عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-08-2022, 03:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,007
الدولة : Egypt
افتراضي أمثلة على فن المقال في الأدب العربي القديم

أمثلة على فن المقال في الأدب العربي القديم


د. إبراهيم عوض





تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (23)


سبق أن قلنا: إن من نصوص أدبنا القديم التي يمكن أن تدخل بكل سهولة تحت بند "المقالة" نصيحةَ الأم الجاهلية لابنتها، وهي تجهزها لزفافها إلى أحد الملوك، تلك النصيحة التي وردت في عدد من كتب الأدب القديم، وهي تجري على النحو التالي: "لو تُرِكَتِ الوصيةُ لحسن أدب أو لكرم نسب لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، يا بنيَّة، إنك قد خلفت العشَّ الذي فيه دَرَجْتِ، والموضع الذي منه خرجت، إلى وَكْر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، كوني لزوجك أمَةً يكن لك عبدًا، واحفظي عني خصالاً عشْرًا، تكن لك دركًا وذكرًا:
أما الأولى والثانية: فحُسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة؛ ففي حسن الصحابة راحة القلب، وفي جميل المعاشرة رضا الرب.

والثالثة والرابعة: التفقد لموضع عينه، والتعاهد لموضع أنفه، فلا تقع عينُه منك على قبيح، ولا يجد أنفُه منك خبيث ريح، واعلمي أن الكحل أحسنُ الحسن الموجود، وأن الماء أطيب الطيب الموجود.

والخامسة والسادسة: فالحفظ لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، واعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير.

والسابعة والثامنة: التعاهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فحرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.

والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سرًّا، ولا تعصين له أمرًا، فإنك إذا أفشيت له سرًّا لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره أوغرتِ صدره"، وهي مقالة يمكن أن تحتل بكل اقتدار وجدارة عمودًا في مجلة "حواء"، أو "نصف الدنيا"، أو في صفحة "المرأة والطفل" في "أهرام" الجمعة.

أما النص التالي فهو في بعض مناقب الذباب، إي والله: بعض مناقب الذباب! وهو الجاحظ العجيب الذي ليس له ضريب، وقد نقلناه من كتاب "الحيوان": "وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة: أما إحداهما فقرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها، فمن أراد إخراجها من البيت فليس بينه وبين أن يكون البيت على المقدار الأول من الضياء والكِنِّ بعد إخراجها مع السلامة من التأذِّي بالذبان إلا أن يغلق الباب؛ فإنهن يتبادرن إلى الخروج، ويتسابقن في طلب الضوء والهرب من الظلمة، فإذا أُرْخِيَ الستر وفُتِح الباب عاد الضوء وسلم أهلُه من مكروه الذباب.

فإن كان في الباب شق، وإلا جافى المغلق أحد البابين عن صاحبه ولم يُطبقْه عليه إطباقًا، وربما خرجن من الفتح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة، والحيلة في إخراجها والسلامة من أذاها يسيرة، وليس كذلك البعوض؛ لأن البعوض إنما يشتد أذاه ويقوى سلطانه ويشتدُّ كلَبُه في الظلمة، كما يقوى سلطان الذبان في الضياء، وليس يمكن الناس أن يدخلوا منازلهم من الضياء ما يمنع عمل البعوض؛ لأن ذلك لا يكون إلا بإدخال الشمس، والبعوض لا يكون إلا في الصيف، وشمس الصيف لا صبر عليها، وليس في الأرض ضياءٌ انفصل من الشمس إلا ومعه نصيبه من الحَر، وقد يفارق الحر الضياء في بعض المواضع، والضياء لا يفارق الحر في مكان من الأماكن، فإمكان الحيلة في الذباب يسير، وفي البعوض عسير، والفضيلة الأخرى أنه لولا أن الذبابة تأكل البعوضة وتطلبها وتلتمسها على وجوه حيطان البيوت وفي الزوايا لما كان لأهلها فيها قرار.

وذكر محمد بن الجهم فيما خبرني عنه بعض الثقات أنه قال لهم ذات يوم: هل تعرفون الحكمة التي استفدناها في الذباب؟ قالوا: لا، قال: بلى، إنها تأكل البعوض وتَصيدِه وتلقطه وتفنيه؛ وذلك أني كنت أريد القائلة، فأمرت بإخراج الذباب وطرح الستر وإغلاق الباب قبل ذلك بساعة، فإذا خرجن حصل في البيت البعوض في سلطان البعوض وموضع قوته، فكنت أدخل إلى القائلة فيأكلني البعوض أكلاً شديدًا، فأتيت ذات يومٍ المنزلَ في وقت القائلة، فإذا ذلك البيت مفتوح، والستر مرفوع، وقد كان الغلمان أغفلوا ذلك في يومهم، فلما اضطجعت للقائلة لم أجد من البعوض شيئًا، وقد كان غضبي اشتد على الغلمان، فنمت في عافية، فلما كان من الغد عادوا إلى إغلاق الباب وإخراج الذباب، فدخلت ألتمس القائلة، فإذا البعوض كثير، ثم أغفلوا إغلاق الباب يومًا آخر، فلما رأيته مفتوحًا شتمتهم، فلما صرت إلى القائلة لم أجد بعوضةً واحدةً، فقلت في نفسي عند ذلك: أراني قد نمت في يومي الإغفال والتضييع، وامتنع مني النوم في أيام التحفظ والاحتراس، فلِمَ لا أجرب ترك إغلاق الباب في يومي هذا؟ فإن نمت ثلاثة أيام لا ألقى من البعوض أذىً مع فتح الباب علمت أن الصواب في الجمع بين الذبان وبين البعوض، فإن الذبان هي التي تفنيه، وأن صلاح أمرنا في تقريب ما كنا نباعد، ففعلت ذلك، فإذا الأمر قد تم، فصرنا إذا أردنا إخراج الذبان أخرجناها بأيسر حيلة، وإذا أردنا إفناء البعوض أفنيناها على أيدي الذبان بأيسر حيلة، فهاتان خصلتان من مناقب الذبان"، وهذا النص - كما يلاحظ القارئ - مقال علمي يرينا كيف يتقدم العلم، وتتم بعض اكتشافاته بالمصادفة المحضة التي يتلوها افتراض تفسير معين يتحقق منه المرءُ بإجراء التجارب وتكرارها إيجابًا وسلبًا إلى أن يطمئن لصحة ما افترضه أو لا، ورغم أن المقال علمي، فقد كُتب بأسلوب الجاحظ الأدبي المتميز، فهو إذًا من المقالات العلمية المتأدبة.

وبعد أن انتهينا من هذا المقال البديع للجاحظ نحب أن نقدم للقارئ هذا النص لابن الجوزي، ولسوف يرى بنفسه أن من الممكن جدًّا نشرَه الآن في أية صحيفة أو مجلة؛ بوصفه مقالاً في أهمية الاستعانة على مشاق الحياة بشيء من الفكاهة والهزل، ويستند الكاتب في احتجاجه على أهمية الفكاهة إلى أن العلماء والأفاضل لم يكونوا يتحرجون من ذلك، وقد أخذناه من مقدمة كتاب ابن الجوزي: "أخبار الحمقى والمغفلين": "وما زال العلماء والأفاضل يُعجبهم المُلَح، ويهشون لها؛ لأنها تجم النفس، وتريح القلب من كدِّ الفكر، وقد كان شُعبةُ يحدث، فإذا رأى المزيد النحوي قال: إنه أبو زيد البسيط:
استعجمت دارُ نعمٍ ما تكلمنا
والدار لو كلمتنا ذاتُ أخبار


وقد روينا عن ابن عائشة أحاديث ملاحًا في بعضها رفث، وإن رجلاً قال له: أيأتي من مثلك هذا؟ فقال له: ويحك! أما ترى أسانيدها؟ ما أحد ممن رويت عنه إلا هو أفضل من جميع أهل زماننا، ولكنكم ممن قبح باطنه فرأى ظاهره، وإن باطن القوم فوق ظاهرهم، ووصف رجل من النساك عند عبيدالله بن عائشة فقالوا: هو جد كله، فقال: لقد أضاق على نفسه المرعى، وقصر طول النهى، ولو فككها بالانتقال من حال إلى حال لنفَّس عنها ضيق العقدة، وراجع الجد بنشاط وحدة، وعن الأصمعي قال: سمعت الرشيد يقول: النوادر تشحذ الأذهان، وتفتق الآذان، وعن حماد بن سلمة أنه كان يقول: لا يحب المُلَح إلا ذكران الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنَّثُهم، وعن الأصمعي قال: أنشدت محمد بن عمران التميمي قاضي المدينة، وما رأيت في القضاة أعقل منه:
يا أيها السائلُ عن منزلي
نزلت في الخان على نفسي

يغدو عليَّ الخبز من خابز
لا يقبل الرهن ولا ينسي

آكل من كيسي ومن كسوتي
حتى لقد أوجعني ضرسي


فقال: اكتبه لي، قلت: أصلحك الله، إنما يكتب هذا الأحداث.

فقال: ويحك! اكتبه؛ فإن الأشراف يُعجبهم الملاحة.

فقد بان مما ذكرنا أن نفوس العلماء تسرح في مباح اللهو الذي يكسبها نشاطًا للجد، فكأنها من الجد لم تزل، قال أبو فراس:
أروِّح القلبَ ببعض الهزل
تجاهلاً مني بغير جهل

أمزح فيه مَزْح أهل الفضل
والمزح أحيانًا جلاء العقل

يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.76 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.80%)]