عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-07-2022, 04:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عقوق الوالدين.. قصيدتان من تراثنا الأدبي

وتأتي بالفعل المضارع الذي يفيد التجدد والحدوث (أُبصِرُ)؛ لتُبيِّن لنا أن هذا الإحساس يتكرر، وهي تجسم العجب هنا، فهي تبصره في فعل ولدها الذي يعيش في فكرها طفلًا صغيرًا تمنحه الحنان والرحمة، ثم يأتي بعد ذلك شخص ثالث يدخل معنا في آخر بيتينِ (إنها عرس الابن)، وكلمة (عرس) هنا تبين لنا أنه جديد عهد بالزواج، ولعلها تريد أن تقول: إن خطواته الأولى نحو العقوق بدأَتْ من لحظة الارتباط بتلك المرأة الماكرة، التي تقول لزوجها: "إنَّ لنا في أمِّنا أربا"، وتذكر الأم الشاعرة علة القول، فهي لا تقول له ذلك لتكفَّه عن أمه وترقق قلبه عليها؛ وإنما لتُسمِعَها حتى تبين لها أنها صاحبة فضل عليها، فلولا قولها لأهلكها ولدُها، فهي سيدة المكان التي لديها القدرة على التأثير في ذلك الولد العاق، ومكرُ هذه المرأة يظهر في ثنايا الكلمات، فهي لا تدافع عن الأم أو تلتمس لها الأعذار، بل هي تطلب منه أن يرفق بها؛ لأن لهم فيها حاجة (أربا)، وتنكير (أربا) يبدو هنا للتحقير، فما الأرب من سيدة عجوز؟! هل هو السن والتجربة[6]؛ كما يقول التبريزي في شرحه؟ أو أن المعنى - كما يحاول المرزوقي أن يفسره -: "إنا لا نستغني عنها، ولا تتمشى أمورنا إلا بها وبحياتها"؟[7].




أظن أن تحميل العبارة لهذه المعاني فيه نوع من المبالغة، وأنالشاعرة تريد أن تقول: إن كلام المرأة لزوجها كان يتَّكِئ على حجة ضعيفة، لا تخاطب عاطفة، ولا تتلمس منطقًا، وهي بذلك تضرب عصفورينِ بحجرٍ واحد، فرغم أنه يبدو من كلام الأم أنها هي المحرِّضة لذلك الولد العاق، تظهر أمام زوجها بصورة المرأة الحنون المُصلحة؛ حيث تُوهِم الزوج أنها لم تكن تظن أن الأمور تصل به إلى حد الضرب وتمزيق ثياب العجوز، وفي نفس الوقت تبين للأم قدرتَها على التحكم والتأثير في ذلك الولد العاق، ومن ثَمَّ تأتي الصورة النهائية المؤلِمة التي شكَّلتها أفعال هذه الكَنَّة وأقوالها في مخيلة هذه الأم عند غياب الزوج، والتي رسمَتْها الشاعرة بصورة ساخرة، فجَّرتها مرارة الإحساس بالحزن والغيظ، فتلك التي تُظهِر الدفاعَ عنها أمام ولدها، لو رأتها في نار مسعَّرة من الجحيم لما اكتفت بذلك، بل لشاركت في وضع الحطب على تلك النار.



أبو مُنازِل فرعان بن الأعرف:

هو "فرعان بن الأعرف، من بني مرَّة بن عبيد، رهط الأحنف بن قيس، وكان شاعرًا لصًّا"[8]، يقول:



جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وبَيْنَ مُنازلٍ

جَزاءً كما يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طالِبُهْ




لَرَبَّيْتُهُ حتى إذا آضَ شَيْظَمًا

يَكادُ يُساوي غارِبَ الفَحْلِ غارِبُهْ




فلمَّا رَآني أُبْصِرُ الشَّخْصَ أَشْخُصًا

قَريبًا وذا الشَّخْصِ البَعيدِ أُقارِبُهْ




تَغَمَّدَ حَقِّي ظالِمًا ولَوَى يَدِي

لَوَى يَدَهُ اللهُ الذي هُو غالِبُهْ




وكانَ له عِنْدي إذا جاعَ أوْ بَكى

مِنَ الزَّادِ أحْلَى زادِنا وأطايبُهْ




ورَبَّيْتُه حتى إذا ما ترَكْتُهُ

أخا القَوْمِ واسْتَغْنَى عن المَسْحِ شارِبُهْ




وجَمَّعْتُها دُهْمًا جِلادًا كأنَّها

أَشَاءُ نخيلٍ لمْ تُقَطَّعْ جَوانِبُهْ




فأخْرَجني منها سَليبًا كأنَّني

حُسَامُ يَمانٍ فارَقَتْهُ مَضارِبُهْ




أَإنْ أُرْعِشَتْ كَفَّا أبيكَ وأصْبَحَتْ

يَدَاكَ يَدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ ضارِبُهْ








معاني الكلمات:

آض: رجَع.

الشيظم: الطويل والأسد.

غارب: الغَارِبُمن البعير: ما بين السَّنام والعُنق.

الدُّهم: جَوَادٌأَدْهَمُ:أَسْوَدُ.

جِلادًا: من الجلادة، وهي الصلابة.

أَشَاءُ نخيل: صغار نخيل لم يؤخذ منها شيء.




الشرح والأساليب:

في أبياته يعتمد الشاعر على الصور التشبيهية والكنائية، ولا شك أن وجود هذه الصور يخدم النصَّ في جوانبَ عدَّة؛ فهي تُبعِده عن التقريرية التي تضعف من التأثير الشعري، وهي تجعل المتلقِّي أمام صور ومواقفَ حيَّة تولد بداخله ما تستدعيه من انفعالات، وهي تكون أحيانًا لتقوية الفكرة أو بمثابة الدليل عليها، فهو يسعى من خلالها إلى التوضيح والتقريب والتأكيد، وهذا ما يتطلَّبه مقام الشكوى.



وفي بيته الأول يؤكد الوالد رغبتَه في أن ينال (مُنازِلًا) الجزاءُ الذي يستحقه، فدعا بأن يلاحقه الجزاء كما يُلاحِق الدائن دَيْنه، "وجعل فعل الجزاء للرحم، والجازي هو الله تعالى؛ لأنه السبب في الجزاء، ولتكون الشكوى أبلغ"[9].

وهو عندما يصف ولده بأنه صار طويلًا يختار تعبير (آض شيظمًا)، والشيظم الطويل والأسد، فهي تعطي دلالات الطول مع القوة والغلظة.



وفي رواية:

وبالمَحْضِ حَتَّى آضَ جَعْدًا عَنَطْنَطًا ♦♦♦ إِذا قَامَ سَاوَى غاربَ الفَحْلِ غارِبُهْ[10]




فقد كان يطعمه اللبن الخالص "المحض"، حتى إذا صار "جعدًا" مجتمع الأعضاء قوي البِنية، طويلًا "عَنَطْنَطًاوهو يؤكد عظم هذا الطول، ويجعل السامعَ الذي لم يرَ ولدَه يستشعر مدى الطول الذي وصل إليه، فيُصوِّره بأنه يكاد يكون مثل غارب الفحل (طول سَنام الفحل من الإبل)، وهنا يتجسَّد عمق الألم، ففي هذا الوقت الذي كان من المتوقع فيه أن يكون عونًا وسندًا له، يَخيب رجاؤه فيه، ثم يجعلنا الشاعر نلمس حالة الضعف التي يُعانيها في مقابل قوة ولده العاق، بصورة كنائية مؤثِّرة تجعلنا نراه أمامنا في حالة العجز الناتجة عن ضعف بصره، فهو يرى الشخص أشخاصًا رغم أنه قريب منه، ويرى البعيد قريبًا.



وقد كثَّف الشاعر من إحساسنا بعقوق ولده بقوله: "فلمَّا رآني"، فولده قد استغلَّ الضعف الذي يعاني منه أبوه، أو كأنه كان ينتظر تلك اللحظةَ ليظلمه، وتأتي الاستعارة التمثيلية "لوى يدي"؛ لتصوِّر لنا الإحساس بالألم النفسي الذي ترتب على فعل ولده، إن ما فعله كان مؤلمًا وقاسيًا، وهذا ما دفعه لأن يدعوَ عليه تلك الدعوة التي لا تصدر إلا عن أبٍ سحقه الإحساسُ بظلم ولده سَحقًا، وفي بعض الروايات:

وإنِّي لداعٍ دَعْوةً لو دعوتُها ♦♦♦ على جبلِ الريَّانِ لانفضَّ جانبُهْ[11]



وقد رُوي بسند ضعيف منقطع أن عمر بن الخطاب نظر "إلى رجل ملوي اليد، فقال له: ما بال يدك ملوية؟ قال: إن أبي كان مشركًا، وكان كثير المال، فسألته شيئًا من ماله، فامتنع، فلويت يدَه، وانتزعت من ماله ما أردتُ، فدعا عليَّ في شعرٍ قاله...، قال: فأصبحتُ يا أمير المؤمنين ملويَّ اليد، فقال عمر: الله أكبر، هذا دعاء آبائكم في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟"[12].




ثم يعود مرة أخرى ليصوِّر لنا شدة مرارته من الصدمة، فهو لم يكن أبًا قاسيًا أو ظالمًا أو بخيلًا، بل إنه لم يكن يتحمَّل أن يراه جائعًا أو باكيًا، ولم يكن يشبعه ويسكته إلا بأفضل الطعام وأطيبِه، فلا عذرَ لعقوقه، ولا حجة لتبرير طَمَعِه في مال أبيه، فقد ربَّاه حتى بلغ مبلغ الرجل، ويستعين الشاعر على تصوير ذلك بصورة كنائية "استغنى عن المسحِ شاربُه"، فقد صار رجلًا مستغنيًا عن أبيه الذي كان يخدمه ويطعمه، ثم يحكي لنا عن قصة هذا الظلم الذي تعرَّض له مِن أحب الناس لقلبه، وممن لم يتوقع أن يظلمه.



وفي بعض روايات القصيدة:



وما كنتُ أخشى أن يكونَ مُنازِلٌ

عَدُوِّي وأدنى شانئٍ أنا راهِبُهْ




حملتُ على ظَهْري وقرَّبْتُ صاحبي

صغيرًا إلى أَنْ أَنْكَرَ الطرَّ شاربُهْ[13]








ثم يحكي لنا الشاعر بعد ذلك عن قصة هذا الظلم، فهذا الأب قد جمع خيلًا دهمًا سوداء، صلبة قوية، وكانت العرب تحب الخيول الدُّهم، وتقول: "دُهْمُ الخيل ملوكُها"، وهذه الخيول الدُّهم كانت كأنها النخيل الصغيرة التي لم يؤخذ منها شيء، فما كان من الولد الذي رأى ضعف أبيه وعدم قدرته على مقاومته، إلا أن سلبها منه قهرًا، وانظر إلى تعبير "فأَخْرَجَني منها"، وكأن هذه الخيول كانت مسكنَه وملاذَه، حتى صار كأنه سيفٌ قاطع فارقَتْه الأيدي التي كانت تضرب به، فصار لا فائدة فيه ولا حول له، وتنتهي الأبيات بذلك الاستفهام الذي يحمل الإحساسَ بالعجز وخيبة الأمل وعدم التوقع.

ويروي الشنتمري في شرحه للحماسة أنه قد "وُلد لمُنازِل ابنٌ يقال له: خليج، فعقَّه كما عق هذا أباه، فاستعدى عليه الوالي فأحضره، فلما قدِّم ليُضرب، قال قائل: أتعرف - أصلحك الله - مَن هذا؟ قال: لا، قال: هذا مُنازِلٌ الذي يقول فيه أبوه...، وأنشده هذه الأبيات، فقال الوالي: يا هذا:

فَلا تَجْزَعَنْ مِن سيرةٍ أنتَ سِرْتَها ♦♦♦ فأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يسيرُها

ثم أمر بإطلاق خليج ابنه"[14].





[1] الميداني: مجمع الأمثال، بيروت: دار المعرفة، ج2 ص16.




[2] ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق الدكتور حسين نصار، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1957، ص78.




[3] أبو العباس المبرد: الكامل في اللغة والأدب، القاهرة، دار الفكر العربي 1997م، ج1 ص192.




[4] عبدالرحمن البرقوقي: الذخائر والعبقريات، الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر، ج1 ص19.




[5] المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، دار الكتب العلمية، بيروت: لبنان 2003 م، ص537.




[6] يحيى بن علي التبريزي: شرح الحماسة، بيروت: دار القلم، ص317.




[7] شرح الحماسة؛ للمرزوقي ص 539.




[8] ابن قتيبة الدِّينوري: الشعر والشعراء، القاهرة: دار الحديث 1423هـ، ج2 ص630.




[9] شرح الحماسة؛ للمرزوقي ص1010.





[10] جمال الدين بن منظور: لسان العرب، دار صادر: بيروت، باب الدال فصل الجيم، ج3 ص122.




[11] ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، بيروت: دار الكتب العلمية 1418، ج33 ص99.




[12] ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت: دار الكتب العلمية 1415هـ، ج6 ص246.




[13] جار الله الزمخشري: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، بيروت: مؤسسة الأعلمي 1412، ج4 ص272.




[14] شرح حماسة أبي تمام؛ للأعلم الشنتمري، بيروت: دار الفكر المعاصر 1992، ج2 ص1225.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]