وعليه، تعد الكتابة التلغرافية أهم خاصية أو سمة فنية وجمالية وأسلوبية التي تميز الكاتبة الكويتية هيفاء السنعوسي عن كثير من الأدباء والأديبات في الوطن العربي بصفة عامة، والكويت بصفة خاصة.
سمة التضمين أو التوليد:
نعني بالتضمين أو التوليد تناسل القصة الفرعية عن القصة الكبرى. بمعنى أن هناك قصة مؤطرة وقصة مأطرة. ويتجلى هذا واضحاً في قصة (انتفاضة أنثوية) التي تتمرد فيها الأنثى على الرجل؛ بسبب معاناتها وفقرها وبرودة المشاعر بين الزوجين. ومن هنا، تعد جدلية الذكورة والأنوثة من أهم مقومات الكتابة السردية النسائية في أدبنا العربي المعاصر: " ارتدى نظارته ليقرأ رسالة صغيرة كتبت بلون أحمر، وضعتها زوجته قرب محفظته.. (حزمت أمتعتي، وغادرت المنزل، لا أفكر في العودة أبدا، فقد سئمت ارتداء الثوب الباهت الذي أطفأ أنوثتي، كرهت المشاعر الصامتة.. لقد وجدت طريقا آخر في مكان آخر) "[16].
تتضمن هذه القصة القصيرة جدا قصتين متداخلتين: قصة رئيسة مؤطرة تتفرع عنها قصة وليدة متناسلة عنها، وظيفتها التثبيت والتوضيح والتأويل والتعليق على الحدث شرحا وتبيانا وتفسيرا.
خاصية الكتابة النسائية:
تحضر الكتابة النسائية، عند هيفاء السنعوسي، بشكل لافت للانتباه، من خلال التركيز على قضايا الأسرة والذات، والاهتمام بالأنا المقنعة، واستكناه أعماق الشعور واللاشعور، وتجسيد خصوصيات الأنثى ومشاكلها الداخلية، وتحديد علاقتها الإيجابية والسلبية بالرجل السيد وغير السيد، ورصد واقعها الوجداني والذهني، وذكر تفاعلاتها الاجتماعية المختلفة، وتصوير الصراع الجدلي بين الرجل والمرأة أو بين الزوج والزوجة، والتلميح إلى العلاقات الغرامية بين العاشقين، ونقل الأجواء العاطفية بين الطرفين.
وعليه، تبرز صورة المرآة كثيرا في قصص هيفاء السنعوسي، وتدل هذه الصورة على صراع الذات مع نفسها من جهة، ومع الزمن من جهة ثانية، ومع واقعها الموضوعي من جهة ثالثة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الكتابة النسائية أنثوية الطابع، تتسم بطابع الصراع الذاتي، والتركيز على الشعور واللاشعور، والتشديد على جدلية الذات والزمن؛ لأن الأنثى - بطبيعتها- ترفض الشيخوخة اليائسة، وتتطلع إلى أن تبقى شابة دائما، تحافظ على رونقها ويناعتها ونضارتها وجمالها، وتكره تجاعيد الزمن القاتل: " تتأمل نفسها في المرآة، تلتفت بجسدها إلى اليمين ثم إلى الشمال.
تمعن النظر مرة أخرى. تلحظ تشوها في أعلى خدها الأيسر يذكرها بحادثة قديمة.
تقترب من المرآة أكثر فأكثر، تشعر بوخز في خدها الأيسر.
تضع بعض المساحيق على التشوه عله يختفي.
تلقي بخصلة من شعرها على خدها الأيسر.
تزفر بقوة...
تضع عطرا له رائحة قوية...
تحمل حقيبتها المحملة بأشياء كثيرة.
تفتح الباب بعنف و...
تتذكر جيرانها الذين يراقبون خطواتها كل ليلة.
تتحدى العبارات التي تتردد...
تخرج متحدية نفسها والآخرين. تلفحها نسمة هواء باردة فتضمر. [17]".
وهكذا، نلاحظ، في هذه القصة، تواتر صورة المرآة في علاقة بصورة الجسد من ناحية، وحضور صورة القبح والجمال من ناحية أخرى. ويعني هذا أن الساردة تركز كثيرا على جسد المرأة وصفا وتأملا ورصدا. وهذا أيضا من سمات الكتابة السردية النسائية التي تعنى كثيرا بجمال المرأة، وبلاغة جسدها وجمالها ومفاتنها.
ومن جهة أخرى، تحضر صورة الحب في قصة (حول مشاعري) من خلال استكشاف الذات في أبعادها الشعورية واللاشعورية، مع رصد العلاقات الإنسانية الدفينة، سيما المتعلقة بالحب الصريح والدفين: "أحبها أربع سنوات، سحرته بروحها الأخاذة، كانت زميلته في الجامعة، تناغمت روحه وروحها، وعدها بالزواج، ووعدته برفض كل من يتقدم إليها. فجأة!! تزوج زميلتها التي كان يستخف بجمالها الصامت وبروحها المتجمدة!!"[18].
إذاً، تتميز هذه القصيصة بالذاتية المستبطنة، والنزعة الوجدانية الموغلة في التناقض، وسمة المفارقة الصارخة.
الجمع بين علامة الحذف وعلامة التخييل السردي:
ما يلفت انتباهنا، في قصص هيفاء السنعوسي، هو تنوع علامات الترقيم، وبروز علامة الحذف التي تدل على الصمت والإيحاء والتلميح بدل البوح والصراخ والتصريح. وتقوم علامات الترقيم بأدوار هامة في توضيح الدلالات، وتبيان المعاني، واستكشاف الرؤى الموضوعاتية والمقصدية، وتحسين القراءة بكل أنواعها: السريعة، والعادية، والعميقة، وتجويد التوقف تارة، والاسترسال في المتابعة البصرية تارة أخرى، وتقسيم الأفكار وتوزيعها، وتنظيم الإبداع السردي فضائيا وبصريا. ومن هنا، تؤدي علامات الترقيم دلالات سيميائية عدة، لغة وأيقوناً ورمزاً وإشارة. والآتي، أنها ترتبط بسياق النص ذهنيا ووجدانيا وحركيا، فحينما نتعامل - مثلا- مع علامة التأثر أو التعجب، فإننا نتفاعل مع الجملة وسياقها تعبيرا وانفعالا وحركة، لنخرج كل ما لدينا من طاقة تعبيرية لأداء الجملة أداء حسنا. و" لئن أمسى الترقيم المؤسس على الاعتبارات التركيبية والنحوية، والمتسم بغزارة العلامات، أو ثق صلة بالكتابي منه بالشفوي، فإنه في حالة تراجع حاليا، خاصة، وأن مسالة الترقيم في نظر أهل الذكر اليوم تدور في المقام الأول على الفهم والإفهام. أي: إن الترقيم ليس تابعا للنحو وحده، ولا للتنفس والتنغيم على حدة، بل هو مجال مشترك بين ذلك كله، فضلا عن صلته بالمنطق صلة جعلته خليقا بتحقيق العبور [عبور الفحوى] من الكاتب المبدع إلى جمهوره، فكأن الترقيم جسر بين عقلين، أو قل هو بمثابة سفير منتج النص لدى قرائه. لذا، يؤكد جاك دريون أن: " الترقيم ليس قضية تركيب أو تنفس، بقدر ما هو نتيجة حتمية لشكل معين من أشكال التفكير. أما القاعدة الضابطة له، فهي تلك التي تقتضيها الفكرة المعبر عنها. بل إن الغاية المرتجاة منه تنبع من صميم التفكير ذاته". ثم، إن ربط وظائف الترقيم بمطلب الفهم والإفهام يجعل الوقف في حد ذاته ظاهرة خاضة للمنطق. يقول نوفارينا في هذا الصدد: " إن الفكرة تنفس". أي: إن الوقف ليس مستقلا، وإنما هو من توابع التفكير. أي: إن السكتات المقررة بمقادير مضبوطة في مواضع معينة، ليست مجرد محطات تنفسية بالمعنى البيولوجي للتنفس، وإنما في المقام الأول وقفات معنوية، فالعبرة من الناحية اللغوية ليست بأن يستعيد القارئ نفسه، بل المهم أن يتعاطى القارئ السكت بمقادير معلومة، وفي مواضع محددة من السلسلة المنطوقة رفعا للبس، وصونا لمقصد المتكلم عن التبدل. [19]".
وعليه، فعلامة الحذف الثلاث (...) هي أساس التكثيف والحذف والإضمار، وهي أيضا من خاصيات القصة القصيرة جدا وسماتها النوعية... و تحث المتلقي على التأويل والتخييل، وإعادة بناء النص من جديد.
كما ننتقل مع الكاتبة من سمة الحذف التي تعتمد على النقط الثلاث إلى سمة النقطتين الأفقيتين (..) اللتين تقومان مقام الفصلة أو ترك المجال للتأمل والتخييل أو الوقف المتوسط. وتوظف كثيرا في الرواية والقصة والشعر المعاصر للدلالة على الوقفة الخفيفة، وتوضع أحيانا بدلا من الفاصلة، وأحيانا أخرى ليس بدلا عنها، وتستعمل لوظائف فنية وجمالية. وقد تستعمل لتزيين العبارات والجمل أو لتقطيع النفس الكتابي. ويمكن أن توضع بين فعل الشرط وجزائه، إذا طال الركن الأول، ويمكن أن توضع بين ركني الجملة، إذا طال الركن الأول. ويلتجئ المبدعون إلى مثل هذه العلامة لإعطاء القارئ فرصة الاستمتاع بالنص لذة وتقبلا وجمالا، والتمعن فيه أثناء القراءة ذهنيا وبصريا ووجدانيا وحركيا. وأسمي هاتين النقطتين الأفقيتين بمصطلح جديد هو علامة التخييل السردي.
وبناء على ما سبق، تكثر هاتان النقطتان الأفقيتان في مجمل نصوص الكاتبة، كما يتبين ذلك جليا في قصة (مرشح الشعب) التي تسخر فيها الكاتبة من الانتخابات المزيفة في الوطن العربي: " يجتمع النائب السابق بأبناء القبيلة.. يخطب فيهم.. يقف رجل:
• علينا جميعا أن نتكاتف لانتخاب المرشح بندر.
يطفو صوت ضئيل يتجرأ بالقول:
•علينا أن نواجه الحقيقة، فهو لا يدلي برأيه في القضايا المهمة.
ينظر إليه الرجل بغضب:
• ولكنه يخلص معاملاتنا حتى معاملة الخادمة في وزارة الداخلية. [20]".
على الرغم من مباشرة هذه القصة القصيرة جدا، فهي قصة تأملية ساخرة تنتقد الواقع المحبط الذي تعيشه الانتخابات العربية في ظل الفساد السياسي والجو الإداري القاتم.
السمة الميتاسردية:
يقصد بالميتاسرد أو الميتاقص (Métarécit) ذلك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا، كما يعنى هذا الخطاب الوصفي برصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخييلية، واستعراض طرائق الكتابة وتشكيل عوالم متخيل السرد، وتأكيد صعوبات الحرفة السردية، ورصد انشغالات المؤلفين السراد، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية، سيما المتعلقة بالأدب وماهيته ووظيفته، واستعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون وكتاب السرديات بشكل عام. بمعنى أن الخطاب الميتاسردي يحقق وظيفة ميتالغوية أو وظيفة وصفية (Fonction métalangage) تهدف إلى شرح الإبداع تمظهرا ونشأة وتكونا، وتفسير آلياته وتقنياته الفنية والجمالية قبل الإبداع، وفي أثنائه، وبعد الانتهاء منه. ويذكرنا هذا الخطاب بالميتامسرح، وخطاب السينما داخل السينما، والسيرك داخل السيرك، كما يحيلنا هذا المفهوم على الروائية أو ما يسمى كذلك بالرومانيسك (Romanesque). ويعني هذا أن الخطاب الميتاسردي كتابة نرجسية قائمة على التمركز الذاتي، وسبر أغوار الكتابة الذاتية، والتشديد على الوظيفة الميتالغوية بمفهوم رومان جاكبسون (Roman Jakobson). علاوة على ذلك، يسائل الخطاب الميتاسردي طرائق تكون الإبداع ونشأته، ووصف عملية الكتابة وخطواتها، ورصد التناص والمناص والنص الموازي، وتبيان أنواع التداخل بين النص الإبداعي والنص الميتاسردي، هل هو قائم على التأطير التعاقبي أو التناوبي أوالمتوازي أو المتقاطع؟! مع تبيان عمليات الانتقال من النص السردي إلى النص الميتاسردي، والعكس صحيح أيضا.
واليوم، لم يعد الخطاب الميتاسردي أو الميتاقص مجرد تضمين أو تداخل النصوص السردية، بل يتخذ عدة أشكال تتعلق بالتناص، والنص الموازي، والعتبات، والبناء السردي، والخطاب النقدي، والخطاب التنظيري، ومتخيل القراءة، وتعدد السراد والرواة، وميتاسرد الشخصية، وتكسير الإيهام السردي، ورصد عوالم الكتابة، وشرح تكون السرود انبناء وتشكيلا وتركيبا، وتبلورها فنيا وجماليا ودلاليا ورؤيويا. ومن ثم، يرتكز الخطاب الميتاسردي على تصوير عالم الكتابة السردية، وتجسيد قلق الكتابة، وتبيان كيفية تفكير القصة أو الرواية أو الحكاية في نفسها أو ذاتها بطريقة نرجسية أو مرآوية ذاتية. وإذا كان السرد - من جهة - يشخص الذات والواقع، فإنه - من جهة أخرى - يشخص أيضا ذاته، ويرصد عملية الكتابة نفسها، ويبرز مراحل تكونها وتطورها إلى أن يستوي النص السردي عملا إبداعيا، يستقبله القارئ الضمني أو المفترض استهلاكا وتقبلا وقراءة ونقدا.
هذا، وتحضر السمة الميتاسردية في كثير من قصص هيفاء السنعوسي، كما يبدو ذلك جليا في قصة (ولادة): " أمسك قلمه وبدأ يكتب...
تتقاذفه الأفكار... تتنافس الشخوص في الخروج من بوابة عقله...
تتصارع الأحداث للانطلاق في لحظة البدء...
يتوقف... يتصبب عرقا...
يسحب منديلا من جيبه يمسح به حبات العرق المتزاحمة على جبينه...
تنتفض ركبتاه... ترتعش أطرافه...
تختنق الشخصية المحورية بين يديه... تختنق...
تختنق...
ثم تناضل مرة أخرى من أجل الظهور...
تسقط قطرة عرق على الورقة...
ينزلق القلم من بين يديه...
يبعثر كيانه، تنتابه لحظة خوف من الاستمرار...
يتذكر خوفه من الموت... النتيجة واحدة... [21]".
يبدو أن هذه القصة القصيرة جدا قصة مضمرة تتكئ على كثرة المحذوف، وتعتمد على بلاغة الصمت والإضمار. وتتميز كذلك بالسمة الميتاسردية التي تتجلى في صراع الكاتب مع شخصياته الخيالية، سيما الشخصية المحورية التي كانت تناضل من أجل أن تحظى بالدور الرئيس في عالم الكتابة. بيد أن الكاتب لم يستطع الحسم مخافة من الموت. لذا، تحضر صورة الموت كثيرا داخل المتن السردي عند الكاتبة هيفاء السنعوسي.
السمة المأساوية:
تنبني السمة المأساوية على التوتر والدرامية والتأزم النفسي، والانشداد إلى القلق والحزن واليأس والخوف من الموت، كما يبدو ذلك واضحا في قصتها (قلق): "صرخات الطفل توقظها من نومها.
تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...
تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.
تضع في فمه زجاجة الحليب...
تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.
تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [22]".
تصور هذه القصة القصيرة جدا طفلة لقيطة تركها أبوها وحيدة يتكفل بها الآخرون. وهنا، تحضر صورة الموت بشكل بارز في علاقة جدلية مع صورة الشيخوخة وصورة الأمومة.
وتحضر الخاصية المأساوية أيضا حينما تتحدث الساردة عن الزمن والشيخوخة كما في قصة (ساعة الحائط): " يحمل جسده النحيل ويقف فوق الكرسي مستندا إلى الحائط. عبثا يحاول ضبط ساعة الحائط، يضع بطارية جديدة، ولكن العقارب تظل صامتة، وترفض الاستجابة.. يأتي حفيده..
• ماذا تفعل يا جدي.. الساعة مضبوطة.
يقف مذهولا.. يشعر بغصة تمنعه من الكلام. [23]".
إذاً، تتمحور هذه القصيصة حول جدلية الشباب والشيخوخة، وجدلية الحركة والموت، وجدلية البوح والصمت.
يتبع