
12-06-2022, 03:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,225
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (133)
صـ533 إلى صـ 543
فإن من الناس من يقول : إنه ينقلب بالقصد طاعة ، وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء [ ص: 533 ] الله تعالى .
فإن قيل : إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول ، فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني : فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة ، فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال : إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة ؟
فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب ، أو غناء ، بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول ، فإنه استوى مع النوم مثلا ، والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة ، وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة ، أو غناء تحت حكم اختيار المستريح .
فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه ، فلا طلب ، وإن أخذه من جهة الطلب ، فلا طلب في هذا القسم كما تبين .
ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني : لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل ; لأنه قد تضمن خدمة المطلوب الفعل فكأن [ ص: 534 ] يكون مطلوب الفعل بالكل . وقد فرضناه على خلاف ذلك ، هذا خلف ، وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه ، أو شبيها به .
فصل
ومنها بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له ؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب ، أو أصل الطلب ، فلا إشكال في دعائه - عليه الصلاة والسلام - له .
ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : وما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقيل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث .
وقال حكيم بن حزام : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني [ ص: 535 ] ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : إن هذا المال حلوة خضرة الحديث ، وقال : المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث .
وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب ، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا ، أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل ; لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به ، وهو ظاهر من هذه القاعدة .
والفوائد المبنية عليها كثيرة .
[ ص: 536 ] المسألة السادسة عشرة .
قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي ، أو التركي ، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك .
وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام ، وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم .
وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام ، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان .
أحدهما : اقتضاء الفعل .
والآخر : اقتضاء الترك .
فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة ; إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما ، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك ، وعلى المكروه أنه محرم ، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص ، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين .
[ ص: 537 ] أحدهما : من جهة الآمر ، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء ، وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي ، وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم ، أو عقاب ، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات ، وعد كل مخالفة كبيرة ، وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد ، فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي ، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي ، وما رآه يصح في الاعتبار .
والثاني : من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات .
[ ص: 538 ] أحدها : النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها ، فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب ، وبين ما هو مندوب ; لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده ; لأن الجميع يقتضي نقيض القرب ، وهو إما البعد ، وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد .
والثاني : النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ، ودرء المفاسد عند الامتثال ، وضد ذلك عند المخالفة ، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ، ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب .
وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ، ومكمل مخدوم ، وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت [ ص: 539 ] المندوبات كملت الواجبات ، وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد .
وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها ، وأنسا بها ، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل : المعاصي بريد الكفر .
[ ص: 540 ] ودل على ذلك قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ المطففين : 14 ] .
وتفسيره في الحديث .
وحديث الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات إلخ .
[ ص: 541 ] فقوله : كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وفي قسم الامتثال قوله : وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه الحديث .
والثالث : النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران من حيث كان امتثال الأوامر والنواهي شكرانا على الإطلاق ، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي ، وما دل عليه قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .
وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 32 - 34 ] وأشباه ذلك .
فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك ، أو [ ص: 542 ] كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض ، وما بينهما ، وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك ، أو كانت سببا فيها كذلك أيضا .
وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء ، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي ، فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق ، وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر ، وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه ; إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري ، وإنما أخذوا في نمط آخر ، وهو أنه لا يليق بمن يقال له : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود ، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه ، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة ; إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد ، بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد .
فصل
ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به ، أو فعل المنهي عنه ، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف [ ص: 543 ] مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر ، أو النهي ، أو من حيث ناقضت التقرب ، أو من حيث ناقضت وضع المصالح ، أو من حيث كانت كفرانا للنعمة .
ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ، ومذهبهم الأخذ بالعزائم .
وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه ، وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات ، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة ، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة .
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|