سورة الليل1
مكية وآياتها احدى وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق الذكر والأنثى (3) إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى (11)
شرح الكلمات:
إذا يغشى: أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإقليم الذي يكون به.
إذا تجلى: أي تكشف وظهر في الإقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية.
وما خلق الذكر والأنثى: أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى.
إن سعيكم لشتى: أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة المورثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار.
من أعطى واتقى: أي حق الله وأنفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي.
وصدق بالحسنى: أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفا.
فسنيسره لليسرى: أي فسنيسره للخلة أي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة.
وأما من بخل واستغنى: أي منع حق الله والإنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يسأله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه.
وكذب بالحسنى: أي بالخلف وما تثمره الصدقة والإيمان وهو الجنة.
فسنيسره للعسرى: فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكرهه الله ولا يرضاه ليكون قائده إلى النار.
إذا تردى: أي في جهنم فسقط فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى {والليل} أقسم تعالى بالليل2 {إذا يغشى} بظلامه الكون، وبالنهار {إذا تجلى} 3 أي تكشف وظهر وهما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته، وأقسم بنفسه جل وعز فقال {وما 4خلق الذكر والأنثى} أي والذي خلق الذكر والأنثى آدم وحواء ثم سائر الذكور وعامة الإناث من كل الحيوانات وهو مظهر لا يقل عظمة على آيتي الليل والنهار والمقسم عليه أو جواب القسم هو قوله {إن سعيكم لشتى} أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنات الموجبة للسعادة والكمال في الدارين ومنه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين أي دار الدنيا والآخرة. وبناء على هذا {فأما من أعطى} حق الله في المال فأنفق وتصدق في سبيل الله {واتقى} الله تعالى فآمن به وعبده ولم يشرك به {وصدق بالحسنى5} التي هي الخلف أي العوض المضاعف الذي واعد به تعالى من ينفق في سبيله في قوله {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح6 "ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا"، فسيهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة بالجنة {وأما من بخل} بالمال فلم يعط حق الله فيه ولم يتصدق متطوعا7 {واستغنى} بماله وولده وجاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه ولا في أداء فرائضه وكذب بالخلف من الله
تعالى على من ينفق في سبيله {فسنيسره8 للعسرى} أي فسنهيئه للخلة العسرى9 وهي العمل بما يكره الله تعالى ولا يرضاه من الذنوب والآثام ليكون ذلك قائده إلى النار. وقوله تعالى {وما يغني عنه ماله إذا تردى10} يخبر تعالى بأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى حفاظا على ماله وشحا به وبخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه كما قال تعالى {وأما من خفت موازينه} أي لعدم الحسنات الكافية فيها {فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه.
2- تقرير القضاء والقدر وهو أن كل إنسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء لحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له، مع تقرير أن ممن وفق للعمل بما يرضى الله تعالى كان ذلك دليلا على أنه مكتوب سعيدا إذا مات على ما وفق له من العمل الصالح. وأن من وفق للعمل المسخط لله تعالى كان دليلا على أنه مكتوب شقاوته إن هو مات على ذلك.
3- تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة يتوقف حسب سنة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له. كما أن التوفيق للعمل الفاسد قائم على ما ذكرنا في العمل الصالح وهو اختيار العبد وطلبه وحرصه وتسخير نفسه وجوارحه لذلك هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
__________
1 قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ (والليل إذا يغشى) فلما بلغ (فأنذرتكم نارا تلظى) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.
2 من لطائف هذا الإقسام بالليل والنهار وهما ضدان الإشارة إلى تضاد الذكر والأنثى والحسن والسوء والعسر واليسر والتصديق والتكذيب وهذا محتوى هذه السورة.
3 تجلى النهار وضوح ضوئه أقسم الله تعالى بكل من الليل وظلمته والنهار وضوءه لما في ذلك من مظاهر قدرة الله وعظمته على خلق الظلمات والنور.
4 يرى بعضهم أن المقسم به المصدر بناء على أن (ما) مصدرية والصحيح أنها موصولة وأن الإقسام كان بالرب تبارك وتعالى فإنه أعظم إقسام.
5 كلمة الحسنى صالحة لعدة معان وهي مؤنث الأحسن ولذا هي صفة لموصوف محذوف وتنوسي فيها ذلك فصارت اسما لما هو أحسن كالجنة والمثوبة الحسنة والنصر والعاقبة والخلف على المنفق في سبيل الله وهو الراجح هنا لاختيار ابن جرير له.
6 رواه البخاري وغيره.
7 في الآية دليل على أن الجود من مكارم الأخلاق والبخل من أرذلها، وليس الجواد الذي يعطى في غير موضع العطاء كما ليس البخيل الذي يمنع في موضع المنع لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء.
8 في قوله فسنيسره للعسرى تهكم به نحو فبشره بعذاب أليم.
9 حديث صحيح.
10 التردي السقوط من أعلى إلى أسفل المفضي بصاحبه إلى الهلاك.