تقلُّبات الدهر ومفاجآته لها، والعلَّة التي مِن ورائها حكى الشاعر قصتها.
لقد فقَد الشاعر محبوبته ووجد بها وجدًا شديدًا ناسبه أن يُقسم على صدقه بهذا القسم المُشعِر بجو القداسة الدينية المصاحبة موكب الحجيج، وذلك في بداية القصة القصيدة على نحو ما مرَّ واستقطاب صورة هذه المرأة لم يكن إلا مُحاولةً منه لإحداث معادلة بين حبه وحب تلك المرأة لولدها، ويَغدو هذا الحب الذي شهد تحوُّلات من القوة والوهن، الفرح والحزن، الأمل واليأس مُعادلاً موضوعيًّا لحبِّه والولد نفسه المعادل الموضوعي لعلاقته بمحبوبته[24]، والقصيدة بهذا البُعد الرمزي من خلال الأسلوب القصصي تلفِت الباحث إلى أمر ذي بال هو أن ذوبان الحدود الفارقة بين الأجناس الأدبية في الشعر العربي لم يكن وليد العصر الحاضر، بل هو قديم قِدَم هذا الشِّعر نفسه؛ فالشعر العربي القديم شأنه شأن أي شعر "يبدأ غنائيًّا مُطلقًا، ثم غنائيًّا مقيدًا بحدث، ثم يَميل إلى الحكاية والحبكة والسرد، والروح القصصي والملحمي، ثم يَقترِب من الدراما عفويًّا، فتتولد فيه جذور تعد النواة الدرامية الأولى"[25].
جعل حُمَيد من المرأة الشمطاء صورة نموذجية للمرأة الأم التي قطَّب القدر لها جبينه غير مرَّة، ثم عاد يهشُّ لها في مُفارَقات متوالية بدت فيها رمزًا مثاليًّا للأم التي اقترن إعزازها وتقديسها بتقديسِهم للشمس رمز الأمومة في الديانة العربية القديمة، وفي غيرها من الديانات، وإن اتخذ هذا التقديس صورًا مختلفة نابعة من اختلاف البيئة التي يَنتمي إليها هذا المعتقد أو ذاك[26].
وفي قصيدة قصصية أخرى جاءت المرأة فيها مِحوَرية، تتكشف أحداث القصيدة القصصية عن نفسية هذه المرأة التي تبدو بخيلة حريصة، يدخلها الشاعر في صراع غريب مع ذئب جائع لا يجد من طعامٍ سوى ما تملك مِن بهْمٍ وشياه، وهو يُحاور ويداور طورًا، ويَجري طورًا، ويتخفَّى مُتربصًا طورًا آخر في صورة ليست ببعيدة عن الشعر العربي القديم؛ إذ "قد عني شعراء الجاهلية بحركة الذئاب حتى شبَّهوا بها حركة جيادهم، وحتى سموا الذئاب باسم حركتها العُسْل، وصوروها في حلكة الليل وهي تعسل على أطراف الماء تبحث عن فرائسها"[27]، وذلك على نحو ما تظهره القصيدة القصصية التي يبدؤها الشاعر بوصف المكان الفلاة الواسعة التي تدفع الناقة إلى إلقاء ما في رحمها من جنين، أو دم من علقة فحل؛ حتى تُواصِل السير ولا يهلكها الحمل، فهي تضن بنفسها على الهلاك، ولا تضن بما تحمل في رحمها، والفلاة من سعتها لا تستطيع الرياح الشديدة أن تصل إلى نهايتها، وهي مُقفِرة لا ماء فيها، مما يدفع القطاة إلى ترك وليدها كاليتيم الذي جفته المراضيع لتبحث الأم عن ماء تحفظ به حياة الوليد، في صورة مفارقة تمامًا لصورة الناقة؛ يقول الشاعر[28]:
وَأَغْبَرَ يمْسِي الْعِيسُ قَبْلَ تَمَامِهَا 
تَهَادَى بِهِ التُّرْبَ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ 
يَظَلُّ بِهِ فَرْخُ الْقَطَاةِ كَأَنّهُ 
يَتِيمٌ جَفَتْ عَنْهُ الْمَرَاضِيعُ رَاضِعُ 
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|