
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (299)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 180 إلى صـ 186
ومن شبهه بالمال في الصفة : كونه تتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة [ ص: 180 ] ورداءة كسائر الأموال . فلو قتل إنسان عبدا لآخر لزمته قيمته نظرا إلى أن شبهه بالمال أغلب . وقال بعض أهل العلم : تلزمه ديته كالحر زعما منه أن شبهه بالحر أغلب ، فإن قيل : بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه ؛ لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي ، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي ؟ فالجواب أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى . . إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية ؛ لأن كونه كالمال ليس صالحا لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل ، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطبا يثاب ويعاقب إلخ . فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة ؛ لأن كونه كالحر ليس صالحا لأن يناط به لزوم القيمة ، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى ، أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى ، وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب ، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي .
ومن أمثلة أنواع الشبه غير غلبة الأشباه : الشبه الذي الوصف الجامع فيه لا يناسب لذاته ، ولكنه يستلزم المناسب لذاته ، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب ، كقولك في الخل : مائع لا تبنى القنطرة على جنسه ، فلا يرفع به الحدث ولا حكم الخبث - قياسا على الدهن . فقولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس مناسبا في ذاته ؛ لأن بناء القنطرة على المائع في حد ذاته وصف طردي إلا أنه مستلزم للمناسب ، لأن العادة المطردة أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل ، بل على الكثير كالأنهار ، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة ، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود ، أما تكليف الجميع بما لا يجده إلا البعض فبعيد من القواعد ، فصار قولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس بمناسب ، وهو مستلزم للمناسب . وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة ، والتعذر في عدم مشروعية الطهارة ، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر بالطهارة به وينتقل إلى التيمم .
وأما الشبه الصوري فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 16 \ 66 ] وقد قدمنا في أول سورة " براءة " كلام ابن العربي الذي قال فيه : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس النسبة عند عدم النص ، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ، فإذا كان القياس [ ص: 181 ] يدخل في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام ؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :
والشبه المستلزم المناسبا مثل الوضو يستلزم التقربا
مع اعتبار جنسه القريب في مثله للحكم لا الغريب
صلاحه لم يدر دون الشرع ولم ينط مناسب بالسمع
وحيثما أمكن قيس العلة فتركه بالاتفاق أثبت
إلا ففي قبوله تردد غلبة الأشباه هو الأجود
في الحكم والصفة ثم الحكم فصفة فقط لدى ذي العلم
وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير
واعلم أن قياس الطرد يصدق بأمرين ؛ لأن الطرد يطلق إطلاقين : يطلق على الوصف الطردي الذي لا يصلح لإناطة حكم به لخلوه من الفائدة . كما لو ظن بعض القائلين بنقض الوضوء بلحم الجزور أن علة النقض به الحرارة ، فألحق به لحم الظبي قائلا : إنه ينقض الوضوء قياسا على لحم الجزور بجامع الحرارة ، فهذا القياس باطل ; لأن الوصف الجامع فيه طردي . ومثله كل ما كان الوصف الجامع فيه طرديا وهو أحد الأمرين للذين يطلق عليهما قياس الطرد .
والأمر الثاني : منهما هو القياس الذي الوصف الجامع فيه مستنبطا بالمسلك الثامن المعروف ( بالطرد ) وهو الدوري الوجودي ، وإيضاحه أنه مقارنة الحكم للوصف في جميع صوره غير الصورة التي فيها النزاع في الوجود فقط دون العدم . والاختلاف في إفادته العلة معروف في الأصول .
واعلم أن القياس وما يتعلق به موضح في فن أصول الفقه ، والأدلة التي تدل على أن الوصف المعين علة للحكم المعين هي المعروفة بمسالك العلة ، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق ، وتسعة عند من لا يعده منها ، وهي : النص ، والإجماع ، والإيماء ، والسبر ، والتقسيم ، والمناسبة ، والشبه ، والدوران ، والطرد ، وتنقيح المناط ، وإلغاء الفارق . والتحقيق أنه نوع من تنقيح المناط كما قدمنا .
وقد نظمها بعضهم بقوله :
مسالك علة رتب فنص فإجماع فإيماء فسبر
مناسبة كذا مشبه فيتلو له الدوران طرد يستمر
فتنقيح المناط فألغ فرقا وتلك لمن أراد الحصر عشر
[ ص: 182 ] ومحل إيضاحها فن أصول الفقه ، وقد أوضحناها في غير هذا المحل .
وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره فهي معروفة في فن الأصول ، وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله :
القدح بالنقض وبالكسر معا تخلف العكس وبالقلب اسمعا
وعدم التأثير بالوصف وفي أصل وفرع ثم حكم فاقتفي
والمنع والفرق وبالتقسيم وباختلاف الضابط المعلوم
وفقد الانضباط والظهور والخدش في تناسب المذكور
وكون ذاك الحكم لا يفضي إلى مقصود ذي الشرع العزيز فاقبلا
والخدش في الوضع والاعتبار والقول بالموجب ذو اعتبار
وابدأ باستفسار في الإجمال أو الغرابة بلا إشكال
وإنما لم نوضح هنا المسالك والقوادح ؛ لأن ذلك يفضي إلى الإطالة المملة ، مع أن الجميع موضح في أصول الفقه ، وقد أوضحناه في غير هذا الموضع ، وقصدنا هنا التنبيه عليه في الجملة من غير تفصيل . فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلامة ابن القيم تعالى شفى الغليل بما لا مزيد عليه في هذه المسائل في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية مفيدة من كلامه في هذا الموضوع الذي نحن بصدده . قال في كلامه على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالته المشهورة إلى أبي موسى : ( ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ، ولا سنة ، قايس بين الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله ، وأشبهها بالحق ) ما نصه :
هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة ، قالوا : هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة ، بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ، ولا يستغني عنه فقيه . وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه ، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان ، وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها ، وقاس حياة الأموات على حياة الأرض بعد موتها بالنبات ، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السماوات والأرض ، وجعله من قياس الأولى ، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى ، وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم ، وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة ، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها [ ص: 183 ] عباده على أن حكم الشيء حكم مثله ، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به . وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره ، والتسوية بينهما في الحكم ، وقال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] بالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل ، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما ، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما ، قالوا : ومدار الاستدلال جمعية على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فإنه إما استدلال بمعين على معين ، أو بمعين على عام ، أو بعام على معين ، أو بعام على عام ، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال . فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه بكل ملزوم دليل على لازمه ، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له . وهذا النوع ثلاثة أقسام : أحدها : الاستدلال بالمؤثر على الأثر ، والثاني : الاستدلال بالأثر على المؤثر . والثالث : الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر . فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق . والثاني : كالاستدلال بالحريق على النار . والثالث : كالاستدلال بالحريق على الدخان . ومدار ذلك كله على التلازم ، والتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر ، وقياس الفرق هو استدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر ، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه ، فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال ، وغلقت أبوابه .
قالوا : وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين ، إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد . ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره ، على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم ، واتصف بصفتهم ، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال ، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم ، كما قال تعالى عقب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم : أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر [ 54 \ 43 ] فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة ، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة . ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة قوم هود حين رأوا العارض في السماء : هذا عارض ممطرنا [ 46 \ 24 ] فقال تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم [ ص: 184 ] تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين [ 46 \ 24 ] ثم قال : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 46 \ 26 ] فتأمل قوله : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم ، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسولنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين ، وأن هذا محض عدل الله بين عباده . ومن ذلك قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله . وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالمسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب ، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار ، أو كان اللفظ يعمهما ، وهو الصواب ؛ فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ؛ ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار ، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم ، فقال تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [ 68 \ 35 - 36 ] وأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول ، لا تليق نسبته إلى سبحانه . وقال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] وقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] أفلا تراه كيف ذكر العقول ، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره ، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم . وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، وجعله قرينه ووزيره ، فقال تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان [ 42 \ 17 ] وقال : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] وقال تعالى : الرحمن علم القرآن [ 55 \ 1 - 2 ] فهذا الكتاب ، ثم قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] والميزان يراد به العدل ، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده . والقياس الصحيح هو الميزان ، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به ؛ فإنه [ ص: 185 ] يدل على العدل ، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان ، بخلاف اسم القياس ، فإنه ينقسم إلى حق وباطل ، وممدوح ومذموم ؛ ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ، ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد ، فالصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية ، وقاس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح - هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله - ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس ، وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم استعماله ، والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة : قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقد وردت كلها في القرآن . فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع ، منها قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ 3 \ 59 ] فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين ، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات ، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه ، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم ، فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به .
ومنها قوله تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين [ 3 \ 137 ] أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم ، فانظروا إلى عواقبهم السيئة ، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله ، وهم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة : التكذيب ، والحكم : الهلاك .
ومنها قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ 6 \ 6 ] فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون ، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم ، فهم الأصل ونحن الفرع ، والذنوب العلة الجامعة ، والحكم : الهلاك . فهذا محض قياس العلة ، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى ، [ ص: 186 ] وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم . ومنه قوله تعالى : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون [ 9 ] وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به ، فقيل : هو رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم كالذين من قبلكم . وقيل : نصب بفعل محذوف تقديره : فعلتم كفعل الذين من قبلكم . والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل ، وقيل : التشبيه في العذاب . ثم قيل : العامل محذوف ، أي : لعنهم وعذبهم كما لعن [ الذين ] من قبلهم . وقيل بل العامل ما تقدم ، أي : وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ، ولعنهم كلعنهم ، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم .
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد ، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال ، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر ، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر ، وألغى الوصف الفارق ، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء ، فقال : فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع ، وقوله : أولئك حبطت أعمالهم هو الحكم ، والذين من قبلهم الأصل ، والمخاطبون الفرع .
قال عبد الرزاق في تفسيره : أنا معمر عن الحسن في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ، ويروى عن أبي هريرة .
