عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 29-06-2022, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 353الى صــ 364
(21)



وَهَذَا يَقْتَضِي لِكَوْنِهِ يَنْتَفِعُونَ بِهِ لَا لِتَكْرَارِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِحْرَامُ كُلَّمَا دَخَلُوا لَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَكَّةَ لِتَعَلُّقِ مَصَالِحِهِمْ بِهَا وَتَعَلُّقِ مَصَالِحِ الْبَلَدِ بِهِمْ ... .
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا لَهُ صَنْعَةٌ بِالْحِلِّ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْفُيُوجُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُمْ، وَحَدُّ التَّكْرَارِ ... قَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مِنَ الْحَطَّابَةِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ فَقَيَّدَهُ بِيَوْمٍ.
(فَصْلٌ)
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عَلَى الدَّاخِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَيَجُوزُ لَهُمُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتُهُ، فَأَنْ لَا يَجِبَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَكَّةَ أَوْ قَصَدَهَا وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، كَالْمُحَارِبِ وَذِي الْحَاجَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا أَرَادَ النُّسُكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.
(فَصْلٌ)


فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، ثُمَّ أَرَادُوا الْحَجَّ بِأَنْ يَأْذَنَ لِلصَّبِيِّ مَوْلَاهُ، وَلِلْعَبْدِ سَيِّدُهُ، أَوْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُمْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ مِنْ حَيْثُ أَنْشَئُوهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَذُكِرَ لَهُ قَوْلُ سُفْيَانَ فِي مَمْلُوكٍ جَاوَزَ الْمَوَاقِيتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مَنَعَهُ مَوَالِيهِ أَنْ يُحْرِمَ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: يُحْرِمُ مَكَانَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ سَيِّدَهُ مَنَعَهُ، قَالَ أَحْمَدُ: جَيِّدٌ حَدِيثُ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ جَازَ لَهُمْ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِحْرَامُ حِينَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَصَارُوا كَالْمَكِّيِّ، وَلِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِحْرَامَ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا دَخَلُوا غَيْرَ مُرِيدِينَ لِلنُّسُكِ، أَوْ أَرَادَهُ وَمَنَعَهُمَا السَّيِّدُ وَالْوَلِيُّ مِنَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْوَلِيُّ فِي الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَمْ يُحْرِمَا لَزِمَهُمَا دَمٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، أَوْ دَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَرَادَ الْحَجَّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ، قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ: يَخْرُجُ إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمُ، فَإِنْ خَشِيَ الْفَوَاتَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِتَرْكِهِ كَالْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُسْلِمَ وَيُحْرِمَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي تَرْكِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الذِّمِّيِّ يُسْلِمُ بِمَكَّةَ: يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنْ مَوْضِعِ أَسْلَمَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَرَكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إِذَا عَتَقَ وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ سَوَاءً، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُحْدِثًا فَإِنَّهُ هُنَاكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي حَالِ حَدَثِهِ، وَهُنَا يُغْفَرُ لَهُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ حَتَّى يُخَاطَبَ بِالْوُجُوبِ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ.
وَلِأَنَّ مَكَّةَ قَدِ اسْتَوْطَنَهَا أَقْوَامٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، أَوْ بِإِحْرَامٍ لَا يَصِحُّ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمُوا مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتَوْطَنَهَا أُفُقِيٌّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَأَرَادُوا النُّسُكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمُوا مِنْهُ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ دُخُولَ مَكَّةَ لِتِجَارَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.


وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْإِحْرَامُ بِالدُّخُولِ، أَوْ قُلْنَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا، قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فَأَمَّا الْمُسْلِمُ يَدْخُلُ مَكَّةَ لِتِجَارَةٍ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ثُمَّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمُ مِنْهُ فَإِنْ خَشِيَ الْفَوْتَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَمٌ قَوْلًا وَاحِدًا، ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَكَى فِي الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ بِمَكَّةَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقْتٌ وَأَرَادَ الْحَجَّ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَهَلَّ مِنْهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ وَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْهُ .... ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَاجِبٌ قَدْ أَمْكَنَ فِعْلُهُ فَلَزِمَهُمْ كَسَائِرِ الْوَاجِ
بَاتِ.
وَإِذَا رَجَعُوا فَأَحْرَمُوا فَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِالْوَاجِبِ وَتِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ لَيْسَتْ نُسُكًا، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكُوا نُسُكًا وَلَمْ يَفْعَلُوا نُسُكًا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا فِي الْإِحْرَامِ مَحْظُورًا فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الدَّمِ.
قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: " رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرُدُّهُمْ إِلَى الْمَوَاقِيتِ إِذَا جَاوَزُوهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخَافُونَ - مِنَ الرُّجُوعِ - فَوْتَ الْحَجِّ، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ الرُّجُوعُ لِتَعَذُّرِ الرُّفْقَةِ وَمَخَافَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ، فَيُحْرِمُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ وَعَلَيْهِمْ دَمٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمُوا مِنْ دُونِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْعَوْدَةِ فَعَلَيْهِمْ دَمٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ... وَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِعَوْدِهِمْ إِلَى الْمِيقَاتِ.
[مَسْأَلَةٌ حكم الإحرام قبل الميقات]
مَسْأَلَةٌ: (وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُحْرِمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُحْرِمٌ.


مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَلَا بِالْعُمْرَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمِيقَاتَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سُئِلَ أَيُّمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ: يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ أَمْ قَبْلُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمِيقَاتِ أَعْجَبُ إِلَيَّ.
قِيلَ لَهُ وَسُئِلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَحُجُّ مِنْ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: وَجْهُ الْعَمَلِ الْمَوَاقِيتُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي: كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَحُجُّ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: وَجْهُ الْعَمَلِ الْمَوَاقِيتُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ: إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ أَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتٍ أَعْجَبُ
إِلَيَّ، وَلَا يُحْرِمُ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، قَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يُحْرِمُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ، وَكَأَنَّهُ سَهَّلَ فِيهِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إِنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ بَأْسٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ هُوَ وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ،وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ هُوَ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُحْرِمُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَنْدُبْ أَحَدًا إِلَى الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا رَغَّبَ فِيهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِالْفَضَائِلِ أَفْضَلَ الْخَلَائِقِ وَخَيْرَ الْقُرُونِ وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ وَكَانُوا بِهِ أَوْلَى، وَبِفَضْلٍ - لَوْ كَانَ فِيهِ - أَحْرَى، وَلَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ كَمَا نَدَبَ إِلَى جَمِيعِ الْفَضَائِلِ؛ إِذْ هُوَ الْقَائِلُ: " «وَمَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبَعِّدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ» ".
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ فَتَقْتَدِي الْأُمَّةُ بِهِ وَقَدْ يَخْتَارُ غَيْرَ الْأَفْضَلِ لِلتَّعْلِيمِ.
قِيلَ: قَدْ أَحْرَمَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ مَعَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا مَرَّةً فَقَدْ كَانَ الْجَوَازُ وَالْبَيَانُ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَحْرَمَ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ كَرَّرَ الْعُمَرَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَزِيَادَةُ مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ لَوْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ.
وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَتَكَرَّرُ، فَيَفْعَلُ الْمَفْضُولَ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ كَالصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَأَمَّا مَا لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لِرَسُولِهِ أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ وَيَدَّخِرَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَفْضَلَهُمَا، وَفَاعِلُ هَذَا وَقَائِلُهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَقَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ [قِيلَ لَهُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ] فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ أَمْيَالٍ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ خُصِصْتَ بِأَمْرٍ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَوْ كَانَ الْفَضْلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ إِذْ هُوَ أَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ،وَأَرْحَمُ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ، كَمَا دَلَّهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَشَقَّةٌ كَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ.


وَكَوْنُهُ أَيْسَرَ قَدْ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِفَضْلِهِ، كَمَا أَنَّ صَوْمَ شَطْرِ الدَّهْرِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِهِ كُلِّهِ وَقِيَامَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِهِ كُلِّهِ، وَالتَّزَوُّجَ وَأَكْلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» أَمْرٌ بِالْإِهْلَالِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، وَهَذَا التَّوْقِيتُ يَقْتَضِي نَفْيَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُحَرَّمَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَفْضَلَ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَوْرَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَ
لَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -«لِيَسْتَمْتِعْ أَحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي حُرْمَتِهِ») رَوَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمِثْلِ إِسْنَادِهِ، لَكِنْ أَبُو سَوْرَةَ ضَعَّفُوهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَكَانَ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ قَبْلَهُ مُسْتَحَبًّا كَالزَّمَانِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ كَإِعْدَادِ الصَّلَاةِ وَرَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُشْرَعُ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مَكْرُوهَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]