عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 04-06-2022, 03:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,555
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وللهداية النبوية إعجازها الباهر في الجوانب الأمنية الوقائية

  1. جوانب الحذر والحماية في بيعة العقبة
    - كانت بيعة العقبة ثمرة من ثمرات "الأساليب المضادة" التي استخدمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضد مكر قريش، والتي كانت في غاية من السرية والكتمان، وهذه إشارات سريعة للتدليل علي ذلك:
    -‏الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة: ‏ حيث واعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع ليلاً(سيرة ابن هشام: ج1، ص: 440). ‏
    - طالبهم بكتمان الخبر: ‏طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين، كي لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها. يقول كعب بن مالك - رضي الله عنه -: " وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا" (البداية والنهاية لابن كثير، ج 3، ص: 157). وقد ظهرت أهمية هذا الكتمان عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد عليها مشركوا الأنصار، وأقسموا على نفي حدوث البيعة، ولولا هذا الكتمان لانكشف الأمر برمته. ‏
    - الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة: ‏وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطة مأمونة ودقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفرادًا لا جماعة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائمًا، ولا ينتظروا غائبًا(الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص: 98). وقد نفذ الأنصار هذه الخطة تمامًا، يقول كعب: " فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل مستخفين تسلل القطا" (ابن الجوزي: الوفاء بأحوال المصطفي: ج2، ص: 225)، أي أفرادًا. ‏
    -التصرف السليم حيال الطوارئ: ‏حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلاً: " يا أهل الجباجب -المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه قد اجتمعوا على حربكم"، حينها أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم (سيرة ابن هشام: ج1، ص: 441). ‏ هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفًا أمنيًا، اقتضته ظروف وملابسات الحدث؛ لأن قريشًا غالبًا ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هذه المعلومة.. وحتى يُفوِّت الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم. ‏
    -الأمر بانتخاب النقباء: ‏طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصًا من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم. ‏
    - توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة: ‏تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري وأسعد بن زرارة، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، فقال العباس بن عُبادة: " إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مُصيبة، وأشرافُكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن"، فأجابوه: " فإنا نأخذه على مُصيبة الأموال وقتل الأشراف"، ‏ وقال أسعد قبيل البيعة: " رويدًا يا أهل يثرب.. وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه" (سيرة ابن هشام: ج1، ص: 440). ‏ وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، ونتائج تلك البيعة ومتطلباتها، لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحية في سبيل الله. ‏
    جوانب الحيطة والحذر في الهجرة النبوية الشريفة
    - لقد ذُكر الكثير عن الهجرة النبوية وجوانبها المتعددة، بيد أنه في عجالة يمكن الإشارة إلي بعض النقاط الهامة ذات الصلة بموضوعنا هذا.
    - بعد أن تيقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن مكة لم تعد تصلح أن تكون أرضًا تؤوي الدعوة وتحميها، بل باتت تهدد وجودها، كان لابد لدعوة الإسلام من أرض جديدة تقف عليها، وتنطلق منها حتى يتسنى لها الانتشار ومجابهة الباطل.. كان لابد لهذه الأرض من أن تتوافر فيها بعض السمات، ولعل من أبرزها: أن تكون تلك الأرض ذات قدرات اقتصادية، وتمتاز بموقع طبيعي حصين، وتتمتع بمنافذ وقنوات اتصال خارجية، وبها أنصار وحماة لدعوة الإسلام، يضحون في سبيلها بالنفس والمال.. هذه هي أبرز الصفات التي امتازت بها المدينة المنورة، وقد كان حسن الاختيار (المتعدد الجوانب) كسابقه في اختيار الحبشة لهجرة الصحابة الأولي.
    جوانب الحماية والأمن للهجرة إلى المدينة المنورة. ‏
    - تغلب المسلمون على أساليب قريش وتمكنهم من الهجرة إلى المدينة عقب الفشل الذي منيت به قيادة قريش، في عدم مقدرتها على منع توقيع البيعة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأنصار.
    - عمِلت قيادة قريش جاهدة للحيلولة دون خروج مَن بقي من المسلمين إلى المدينة، ولقد اتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
    - ‏أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده: ‏تقول أم سلمة - رضي الله عنها -: " لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة ابن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غَلَبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خِطَامَ البعير من يده فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رَهْط أبي سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحَبَسَنِي بنو المغيره عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة" (سيرة ابن هشام: ج1، ص: 469). ‏
    - أسلوب التجريد من المال: لما أراد صهيب - رضي الله عنه - الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ربح صهيب، ربح صهيب)) (سيرة ابن هشام: ج1، ص: 477)‏.
    - أسلوب الحبس: ‏لجأت قريش إلى الحبس داخل أحد البيوت داخل حائط بدون سقف "
    كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما" وضع اليد والرجلين في القيد، فرض رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن المسلم من الهجرة. ‏

    - أسلوب الاختطاف: ‏قامت قريش بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، حيث قام أبو جهل، والحارث، وهما إخوة عياش من أمه، فاختلق أبو جهل حيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليًا عندما أظهر موافقته على العودة معهم.. كما تظهر الحادثة الحس الأمني العالي الذي كان يتمتع به عمر - رضي الله عنه -، حين صدقت فراسته في أمر الاختطاف، وحين أعطى عياشًا - رضي الله عنه - ناقته النجيبة. ‏
    فشل خطة قريش لاغتيال قائد الدعوة
    اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة. كان الرأي، الثالث الذي وافق عليه الحاضرون وعلى رأسهم إبليس، ولم يعترض عليه أحد، وحظي بالإجماع.. يتلخص في أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا نسيبًا، وسيطًا في قومه، فيعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فيتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل فيرضوا بالدية، وقد حددوا مكان وزمان تنفيذ العملية(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 480-482)، وقد رافق مؤامرتهم هذه اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية منها: التكتم التام على الاجتماع، والتوقيت المناسب لتنفيذ العملية، و إحكام الخطة.
    الترتيبات الوقائية، وتدخل العناية الإلهية: ‏
    -على الرغم من كل هذه الاحتياطات الأمنية العالية، فقد وفَّق الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإفشال خطة قريش لاغتياله.. وبالطبع تدخُّل العناية الإلهية يأتي بعد الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة، وعدم التواكل الخ.
    جوانب من الحذر والحيطة في الإعداد للهجرة الشريفة
    - فيما قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة لصديقه الوفي أبا بكر - رضي الله عنه - ليصحبه معه، اختار لذلك وقت الظهيرة، وهي ساعة لم يكن قد اعتاد المجيء فيها إلى بيت أبي بكر - رضي الله عنه -، قالت عائشة - رضي الله عنها -: " بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها" (البخاري: 1، ص: 553). ‏
    - إخفاء الشخصية أثناء تنفيذ المهمة: جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - متلثمًا لبيت أبي بكر -رضي الله عنه- (دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص: 473)،. ‏
    - التأكد والتثبت قبل النطق بالمعلومة: ‏حينما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت أبي بكر - رضي الله عنه -، وقبل أن يخبره خبره، طلب منه أن يخرج مَن معه من البيت، فقال: ((أَخْرِجْ عني من عندك)) (145)، وهذا احتياط أمني ضروري، لخطورة الأمر، فأي تسرب لهذه المعلومة، ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائدها، ذلك لأن أمر الهجرة ما يزال في طوره الأول،‏ كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعط سيدنا أبا بكر المعلومة كاملة أمام أسرته، فأخبره بالهجرة فقط، دون أن يذكر له مكانها ووجهتها بدليل أن أسماء - رضي الله عنها - عندما سمعت الصوت القائل: ‏
    جزي الله رب الناس خير جزائه *** رفيقين حلا خيمتي أم معبد
    قالت أسماء: " فلما سمعنا قوله، عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة المنورة" ‏ فالأعداء غالبًا ما يلجأون إلى أسر الدعاة للحصول على المعلومة منهم.. ترغيباً أو ترهيباً، وهذا ما حدث من قريش، قالت أسماء - رضي الله عنها -: " أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فقالوا: أين أبوك؟ فقل: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قُرْطي" (الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص: 104-106). ‏
    - التمويه في مبيت علي - رضي الله عنه - في فراشه - صلى الله عليه وسلم -: ‏قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: ((نم في فراشي، وتسج ببردي هذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم))، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده ذلك إذا نام(148). ‏
    - اختيار الدليل: ‏من مستلزمات الإعداد للهجرة، الخبرة الكافية بالطريق لذا استأجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلاً ماهرًا عالمًا بآمن وأقصر الطرق بين مكة والمدينة المنورة، وهو عبد الله بن أريقط، وكان على دين قريش(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 485). إن العبرة هنا في التعامل مع المشركين، وتسخيرهم لخدمة الدعوة بمقدار ما أمن جانبهم. إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار عبد الله بن أُريقط دليلاً لأخطر هجرة في تأريخ الدعوة، لأنه مشرك، ولكن تقدير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشخصه بأنه أمين وصادق، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة الخطيرة، هذا ما حدث فعلاً، فلم يخبر قريشًا بالأمر، على الرغم من الإغراء المادي الضخم، الذي قدمته قريش لمن يدل على محمد - صلى الله عليه وسلم -.. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصِدْقِ فِرَاسة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
    - كتم خبر هجرته الشريفة: ‏لقد كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحاق: " ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلا عليّ وأبو بكر وآل أبي بكر" (السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 482). وهذه القلة كانت لها أدوار معينة تقوم بها، ولولا ذلك لما أخبرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمرها.
    جوانب الحيطة والأمن فيما قام به أبو بكر رضي الله عنه
    - تهيئة وإعداد الوسيلة المناسبة للهجرة.
    - تموين الهجرة: ‏تلك مهمة اضطلع بها أبو بكر وأهل بيته - رضي الله عنهم -.. قالت عائشة - رضي الله عنها -: " فجهزناهما أحث(أسرع) الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر من نِطَاقِها فأوكأت به الجراب" (السيرة النبوية لابن حبان، ص: 128)، وكانت أسماء تأتيهما من الطعام، إذا أمست، بما يصلحهما. ‏
    - تسخير الأسرة لأمر الهجرة: وقع اختيار أبي بكر - رضي الله عنه -، على أفراد أسرته، للقيام بهذه الأدوار المتنوعة، من إعداد الطعام، وإخفاء الأثر، ونقل أخبار العدو أولاً بأول، فباتت أسرة أبي بكر كلها تعمل من أجل إنجاح الخطة المرسومة للهجرة، فقام كل فرد فيها بأداء الدور المنوط به خير قيام. ‏
    من الدار حتى دخول الغار
    كانت بداية الهجرة من بيت أبي بكر رضي الله عنه(158)، ومن ثم التوجه إلى الغار، ومنذ البداية يظهر لمن يتتبع وقائع الهجرة الاحتياط الأمني والتخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن، مما يجعل هذه المرحلة من الهجرة تنطوي على عدة جوانب أمنية، من بينها: ‏
    1- التوقيت المناسب للخروج: ‏غادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 483)،
    وكون هذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشًا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام عليّ - رضي الله عنه - عن فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما حدث فعلاً.
    2- الخروج إلى الغار سيرًا على الأقدام: ‏وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفه لتستوضح أمره، بعكس السير على الأقدام فلا يحدث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة. ‏
    3- التمويه في الخروج إلى الغار: ‏يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري: (ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور) (الرحيق المختوم، لصفي الرحمن، ص: 194).
    الاحتياطات الأمنية أثناء الإقامة بالغار
    -تدخل العناية الإلهية: ‏على الرغم من كل الجهد البشري في التمويه والاختفاء والسرية، استطاعت قيادة قريش أن تصل إلى مكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى قال سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه -: " يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا" (البخاري، باب هجرته -صلى الله عليه وسلم-). ‏ وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار(الأمام احمد، وقال ابن كثير: وهذا إسناد حسن). ‏ فحين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله - تعالى- يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء. ‏
    - التجسس ورصد تحركات قيادة قريش: أمر سيدنا "أبو بكر" - رضي الله عنه - ابنه "عبد الله" أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام: " .. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرًا يُكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام" (السيرة النبوية لابن حبان: ص: 130). ‏
    -إعفاء الأثر: ‏لابد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشًا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هي الأخرى تأتي يوميًا إلى الغار لتحضير الطعام، وحتى يستبعد هذا الاحتمال كان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر(البداية والنهاية لابن كثير، ج3، ص: 182)، ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تُعد أنسب وسيلة، لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يُثير شكًا ولا ريبة. ‏
    - الإمداد بالتموين في الغار: ‏إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز؛ لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد الطعام تعتبر قرينة قوية، ربما قادت قريش إلى الغار، فالنار ينبعث منها الدخان نهارًا، والضوء ليلاً، وهذا يشكل خطورة كبيرة، وبخاصة في ذلك الزمان الذي يمتاز فيه العرب بدقة الملاحظة، لذا نجد أن طعامهما كان يأتيهما معدًا جاهزًا من بيت أبي بكر الصديق، تحضره أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -.. يقول ابن إسحاق: " وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما".. كما أن عامر بن فُهَيْرَة كان يحلب لهما اللبن من غنم أبي بكر - رضي الله عنه -.. تقول عائشة - رضي الله عنها -: ".. ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَةً من غنمٍ، فَيُريحُها عليهما، حين تَذْهَبُ ساعة من العِشَاءِ، فيبيتَانِ في رِسْلٍ وهو لبنُ مِنْحَتِهِما وَرَضِيفِهِما" (البخاري باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-). ‏
    - الإقامة في الغار ثلاثة أيام: ‏قال ابن الأثير: (فأقاما في الغار ثلاثًا)، وهذا تصرف أمني اقتضته ظروف الزمان، فهذه المدة الزمنية ربما كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر، التي تشير إلى خفة الطلب عليهما بعد هذه الأيام الثلاثة، كما أن الاستمرار أكثر من ذلك قد يلفت النظر من قِبَل قيادة قريش، حين يتكرر المرور عليهما والذهاب إليهما، من قِبَل أسماء وعبد الله وعامر بن فهيرة، أضف إلى ذلك أن هذه المدة تعد كافية لتدرك قريش أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد أفلت منهم، وأنها كافية لابتعاده عنهم مسافة تمكنه من الوصول إلى مأمن، أو الالتحاق بقبيلة أخرى، فيدب اليأس في نفوسهم، ويتراخون عن مطاردته، وبالتالي تسنح الفرصة للإفلات منهم.
    - فشل محاولة قريش لمنع الهجرة: ‏لقد بذلت قيادة قريش عدة محاولات لإفشال الهجرة منها: استخدامها لأسلوب التعذيب من أجل الحصول على المعلومة، كان ذلك مع عليٍّ - رضي الله عنه -، والسيدة أسماء - رضي الله عنها -، قامت قريش بتعذيبهما، فأنكرا علمهما بجهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما أنها قامت باقتفاء أثر ركب الهجرة، حتى وصلت إلى الغار. كما لجأت إلى أسلوب الإغراء المادي، فجعلت دية الحصول على ركب الهجرة مائة من الإبل، ولكن رغم هذه الجهود المبذولة، أخفقت قريش في منع الهجرة. ‏
    وفي هذا دروس وعبر.. ‏
    من الغار إلى المدينة المنورة
    بعد أن خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه للخروج إلى المدينة المنورة. ولقد صاحب هذا التحرك العديد من جوانب الحيطة والحذر، منها. ‏
    - الحذر أثناء السير على طريق الهجرة: كان التمويه في التحرك من الغار حيث أن أول ما سلك بهم عبد الله بن أريقط، بعد الخروج من الغار، أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا(183)، وما ذلك إلا إمعانًا في التمويه، ومزيدًا من الحيطة والحذر. ‏
    - السرعة في السير عقب الخروج من الغار: ‏عيون قريش منتشرة، والمطاردة لم تنته بعد، لذا أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب خروجه من الغار، واستحث رواحلهم لقطع أكبر مسافة ممكنة في أقل زمن ممكن.
    - حادثة "سراقة" وتدخل العناية الإلهية: ‏بعد كل التحوطات والتخطيط الدقيق المحكم، تمكنت قريش من تلقي معلومة تفيد أن ركب الهجرة يجد في السير تجاه المدينة بطريق الساحل المهجور. وهنا تبرز عدة جوانب، منها: الحس الأمني لسراقة، وقدرته البارعة في اقتفاء الأثر وشخص بهذه المواصفات، كان يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على ركب الهجرة المبارك، خاصة وأنه حاول استغلال تلك الصفات حتى كان قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بركب النبوة، ولكن تدخلت العناية الإلهية، فحالت بينه وبين النيل من الركب المأمون. ‏ كما تظهر أيضًا مدى حنكة وحكمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في استغلال عدوه كي يصبح عونًا له في صد الطلب عنهما، وذلك من قوله لسراقة: ((أَخْفِ عَنَّا))، فرجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما هاهنا.. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما(زاد الميعاد لابن القيم، ج2، ص: 53). ‏
    الحس الأمني لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-
    - لما كان سيدنا أبو بكر معروفًا لدى معظم سكان الطريق، لاختلافه إلى الشام بالتجارة، ركب خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يمر بالقوم فيقولون: " من هذا الذي بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق" (البخاري: ج1، ص: 556).. وفي ذلك تورية من أبي بكر - رضي الله عنه -، فطالما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الهدف لقريش، ورصدت لمن يعثر عليه مائة ناقة، وهي ثروة طائلة تجعل كل من يسمع بهذه الجائزة يجتهد في البحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بغية الحصول على تلك الثروة.. وتقديرًا للموقف لم يكشف أبو بكر - رضي الله عنه - عن شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل اكتفى بالتورية، دون أن يكذب. ‏
    ويظهر الحس الأمني لسيدنا أبي بكر، في موضع آخر، حين قال: " فضربت بصري هل أرى ظلاً نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة، فأهويت إليها، فنظرت فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفرشت له فروةً، وقلت: اضطجع يا رسول الله! فاضطجع، ثم خرجتُ أنظر هل أرى أحدًا من الطلب، فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش، فسمَّاه فعرفتُه، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة منها، ثم أمرته فنفض ضَرْعَها من الغبار، ثم أمرتُه فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خِرقة، فحلب لي كُثْبَةً أي قليلاً من اللبن، فصببت على القَدَح حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هل آن الرحيل؟ فارتحلنا" (191). ‏
    هذا النص يؤكد حرص واهتمام أبي بكر بعدة جوانب لتحقيق الحماية والأمن، من أبرزها استكشاف مكان الاستراحة، حيث ذهب إلى الصخرة، وتيقن من خلوها، فنظفها وفرش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفروة ليستريح عليها، فهذا تصرف في غاية الحكمة، فالظل في الصحراء مطلب كل سائر على الطريق، ليحتمي به من حر الشمس الحارقة، كما أن الصخرة ربما يكون مختبأ وراءها أحد أفراد قريش ممن يطلبون ركب الهجرة، أو أحد عابري السبيل، الأمر الذي قد يعرّض الركب النبوي للخطر، وحتى ينتفي هذا الاحتمال، ذهب أبو بكر، وتأكد من خلو الصخرة من البشر. ‏
    جوانب الحذر والحيطة في اختيار طريق الهجرة وعدد أفراد الركب ودخول المدينة
    - طريق الهجرة كان أقصر الطرق الموصلة إلى المدينة، ولم يكن من الطرق المألوفة، ولا يخفى ما في ذلك من أبعاد للحماية.
    - عدد أفراد الركب: ‏من المعلوم أن قريشًا كانت تريد إلقاء القبض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وعلى هذا فهي تحاول التركيز على أي ركب يتألف من شخصين، وتعده هدفًا لها، ولكن حنكة وحكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، جعلت من أفراد الركب أربعة أشخاص، حيث انضم إليهما الدليل عبد الله بن أُريقط، وعامر بن فُهيرة. وهذا العدد يبعد الشبهة إلى حد كبير عن الركب، لأنه يتكون من أربعة، بينما التركيز في الغالب على الركب الذي يتكون من اثنين. ‏
    - دخول الركب المدينة المنورة حين دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة، مر تقريبًا بجميع بطون قبيلتي الأوس والخزرج، فقد مر ببني عمرو بن عوف، وبني سالم، وبني بياضة، وبني ساعدة، وبني الحارث، وبني عدي بن النجار، وكان يرد عليهم حين يطلبون منه النزول بقوله: (( دعوها فإنها مأمورة)) (تاريخ ابن خلدون، ج2، ص: 16). ‏ فمرور الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببطون الأوس والخزرج، يكشف عن بُعد أمني هام في الحفاظ على تماسك ووحدة الجبهة الداخلية للمدينة المنورة، فأشهر سكان المدينة كانوا من الأوس والخزرج، وكانت الحروب تقوم بينهما لأسباب واهية، وكان لليهود الدور الأكبر في إيقادها. فلو مر الرسول - صلى الله عليه وسلم - / أو نزل علي قبيلة دون أخرى، ربما استغل ذلك اليهود، وأشاعوا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفضل هذه القبيلة على تلك، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية بين القبيلتين. كما جعل أمر النزول إلهيًا، وليس اختيارًا، فيرضى الجميع به، ويوقنون أنه أمر إلهي يجب التسليم به، فلا يحدث نزوله ساعتها حساسية في نفوس الذين لم ينزل عليهم.
    خلاصة القول: إنها بعض الملامح الأمنية الوقائية، ووسائل تأمين الحماية للدعوة في مسيرة الرسول القدوة - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته الأبرار (من بداية الدعوة وحتى الهجرة النبوية الشريفة) لتكون محلاً التأسي والاقتداء، فما أحوجنا لمثل تلك الجوانب بعد أن أصبح للأمن أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات، كما أصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات وبخاصة الأمنية، تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر، فعلى المسلمين الاهتمام بتلك الجوانب، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم. ولابد أن يكون كلامنا موزونًا، فرب كلمة يقولها عابر سبيل في مقهى، أو سيارة أو نادي يتلقفها جاسوس، أو عميل تؤدي إلى نكبة قاصمة للظهر، وخسائر فادحة. فينبغي التوعية بتلك الأمور الهامة عبر وسائل الإعلام المسموعة، والمقروءة، والمشاهدة، وعبر المؤسسات التعليمية على مختلف مراحلها. ‏ وتبقى العناية الإلهية هي الملاذ الأخير حيث لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وآخر دعوانا أن ال حمد لله رب العالمين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]