ثالثا: المعقول:
1- لأنه لم يأتِ نصٌّ في منع المرأة أن تلي بعض الأمور[85].
أجيب عنه من وجهين:
أحدهما:ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يولِّ امرأةً قضاء ولا ولاية بلد، وكذلك الخلفاء من بعده، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا[86]، فكان ذلك إجماعا[87].
الآخر:أنه قول شاذ لا اعتبار به، يرده الإجماع على عدم تولي المرأة القضاء[88].
2- لأن الأصل أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى[89]، والمرأة كالرجل صالحة في الأصل لتولي الأحكام والفصل بين الناس، وهذا حكم عام لا يخصصه إلا نص، والنص لم يستثنِ إلا الإمامة الكبرى فيجب بقاء الأصل على حاله، وهو الجواز[90].
أجيب بما أجيب به التعليل السابق.
♦ الترجيح: أرى أن الراجح في تولي المرأة منصب القضاء هو القول الأول القاضي بعدم الجواز، وذلك لأربعة أمور:
أحدها: قوة أدلتهم، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، وقد حكى البعض الإجماع على القول الأول.
الثاني: أن القول بعدم الجواز يلائم المقاصد العامة للشريعة الإسلامية لا سيما أن المرأة تتعرض لتغيرات نفسية كثيرة تؤثر سلبا على الحكم، والقاضي ممنوع من الحكم عند تأثره بما يخشى على العدالة منه كالغضب، والجوع، والنعاس، والحقن[91].
الثالث: حفاظا على أنوثة المرأة، ودورها الأساسي في الحياة كأم، ومربية للأجيال[92]؛ لأن القضاء من المجالات الدقيقة التي تحتاج إلى فكر عميق، ودراسة واعية، ووقت طويل، ولا يصلح المجتمع إلا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والمرأة بمقتضى تكوينها مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خُلقت من أجلها، وهي الأمومة وتربية النسل، جعلتها ذات تأثير خاص بدواعي العاطفة، وهي مع هذا تُعرض لها عوارض طبيعية متكررة تضعف قوتها المعنوية، وتوهن عزيمتها في تكوين الرأي والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله، وهذا ما لا تنكره المرأة من نفسها، وقد بنَت الشريعة الإسلامية على هذا الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة التفريقَ بينهما في كثير من الأحكام[93].
الرابع: لقاعدة سد الذرائع؛ فإن القول بجواز توليها القضاء يفضي إلى أربعة محاذير:
1- الاختلاط بالرجال سواء كانوا خصوما، أو شهداء، أو غيرهم، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا»[94]، والقضاء يحتم على القائم به الاختلاط بالناس على اختلاف طبقاتهم، وهيئاتهم، والمرأة لا ينبغي لها ذلك.
2- الخلوة بالرجال سواء كانوا خصوما، أو شهداء، أو غيرهم، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»[95]، والقاضي يحتاج للخلوة بالخصوم، والشهداء، والنساءُ لا ينبغي لهن ذلك.
3- رفع صوتها بالحكم، أو لزجر أحد الخصوم، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ»[96]، والقاضي يحتاج لمخاطبة الناس، وربما يرفع صوته، والنساء لا ينبغي لهن رفع أصواتهن.
4- النظر المحرم إلى الرجال، ونظر الرجال إليها، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، والقاضي يكون بارزا للناس، ناظرا إليهم، وهذه الحال تنافي ما أُمِرن به من غض أبصارهن.
[1] يُنْظَر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة «قضى».
[2] يُنْظَر: الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، مادة «قضى».
[3] يُنْظَر: الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة «قضى».
[4] يُنْظَر: الأزهري، تهذيب اللغة، مادة «قضى».
[5] يُنْظَر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة «قضى».
[6] يُنْظَر: الأزهري، تهذيب اللغة، مادة «قضى».
[7] يُنْظَر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة «قضى».
[8] يُنْظَر: العيني، البناية شرح الهداية، (9/ 3)، وابن الشِّحْنَة، لسان الحكام في معرفة الأحكام، طبعة: البابي الحلبي- القاهرة، ط2، 1393هـ، 1973م، صـ (218)، والحصفكي، الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار، صـ (58).
[9]يُنظَر:الحطاب الرعيني، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، (6/ 86)، والعدوي، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، (2/ 338).
[10]يُنظَر:الشربيني، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، (2/ 612)، ومغني المحتاج إلى معرفة= =معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 257)، والشرواني، حاشية الشروانيعلى تحفة المحتاج في شرح المنهاج، طبعة: المكتبة التجارية الكبرى- مصر، بدون طبعة، 1357هـ، 1983م، (10/ 101).
[11]يُنظَر: إبراهيم ابن مفلح، المبدع في شرح المقنع، (8/ 139)، والحجاوي، الإقناع لطالب الانتفاع، (4/ 389)،والبهوتي، كشاف القناع عن الإقناع، (15/ 7).
[12] يُنْظَر: ابن العربي، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، (2/ 869)، والمسالِك في شرح موطأ مالك، (6/ 210).
[13] يُنْظَر: الطبري، تفسير الطبري «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، (8/ 435)، وابن كثير، تفسير ابن كثير «تفسير القرآن العظيم» (20/ 77).
[14] يُنْظَر: الطبري، تفسير الطبري «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، (8/ 435)، وابن كثير، تفسير ابن كثير «تفسير القرآن العظيم» (3/ 128).
[15] يُنْظَر: الطبري، تفسير الطبري «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، (8/ 501)، وابن كثير، تفسير ابن كثير «تفسير القرآن العظيم» (3/ 117).
[16] متفق عليه: أخرجه البخاري (7352)، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم (1716)، كتاب الأقضية.
[17] يُنْظَر: الخطابي، معالم السنن، (4/ 160).
[18] يُنْظَر: النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (12/ 13-14).
[19] صحيح: أخرجه أبو داود (3582)، باب كيف القضاء، والترمذي (1331)، وحسنه، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، والنسائي في الكبرى (8365)، باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي «إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك»، وابن ماجه = = (2310)، باب ذكر القضاة، وأحمد (1281)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2500).
[20] يُنْظَر: الخطابي، معالم السنن، (4/ 162).
[21] صحيح: أخرجه أبو داود (3573)، باب في القاضي يخطئ، والترمذي (1322)، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، والنسائي في الكبرى (5891)، باب ذكر ما أعد الله تعالى للحاكم الجاهل، وابن ماجه (2315)، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2614).
[22] ينظر: ابن العربي، المسالك في شرح موطأ مالك، (6/ 224)، وعارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، (6/ 54).
[23] متفق عليه: أَخْرَجه البخاري (4585)، بَابُ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]، ومسلم (2357)، كتاب الفضائل.
[24]يُنْظَر: العمراني، البيان في مذهب الإمام الشافعي، (13/ 8)، وابن قدامة المقدسي، المغني، (14/ 5)،وابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 252)، وزكريا الأنصاري، أسنى المطالب في شرح روض الطالب، (4/ 277)، والبهوتي، كشاف القناع عن الإقناع، (15/ 8).
[25]يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (16/ 7)، والعمراني، البيان في مذهب الإمام الشافعي، (13/ 9)، والكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (7/ 2)، وابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (10/ 102).
[26]يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (16/ 7).
[27] السابق، (16/ 7).
[28]يُنْظَر:ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (2/ 630)،وابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 298).
[29]يُنْظَر: ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (2/ 630)، وابن جُزَي، القوانين الفقهية، صـ (363)، الحطاب الرعيني، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، (6/ 87)، والدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 129).
[30] يُنْظَر: الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، (3/ 378)، والماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (16/ 156)، والعمراني، البيان في مذهب الإمام الشافعي، (13/ 20)،والنووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، (11/ 95)،والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 262).
[31] يُنْظَر: ابن قدامة، المغني، (14/ 12)، وابن مفلح، كتاب الفروع، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، طبعة: مؤسسة الرسالة- بيروت، ط1، 1424هـ، 2003م، (11/ 102)، والبهوتي، كشاف القناع عن الإقناع، (15/ 30).
[32] يُنْظَر: ابن قدامة، المغني، (14/ 13).
[33] يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (16/ 156)،والأحكام السلطانية، صـ (110)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (5/ 168).
[34]صحيح:أخْرجَهُ البخاري (4425)،باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلمإلى كسرى وقيصر.
[35]صحيح: أَخْرَجَه أحمد (20402)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، (8/ 109).