شرح سنن النسائي
- للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
- كتاب الزكاة
(392)
- تكملة باب وجوب الزكاة
من الأمور الضرورية التي ينبغي للمسلم معرفتها أن الزكاة واجبة ويكفر منكرها، وإخراجها عن طيب نفس دليل على صحة الإيمان، ولهذا جعل الله تعالى للمتصدقين باباً في الجنة يدخلون منه وهو: باب الصدقة.
تابع وجوب الزكاة
شرح حديث: (... وما آيات الإسلام؟ ... وتؤتي الزكاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى تحت ترجمة: [ باب وجوب الزكاةأخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: ( قلت: يا نبي الله! ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن لأصابع يديه، أن لا آتيك ولا آتي دينك، وإني كنت امرأً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله عز وجل ورسوله، وإني أسألك بوحي الله: بم بعثك ربك إلينا؟ قال: بالإسلام، قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول أسلمت وجهي إلى الله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ) ].
فقد أورد النسائي رحمه الله تحت ترجمة: باب وجوب الزكاة، حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وبعثه إلى اليمن، وأمره بأن يدعو إلى التوحيد أولاً، ثم إلى الصلاة ثانياً، ثم إلى الزكاة ثالثاً، ثم أورد النسائي حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله تعالى عنه، الذي فيه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنني ما جئتك إلا وقد حلفت عددتهن لأصابع يدي، يعني: أنه حلف عشرة أيمان بعدد أصابع اليدين أن لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل في دينه، يعني أنه كان كارهاً للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام، ثم إن الله تعالى من عليه وهداه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، وأن يبين له الدين الذي بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم به، فقال: الإسلام، فقال: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، والمقصود من الحديث الجملة الأخيرة، وهي قوله: وتؤتي الزكاة؛ لأنه أرشده إلى ثلاثة أمور، إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، والتخلي من عبادة كل من سواه، ثم الصلاة، ثم الزكاة، وهذه هي الأمور الثلاثة التي جاءت في حديث معاذ مرتبة على حسب الأهمية، بأن يبدئ بالدعوة إلى الصلاة، ثم يبدئ بالدعوة إلى الزكاة، فهو أرشده صلى الله عليه وسلم إلى أعظم أمور الإسلام، وآيات الإسلام، والأشياء المطلوبة في الإسلام، وهي الشهادتان التي أشار إليها بقوله: أسلمت وجهي لله وتخليت، والرجل جاء يخاطب النبي ويقول: يا نبي الله! فمعنى ذلك أن أعظم شيء يدعى إليه في دين الإسلام هو الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
وهنا قال: (أسلمت وجهي لله وتخليت)، وهذا يعني: لا إله إلا الله؛ لأن لا إله إلا الله، نفي وإثبات، تنفي العبادة عن كل من سوى الله، وتثبتها لله وحده لا شريك له، فإن قوله: (أسلمت وجهي لله)، هي بمعنى: إلا الله، وتخليت، هي بمعنى: لا إله، ففيها نفي وإثبات، وفيها ترك وإتيان؛ ترك عبادة كل من سوى الله، والإتيان بالعبادة لله وحده لا شريك له.
فلا إله إلا الله متكونة من ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، وهذان الركنان معناهما: أنك تنفي العبادة عن كل من سوى الله في الركن الأول، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له في الركن الثاني؛ لأن الأول نفي عام، والثاني إثبات خاص، نفي العبادة عن كل من سوى الله وهذا النفي العام، وإثبات العبادة لله وحده وهذا هو الإثبات الخاص.
فقوله: (أسلمت وجهي إلى الله)، هي تماثل: إلا الله، (وتخليت) تماثل: لا إله، أي: أنه تخلى من عبادة كل أحد سوى الله سبحانه وتعالى، وأتى بالعبادة لله وحده لا شريك له خالصة له، كما أنه لا شريك له في ملكه فلا شريك له في العبادة، كما أنه رب العالمين، وهو خالق الخلق، فهو الإله الحق الذي يجب أن يفرد بالعبادة، ولا يجوز أن يصرف لغيره شيء من أنواع العبادة، بل العبادة كلها تكون خالصة لوجهه.
ومن المعلوم أن العبادة التي تكون لله خالصة لا بد أن تكون مطابقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما أشرت إليه في الدرس الماضي من أن هذا هو مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، أي: تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فلا ينفع العمل صاحبه إلا إذا كان خالصاً لله لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه، وكذلك أيضاً لا ينفعه العمل مع كونه خالصاً لله إلا إذا كان مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تخلف أحد الاثنين: الإخلاص أو المتابعة فإن العمل لا ينفع صاحبه عند الله، بل لا بد من نفعه وقبوله عند الله أن يكون خالصاً لوجه الله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان ليس خالصاً لله فإنه مردود؛ لقول الله عز وجل: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ))[الفرقان:23]، وعائشة رضي الله عنها لما ذكرت ابن جدعان وأنه كان يتصف بكذا وكذا وكذا، يعني: من أعمال الخير والإحسان، والمساعدات والإعانات، قال عليه الصلاة والسلام: ( إنه لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، يعني: لا ينفعه ذلك؛ لأنه لم يؤمن بالله عز وجل، ويخص الله تعالى بالعبادة، ويكون مؤمناً بالله، عابداً لله وحده، فلم ينفعه ذلك.
وأما إذا كان العمل ليس على السنة فإنه مردود على صاحبه، فيدل على ذلك الحديث المتفق على صحته من حديث عائشة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، وفي رواية لـمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
فإذاً: من شروط القبول: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الجملة الأولى فيما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بقوله: (أسلمت وجهي إلى الله وتخليت)، فيه إخلاص العبادة لله عز وجل، ونبذ عبادة كل من سواه، ثم ذكر الإتيان بالصلاة، ثم ذكر إيتاء الزكاة، التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد أرشده إلى هذه الأمور الثلاثة التي هي التوحيد، والصلاة، والزكاة، وغير ذلك تبع له، فمن استسلم وانقاد، وأتى بهذه الأمور الثلاثة يسهل عليه أن يأتي بما سواها.
ثم إن الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بشدة عداوته له، وأنه كان كارهاً له ولدينه، وقد حلف عشرة أيمان بعدد أصابع يديه أن لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتي دينه، ثم إن الله عز وجل قذف في قلبه الإيمان، ووفقه للإيمان، وهداه للإيمان، فتبدلت حاله من السوء إلى الحسن، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً متعلماً، سائلاً النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء التي هي مطلوبة منه، والتي بعثه الله تعالى بها، فبين له عليه الصلاة والسلام أعظم ما هو مطلوب من المسلم إذا أسلم لله عز وجل ودخل في الدين، فإنه أول ما يطالب به: أولاً المفتاح الذي هو الشهادتان، ثم أول شيء بعد ذلك الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة.
ففي هذا بيان ما كان عليه ذلك الرجل من شدة العداوة والبغض، كونه ألزم نفسه بأيمان حتى لا يهون عليه أن يأتي إليه، وتلك الأيمان هي بأصابع يديه، وقوله في الحديث: عددهن لأصابع يديه، يعني: هذا المقصود بالضمير بعددهن، أي: عدد أصابع اليدين، يشير لأصابع يديه، يعني: كأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأشار بيديه، وقال: عددهن، يعني: أنه يشير إلى أصابع يديه، ثم إن الله عز وجل هداه ومن عليه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسترشداً وسائلاً عن أمور الدين، فبين له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك وأجابه على ما سأله عنه.
والشاهد أن الزكاة هي أهم شيء يدعى إليه بعد التوحيد والصلاة.
تراجم رجال إسناد حديث: (... وما آيات الإسلام؟ ... وتؤتي الزكاة)
قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ].هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في كتاب القدر، والترمذي والنسائي وابن ماجه.
[ حدثنا معتمر ].
هو ابن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو هنا غير منسوب، لكن لا لبس في عدم النسبة؛ لأنه لا يوجد في الكتب الستة من اسمه معتمر سواه، هو الشخص الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم، يعني: معتمر بهذا الاسم ليس معه أحد في هذا، ولهذا سواء نسب أو لم ينسب؛ لأن ما هناك رجل عند النسائي اسمه معتمر إلا هذا الرجل، بل ولا في الكتب الستة كلها رجل يقال له: معتمر إلا هذا الرجل، وهو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده ].
هو بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
يروي عن أبيه حكيم بن معاوية القشيري، وهو صدوق أيضاً، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
وحكيم يروي عن معاوية الذي هو جد بهز وأبو حكيم ، وهو صحابي أخرج حديثه البخاري تعليقا،ً ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، أي أن هؤلاء الثلاثة الذين هم: الجد والابن والحفيد كلهم خرج لهم البخاري تعليقاً وأصحاب السنن الأربعة، وحكيم وبهز كل منهما صدوق، وأما معاوية فهو صحابي.
[ وإني كنت امرءاً ما أعقل شيئاً إلا ما علمني الله عز وجل ورسوله ].
إني كنت لا أعقل شيئاً، يعني: ليس عنده شيء من العلم ومن الحق إلا ما يأخذه عن الله وعن رسوله، أي: عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو يبلغ عن الله، يعني: أنه ليس عنده شيء من الدين إلا ما يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبلغه عن الله عز وجل، ولهذا سأله عن الذي بعثه الله تعالى به، وليس معنى ذلك أنه يشير إلى أنه ليس عنده علم؛ لأنه من المعلوم أنه الآن يبحث عن الإسلام والذي هو الأساس، فإذاً هو يسأل عن ما هو مطلوب منه، وما هو لازم له، وليس معنى ذلك أن عنده علماً سابقاً.
وقوله: أسألك بوحي الله، النسائي أورد الحديث في موضعين في هذا الباب، وأورده في باب: السؤال بوجه الله، والحديث جاء فيه بلفظ: أسألك بوجه الله، وفي هذه الرواية: بوحي الله، والرواية التي ذكرها النسائي في باب سيأتي: أسألك بوجه الله، والسؤال بوجه الله سؤال بصفة من صفاته، وكذلك السؤال بوحي الله سؤال بصفة من صفاته؛ لأن الكلام هو وحي الله عز وجل، وحي الله هو كلامه الذي أوحى به إلى رسله الكرام، فسواء كانت وحياً، أو سواء كانت وجهاً، الوحي هو كلام الله، وهو سؤال بصفة من صفات الله، والوجه صفة من صفات الله، وهو سؤال بصفة من صفات الله، فإن كان كل من الروايتين محفوظاً فكل له معنى، وإن كانت واحدة، يعني: مصحفة عن الثانية، وفي بعض النسخ هنا كما أشار في التعليق، فيها: بوجه الله، وعلى هذا تتفق مع الرواية التي ستأتي، ولكن على كون هذه محفوظة، فإن وحي الله هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، ووجه الله صفة من صفاته.
شرح حديث: (... والزكاة برهان ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عيسى بن مساور حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه أخبره عن جده أبي سلام عن عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك ) ]. أورد النسائي هذا الحديث، وهو حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه الذي فيه بيان فضائل لعدة خصال وعدة أعمال، اشتمل على فضائل لعدة أعمال، اشتمل على فضل الطهور، والوضوء وإسباغه، واشتمل على فضل التحميد والتسبيح، واشتمل على فضل الصلاة، وعلى فضل الزكاة، وعلى فضل الصبر، وعلى بيان أن القرآن حجة للإنسان أو عليه، فهو مشتمل على فضائل عديدة.
ومقصود النسائي من إيراد الحديث في هذا الباب الذي هو باب وجوب الزكاة، أو ما يتعلق بالزكاة قوله: (والزكاة برهان)، هذا هو مقصود النسائي من إيراد الحديث؛ لأن الحديث يتعلق بالصلاة، ويتعلق بالزكاة، ويتعلق بالصبر، ويتعلق بالوضوء وإسباغه، ويتعلق بذكر الله عز وجل، والثناء عليه، كل هذه فضائل دل عليها هذا الحديث، أو اشتمل عليها هذا الحديث على فضائل أعمال قولية وفعلية، والمقصود من إيراده جملة من جمله وهي: (والزكاة برهان)، وفي بعض الألفاظ: (والصدقة برهان)، وقد ذكرت أن الزكاة أنها تأتي يراد بها الفريضة، وتستعمل للفريضة، وأن الصدقة تأتي للنافلة وللفريضة، وذكرت بعض النصوص التي فيها ذكر الصدقة بمعنى الفريضة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ )[التوبة:60]، وكذلك: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة:103]، وحديث معاذ الذي مر بنا بالأمس: ( أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)، وفي الحديث هنا يقول: ( والصلاة نور، والزكاة برهان ).
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( إسباغ الوضوء شطر الإيمان )، وقد جاء في صحيح مسلم : (الطهور شطر الإيمان)، والمراد بالطهور هو الوضوء، وقيل: إن قوله: إنه شطر الإيمان؛ لأن الوضوء فيه طهارة الظاهر، وفيه نظافة الظاهر، والإيمان فيه نظافة الداخل الباطن؛ لأن الإيمان فيه طهارة الباطن، والوضوء فيه طهارة الظاهر، فصارت الطهارة ظاهرة وباطنة، فالباطنة هي: تتعلق بالقلب وهو الإيمان، وظاهره: تتعلق بالجوارح التي هي نظافتها، فنظافة القلب بالإيمان، ونظافة الجوارح بالطهارة التي هي الوضوء.
وقيل: إن المراد بالإيمان هو الصلاة، والطهور هو شطره، بمعنى أنه لا صلاة إلا بطهور، ليس هناك صلاة إلا بطهور، فهي شرط من شرائط الصلاة، بل من أعظم شرائط الصلاة أن الإنسان يكون على طهارة، ولا ينفع إنسان أن يصلي على غير طهارة، ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، كما قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فلا صلاة إلا بطهور.
فإسباغ الوضوء شطر الإيمان، قالوا: إن الإيمان هنا مراد به الصلاة، ويأتي إطلاق الإيمان على الصلاة، كما قال الله عز وجل: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )[البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، يعني: الصلاة الأولى التي صلوها إلى بيت المقدس وماتوا، أو الذين كانوا موجودين، فصلاتهم إلى بيت المقدس في محلها؛ لأنها طاعة لله، وصلاتهم إلى الكعبة أيضاً في محلها؛ لأنها طاعة لله، والذي ذهب لا يضيعه الله، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس التي كانت قبل النسخ والتحويل، فمن العلماء من قال: إن المراد بالإيمان الصلاة، والإتيان بالصلاة لا يتم إلا بالوضوء.
وكما قلت: في مسلم: ( الطهور شطر الإيمان )، وهنا (إسباغ الوضوء)، وإسباغ الوضوء يكون بالاستيعاب، وكذلك أن يشرع في العضد، وفي الساقين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل المرفقين والكعبين، ويشرع في الساقين والعضدين، معناه: أنه يدخل فيها، لكنه لا يستمر فيها ويطيل، وإنما يشرع فيها أن يتجاوز المرفق، فهذا من إسباغه، يعني: العناية بالاستيعاب، وكون الإنسان يشرع في الغسل الذي فيه النهاية، وهو الكعبان في الرجلين، والمرفقان في اليدين، بحيث يدخل في العضد ويدخل في الساقين، لكن لا يطيل ولا يستمر، وإنما يشرع فيهما، وكذلك أيضاً يكون بالتكرار، يعني: يغسل ثلاث مرات، يغسل مرتين أو ثلاث مرات؛ لأن هذا من الإسباغ، فهو شطر الإيمان، يعني: إكمال الوضوء وإسباغه هو شطر الإيمان.
( والحمد لله تملأ الميزان )، الحمد لله ثناء على الله عز وجل، وكلمة الحمد لله كلمة يقولها الإنسان بلسانه وشأنها عظيم عند الله عز وجل، فقيل في معناها: أن الأعمال التي تكون أعراضاً تكون أجساداً وأجساماً يوم القيامة وتوضع في الميزان، هي وإن كانت عرضاً بمعنى أنها صفة وهي كلام، إلا أن ذلك الكلام يجعله الله عز وجل على صورة جسم وعلى صورة شيء يوضع في الميزان، ولهذا جاء أن الأعمال تكون أعراضاً وتوضع في الميزان، وجاء أيضاً كونها تنفع صاحبها مثل ما جاء في البقرة وآل عمران، يعني: قراءتهما يأتيان يوم القيامة وهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تظل صاحبها يوم القيامة، تكون ظلاً له، يعني: فقراءته التي قرأها لهاتين السورتين يجعلهما الله عز وجل يعني: سحابة، أو غمامة، أو فرقان من طير صواف، يعني: تظلل صاحبها، الأعمال تقلب أعراضاً، ويجعلها الله أعراضاً وتوضع في الميزان، ويستفيد منها صاحبها كالتظلل الذي حصل.
( الحمد لله تملأ الميزان )، يعني: شأنها عظيم عند الله عز وجل، وفيه أيضاً دليل على أن الأعمال توزن، وإثبات الميزان وأن هناك ميزاناً توزن به الأعمال، والمقصود من الوزن هو: إيقاف الإنسان على أعماله، والموازنة بين سيئاته وحسناته، وليس ليعلم الله عز وجل المقدار؛ فالله تعالى عالم به وعالم بكل شيء وزن أو لم يوزن، لكن المقصود من ذلك إظهار وإيقاف الإنسان على حسناته وسيئاته، والموازنة بينها، حتى يقف على ذلك وأنه لا يظلم، وأن الله تعالى يجازيه بالعدل وبالقسط: ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )[الكهف:49]، فهذا هو المقصود من الوزن: إيقاف الناس على أعمالهم والموازنة بينها.
( والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض ).
والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض، وفي لفظ مسلم: ( وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض )، تملآن أو تملأ الواحدة منهما ما بين السماء والأرض، يعني: أن الله تعالى يجعلهما على صفة أجسام وتوضع في الميزان.
( والصلاة نور ).
والصلاة نور، يعني: نور لصاحبها في الدنيا والآخرة، فهي نور وإشراق وضياء في وجهه، علامة على العبادة والطاعة، ثم أيضاً تكون نوراً له يعني: نور معنوي، بمعنى أنه يبصره فيما يعود عليه بالخير وما يعود عليه بالمضرة، ويوضح ذلك قول الله عز وجل: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )[العنكبوت:45]، فهذا من كونها نور، يعني: كونها فيها النهي عن الفحشاء والمنكر، وتنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وتكون سبباً في امتناع صاحبها عن الفحشاء والمنكر، هذا من الضياء ومن النور الذي فيها، يعني: نور معنوي، وكذلك نور يوم القيامة يستضيء به الإنسان ويضيء للإنسان، ويكون نوراً بين يدي الإنسان، فهي نور كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، هي نور في الدنيا وفي الآخرة، نور في الوجه ونور في الطريق، وكون الإنسان يعرف الحق فيعمل به، وينتهي عن الباطل بسبب الصلاة، ووجه ذلك: أن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، هذا الفرض من غير النوافل، والإنسان عندما يكون محافظاً على الصلوات، وحريصاً على النوافل، إذا حدثته نفسه بسوء يتذكر: لماذا يصلي ولمن يصلي؟ يصلي يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، فكيف تحدثه نفسه بأن يقع في المعاصي، فتذكره صلاته ومحافظته على الصلاة، وصلته الوثيقة بالله عز وجل تكون سبباً في كونه يرعوي وينزجر، ويبتعد على أن يقع في المعاصي.
يتبع