عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 17-02-2022, 04:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,555
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استثمار الأسلوب العدولي

استثمار الأسلوب العدولي (10/ 11)





د. عيد محمد شبايك





حادي عشر: العناية بالمناسبة ورعاية الفاصلة:
لا شكَّ أنَّ للنسق الموسيقي أثرًا لا يخفى، وعناية العرب به لا تقلُّ بحال عن عنايتهم بالمعاني التي يريدون إقرارَها وتثبيتها في النفوس؛ لذلك شغفوا بموسيقا اللفظ، وازدانتْ بها لغتهم؛ إذ كانوا مفتونين بالوزن، شديدي العناية بالتنغيم في كلامهم عن طريق التناسب بين المقاطِع، والمزاوجة بين العبارات.

قال الثعالبي (ت429هـ): "كانت العرب تُزاوِج بين كلمات تتجانس مبانيها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القِلَّة ذِلَّة، والوَحْدة وَحْشة، واللَّحْظة لَفْظة، والهوى هوان... والرَّمَد كمَد".[1]

يقول ابن منظور معلِّقًا على قول ابن مُقبل: "هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ" فإنما قال: أبوبة، للازدواج لمكان أَخْبية.[2]

وقد يُخرجون الكلمة عن أوضاعها، فيغيرون بِنيتَها من أجل التوافق النغمي، أو يحذفون منها، أو يزيدون فيها لحُسْن التعادل، وتكافؤ المقاطع.

فيقولون: "آتيك بالغدايا والعشايا"، و"هنأني الطعام ومرأني"، مع أنَّ فيه ارتكابًا لِمَا يخالف اللغة".[3]

والغداة لا تجمع على الغدايا، ولكنَّهم كسروه على ذلك؛ ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، فإذا أفْردوه لم يكسروه؛ لأنَّ "الغدايا" إذا أفردت، قيل: الغدوات، و"مرأني" إذا أفردت قيل: أمرأني.[4]

إذًا، فلا عجب أن يراعيَ القرآنُ ذلك الجانبَ المؤثِّر؛ لأنه نزل بلغة العرب، وجرى على مطابقة سُنَنهم في ذلك كله - أعني: الترخصات اللغوية، كالحذف أو الزيادة، أو تغيير بِنية الكلمة، أو غير ذلك مِن أنماط العدول - ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظهر وأشهر.

ولكن الذي يجب التنبيهُ إليه بدايةً، ما جاءت الفاصلة إلا لمعنى جِيء مختومًا به ختامًا حَسُنَ شكلُه ومبناه، كما حسن مضمونُه ومحتواه، وفواصل القرآن كلُّها بلاغة وحِكمة؛ لأنها الطريقُ إلى إفهام المعاني[5]، ولأنها تتضمَّن وظائف معنوية، وتتغيَّا أن يكون لها وقعٌ في الآذان، لكي تنفذَ الآيات منها إلى القلوب؛ إذ الهدفُ ليس هو إمتاعَ الآذان، بل استرعاءَها للسماع والإصغاء.

وهذا ما يتغيَّاه الاتِّجاه العام في النقد الحديث من عدم الفصْل بين ما يُسمَّى بـ "الشكل والمضمون"؛ لصعوبة ذلك الفصل، وعدم إقناعه، وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنه يتأكَّد في النص القرآني، حيث يبدو "الدال والمدلول" في وَحْدة عضوية وثيقة، ومِن ثَمَّ كان "إنتاج الدلالة" فيه أمرًا مميزًا.

والآن نفصِّل ما أجملناه مِن صور العدول، التي ارتبطتْ بهذه السنن في لغة العرب، والتي جاء بها القرآن:
أ - في تغيير بنية الكلمة:
ومن شواهد ذلك في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [الشمس: 11]، وقوله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8].

يقول الفراء في آية الشمس: "أراد بـ "طغيانها" إلا أنَّ الطغوى أشكل برؤوس الآيات، فاختير لذلك".[6]

قال ابن عبَّاس: "الطغوى هنا: العذاب، كذَّبوا به حتى نزل بهم[7]؛ لقوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5].

ومن ذلك أيضًا: قوله - تعالى -: ﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] والأصل: وميكائيل، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130]، والأصل: إلياس، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ وَطُورِ سِينِينَ [التين: 2] والأصل: وطور سَيْناء؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ [المؤمنون: 20]، فالطُّور الجبل الذي ناجى عليه موسى - عليه السلام - ربَّه، وسِينين: الحُسْنُ، بلغة النبط، فالكلمتان "سينين"، و"سيناء" لغتان، فالأولى بلغة الحبشة، والثانية بلغة النبط[8].

وقال الزمخشري تعليقًا على آية الصافات: "وقرئ على: إل ياسين وإدريسين، وإدراسين، على أنَّها لغات في إلياس وإدريس، ولعلَّ لزيادة الياء والنون السريانية معنى... وأما مَن قرأ على: "آل ياسين"، فعلى أنَّ ياسين اسم أبي إلياس أُضيف إليه الآل".[9]

وأرى أنَّ لهذا العدول في البنية فائدتين أُخريين، الأولى: أنَّ في إعادة الاسم المُظهر تنويهًا بشأن إلياس - عليه السلام - وتقريرًا لاسمه في الأذهان، تأكيدًا لتعظيمه فيها، وإعلاءً لقَدْره في مقام الدعوة، والثانية: أنَّ زيادة الياء والنون اللتين أُلحقتَا باسمه - عليه السلام - أعطتا الفاصلة نوعًا من التنغيم الموسيقي بما يُحَسُّ من النون المردوفة بالياء الممدودة، مما يصوِّر كمال العناية بإلياس - عليه السلام - وإعلاء شأنه.

ومما يتَّصل بتغيير البنية ما نجده في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [نوح: 17]، والأصل: "إنباتًا" فعدل عن مصدر الفعل الأصلي إلى اسم المصدر "نباتًا"؛ لأنَّ الإنبات هنا استعارة في الإنشاء (أنشأ آدم من الأرض، وصارت ذريته منه)[10]، وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان هو من وجهٍ نبات، من حيث إنَّ بدأه ونشأه من التراب، وإنه ينمو نموه، وإن كان له وصفٌ زائد على النبات، وعلى هذا نبَّه بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ [غافر: 67].[11]

ولَمَّا كان له وصف زائد على النبات صار مُغايرًا من وجه للنبات، فغاير في صيغة المصدر، والله أعلم بمراده.

إذًا، فقوله: "نباتًا" موضوع موضع "الإنبات"، وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا، كأن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: تكلَّم فلانٌ كلامًا، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: تكلم فلان تكلُّمًا.[12]

وخلاصة القول: مِن بلاغة العدول في هذه الشواهد مراعاةُ الفاصلة كما يرى بعضُ المفسِّرين[13]، فهم يصفون مدى ارتباط الشكل بالمضمون، وموسيقا الفاصلة جزءٌ من الشكل، وجزء من المضمون، ويرون أنَّ التعبير القرآني قد يلجأ أحيانًا إلى الحَذْف إذا عُرف المعنى، أو دلَّ عليه دليلٌ سابق، فيجتمع الحذف ومراعاة الفاصلة، كما نشاهد فيما يلي:

ب - في الحذف:
ومن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 1- 11].

ففي قوله - تعالى -: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾، حيث حُذف ضمير الخِطاب المضاف إلى الفِعْل "قلى"، فمِنهم مَن قال: حُذِف للدلالة عليه في "ودعك"، ومنهم مَن قال: حُذِف مراعاةً للفاصلة، وكذلك فيما بعدها من الفواصل (فآوى - فهدى - فأغنى).[14]

وترى الدكتورة عائشة عبدالرحمن رأيًا وجيهًا في تعليل هذا الحذف نميل إليه؛ إذ ليس من المقبول مطلقًا أن يقوم البيانُ القرآني على اعتبار لفظي محض، وإنما الحذف جاء لمقتضًى معنويٍّ بلاغي، يقويه الأداء اللفظي دون أن يكون الملحظُ الشكلي هو الأصل، ولو كان البيان القرآني يتعلَّق بمثل هذا لَمَا عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سورة الضحى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 9-11]، وليس في السورة كلها "ثاء" فاصلة، بل ليس فيها حرف "ثاء" على الإطلاق، ولم يقل الحق - سبحانه -: "فخبِّر" بدلاً من "فَحَدِّث"؛ لتتفق الفواصل أو لتتشاكل رؤوس الآيات على مذهب أصحاب الصَّنْعة، ومن يتعلقون به.

والذي نراه ونطمئن إليه في هذا المقام، والذي يفرِضه السياق: أنَّ الحذف هنا تقتضيه حساسيةٌ معنوية مرهفة، بالغة الدِّقَّة في اللطف والإيناس، هي تحاشي خطابه - تعالى - لرسوله وحبيبه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مقام الإيناس بصريح القول "وما قلاك"؛ لِمَا في القِلَى من سوء، أو عدم حسن الطرد والإبعاد، وشدَّة البُغض، أما التوديع فلا شيءَ فيه من ذلك، بل لعلَّ الحسَّ اللغوي فيه يؤذِن بأنه لا يكون وداع إلا بيْن الأحباب، كما لا يكون توديعٌ إلا مع رجاء العَوْدة، وأَمَل اللِّقاء".[15]

أما قول الفراء وغيره بأنَّ الحذف لدلالة ما قبله على المحذوف، فذلك اعتبار نحوي يتعلَّق باللفظ، وإنما ما بينَّاه يتعلَّق بالمعنى، وهو لُبُّ المقصود، والله أعلم.

ومن أمثلة حذف المفعول في الفاصلة قوله - تعالى -:
﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، فقد ذكر مفعول النفع، ولم يذكر مفعول الضر، وقد تظن أنه إنما فعل ذلك لفواصل الآي، ولا شكَّ أنه لو ذكر المفعول به لم تنسجِمِ الفاصلة مع فواصل الآي، ولكن الحذف اقتضاه المعنى أيضًا، فقد ذكر مفعول النفع فقال: ﴿ يَنْفَعُونَكُمْ ﴾؛ لأنهم يريدون النفع لأنفسهم، وأطلق الضر لسببين:

الأول: أنَّ الإنسان لا يُريد الضرر لنفسه؛ وإنما يريده لعدوِّه.

والآخر: أنَّ الإنسان يخشى مَن يستطيع أن يلحق به الضرر، فأنت ترى أنَّ النفع موطن تخصيص، والضر موضع إطلاق، فخصَّ النفع، وأطلق الضر، والمعنى: أنَّ هذه الآلهة لا تتمكن من الإضرار بعدوكم، كما أنها لا تستطيع أن تضرَّكم، فلماذا تعبدونها؟ ولو ذكر المفعول به، فقال: (أو يضرونكم) لَمَا أفاد هذين المعنيين، فانظر كيف أنَّ العدول إلى الإطلاق في الضُّرِّ اقتضاه المعنى، علاوةً على الفاصلة.[16]

ومِن شواهد الحذف لأجْل الفاصلة حذفُ ياء المنقوص نحو قوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ التَّلاَقِ [غافر: 15]، ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32] وحذف ياء المضارع غير المُنجزم نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]، وحذف ياء الإضافة نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر 16، 18، 21، 30].

الياء المحذوفة في "التلاق" و"التناد" من أصول الكلمة، ولعلَّ سبب العدول إلى حذفها في هذين الموضعين وأمثالهما الرمز إلى أنَّ كلاًّ من "يوم التلاق"، و"يوم التناد" هو يوم القيامة، وهو أمرٌ ملكوتي أُخروي غَيْبِي، فلما كان غيبيًّا حُذِفت الياء لترمز إلى ذلك.

هذا مِن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ، فلأنَّ حذف الياء سوَّغ الوقوف على كل منهما بالسكون، كما هو الشأن في الفواصل التي قبلها والتي بعدها.[17]

أما بالنسبة إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾، فالسِّرُّ هنا هو أنَّ السُّرى هو السرى الملكوتي، الذي يُستدلُّ عليه بآخِرِه من جهة الانقضاء، أو بمسير النجوم.[18]

قال سيبويه: "وجميع ما لا يُحذف في الكلام، وما يُختار فيه ألاَّ يحذف، يحذف في الفواصل والقوافي، فالفواصل قول الله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]"[19]، وتابعه الفرَّاء، فقال: "وقد قرأ القُرَّاء "يسري" بإثبات الياء، "ويسر" بحذفها، وحذفها أحبُّ إليَّ؛ لمشاكلة رؤوس الآيات، ولأنَّ العرب قد تحذف الياء، وتكتفي بكسِر ما قبلها".[20]

فهو يرى أنَّ العدول إلى حذف الياء أوفقُ من إثباتها؛ لمراعاة الفاصلة.

جـ - في الزيادة:
أحيانًا تأتي الفاصلة وبها زيادة حرف المدِّ، نحو: " الظنونَا، والرسولاَ، والسبيلاَ"، ففي قوله - تعالى -: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]، و﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ [الأحزاب: 66]، و﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [الأحزاب: 67]، يقول الفَرَّاء في تعليل هذه الزيادة: "يُوقَف عليهنَّ بالألف؛ لأنَّها مثبتة فيهنّ، وهي مع آيات بالألف، وكان حمزة والأعمش يَقِفان على هؤلاء الأحرف بغير ألف فيهنّ، وأهل الحجاز يقفون بالألف، وذلك أحبُّ إلينا لاتِّباع الكتاب، ولو وصلت بالألف لكان صوابًا؛ لأنَّ العرب تفعل ذلك، وقد قرأ بعضُهم بالألف في الوصل والقطع".[21]

ويرى بعضُ الباحثين المعاصرين: أنَّ من المقرر في القواعد أنَّ الألف تنوب عن التنوين الذي بعدَ الفتحة عند الوقف، كما سبق في قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 46، 155]، ولأنَّ التنوين الذي نابت عنه الألف لا يجتمع مع أداة التعريف "أل"، وقد خلت النصوص العربية من الجمع بينهما حتَّى في قوافي الشعر؛ لأنَّ الألف التي تجامع "أل" في قوافي الشعر ألف إطلاق، وليست ألف إبدال أو تعويض، ومع ذلك تأتي ألف الإبدال في القرآن في كلمات اقترنتْ بأداة التعريف، وكانت الألف في هذه الحالة لرعاية الفاصلة، كما في الآيات السابقة من سورة الأحزاب.[22]

ولا يكفي القولُ بأنَّ الزيادة هنا لرعاية الفاصلة - وإن كنَّا لا ننكر ذلك - ولكنَّنا نتفق مع رأي باحِث آخرَ في أنَّ هذا العدول يتعلَّق بالأداء الصوتي للكلمة، فيقول: "وقد يخيل إليك وأنت تسمع هذه الجملة: ﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ إذا أحسنت الإصغاء النفسي والوجداني إليها، أنَّك تسمع هذه الهمهمات، وهذه الوسوسات، التي تهمس بها نفوسُهم في خفاء، وكأنَّ هذه الألف في {الظنونا} تُؤذِن بإطلاق العِنان للخيال الفزِع، والخواطر الشُّرُد حين زاغتِ الأبصار، وبلغتِ القلوب الحناجر".[23]

ثم إنَّنا نلحظ في الآية نوعًا آخَرَ من العدول، حيث جيء بالفعل المضارع "تظنون" عدولاً عن الماضي "ظننتم"؛ لأنه معطوف على "زاغت الأبصار"، ولأنَّ الحَدَث قد انتهى زمانه، والمقام مقامُ تذكير بالنِّعمة، والسرُّ في ذلك - كما يقول البلاغيون -: أنَّ المضارع يدلُّ على استحضار الصورة؛ أي: إنَّ صيغته تحمل الحديث مِن قلْب الزمان الغابر؛ لتضعه أمام الحاضر الراهن في جلاء ووضوح، ولهذا تراهم يُؤثِرون صيغة المضارع عند ذكر الحَدَث الأهم، والظنُّ هنا أهم الأحداث في قصتنا؛ لأنَّ القضية قضية ابتلاء وتمحيص؛ ابتلاء إيمان، وتمحيص عقيدة، لذلك كان حديثُ القلوب، وهمس النفوس، وحركة الشعور، وكل ما هو داخل الكيان النفسي وينتمي إليه من أهمِّ ما يعنينا في هذا الموقف، ومِن أجْلِ ذلك خالف القرآن نسقَ الأفعال، وجاء بهذا الفعل مضارعًا، ومؤكدًا بمصدره، ومجموعًا على خلاف المألوف في المصادر، وذلك ليكشفَ أتَمَّ كشف، ويتصوَّر أوضح تصوير مُسْتسرّ نفوس هذه الجماعة في هذا الموقِف الصعب، والمضارع أيضًا يدلُّ على الاستمرار والتجدُّد، فكأنَّ الظن هنا حَدَثٌ يتتابع وقوعُه، وتتوالى صوره.

وثمة ملحظ آخر في الآية إذ تصوِّر ما بداخل النفس، وتصِف الخواطر والهواجس والظنون، وهذه قُصوى مراحل الابتلاء بالنسبة للمؤمنين في هذه الواقعة، و" الظن" مصدر يُطلق على القليل والكثير، ولكنَّه جُمِع هنا للإشارة إلى كثرة الهواجس والظنون، وتعدُّد ضروبها وأنواعها، وقد ورَدَ هذا في كلامهم، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان (من الوافر):

إِذَا الْجَوْزَاءُ رَادَفَتِ الثُّرَيَّا
ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا


هذا هو الرأي الذي نستريح إليه مِن خلال تدبُّر السياق، وفَهْم المعنى، ونحن نعلم أنَّ الصياغة لها مستويان يختلفان باختلاف السياق، المستوى الأول: هو المستوى اللغوي الذي ترِدُ فيه الصياغة حسب مقتضيات الإيصال فحسب، أمَّا المستوى الثاني: فهو الذي عبّر عنه بالوظيفة البيانية، واللغة الأدبية؛ لاختصاصه بصياغة أخرى تتميَّز بطبيعتها الجمالية، وما تحويه من مفردات رُكِّبت على غير المألوف في المستوى الأوَّل الذي تأتي فيه الصياغة، وما يتَّفق دون قصد.

ومِن الزيادة أيضًا إلحاق هاء السَّكْت في آخر الكلمات المنتهية بالياء المفتوحة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20]، و﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25-29]، يقول ابن قُتيبة: "وإنما يجوز في رؤوس الآي زيادة هاء للسَّكْت، كقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] أو "ألف" كقوله: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]

... لتستويَ رؤوس الآي على مذاهب العرب في الكلام".[24]

والرأي عندي: أنَّ السبب في هذا العدول المتمثِّل في زيادة الهاء لا يتضح إلاَّ إذا تأمَّلْنا سياق الآيات، فالآيات تتحدَّث عمَّن يُؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة، وما يعتريه حينئذٍ من ندم وحسرة ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25 - 29].

إنها وقفةٌ مع نفسه تُنبئ عن حسْرة مديدة، ولهجة بائسة، وتنهيد وتهديج، والسِّياق يُطيل عَرْض هذه الوقفة، حتى ليخيل إلى السامع أنَّها لا تنتهي إلى نهاية... وهنا يُراد طبع موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة من وراء ذلك المشهد الحسير... ثم يتحسَّر أنْ لا شيء نافعُه ممَّا كان يعتزُّ به، أو يجمعه ويكنزه ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، فجاء السَّكْتُ على هذه الهاء في "ماليه" يُصوِّر لحظة الندم على ما فعل به حبُّ المال من الإعراض والتقصير، مصحوبًا بتلك الهاء الحَلْقِية الساكنة، مع ما يتبعها من تفريغ التأوُّه الصادر من أعماق القلْب، يؤدِّي رنَّة حزينة حسيرة مديدة في نهاية الفاصلة الساكنة، ويَزيد مِن ذلك الياء قبلَها بعد المدِّ بالألف في تحزُّن وتحسُّر، ولا شكَّ أنها بصوتها ترسم جزءًا من ظلال الموقِف الموحِي بالحسرة والأسى.

هذا ما يكشف عنه زيادةُ هاء السكت، وما يُوحِي به من ظلال المشهد، ولكن لا يجب الوقفُ على "ماليه" رغم أنها رأس آية لاتِّصال المعنى بما بعدها، فقوله: {هلك عني سلطانيه} مِن تمام الكلام.

ونخلص من هذا أن السكت على "ماليه" أفاد فائدتين: الأولى: لفظية، وهي الرنَّة الحزينة المديدة في نهاية الفاصلة الساكنة؛ لينسجمَ الأداء الصوتي مع باقي الفواصل السابقة واللاحقة (كتابيه، حسابيه، القاضية، ماليه، سلطانيه)، والثانية: معنوية، وهي تجسيدُ لحظة الندم، وتجلية موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة وفداحة المصير.

د - الاعتراض:
وممَّا يتَّصل بالنمط السابق مِن أنماط العدول "الاعتراض".

الأصلُ في الجملة أنْ تتَّصل أجزاؤها؛ لتتضحَ فيها الرتبة والاختصاص والعلاقات، ولكن الأغراض الأسلوبية ربَّما أباحتِ العدول عن هذا الأصل بواسطة اعتراض مجرَى الكلام بجملة يتطلَّبها الموقف، تُسمَّى الجملة المعترضة، ولا يكون الاعتراضُ إلا بجملة، وهي لكونِها معترضةً غريبةٌ عن سياق الكلام، ولا ينسب إليها محلٌّ من الإعراب؛ لكونها لم تحُل محلَّ أحد مفردات السِّياق الأصلي[25]، إنما يُؤتَى بها لوظيفة بلاغية مهمَّة، هي المبادرة بإبلاغ السامع معنى، لولا إبلاغُه إيَّاه في حينه، لورد على الكلام بدونه ما لا يرِدُ عليه بوجوده، وهذا ما اشترطه ابن مُنقذ في الجملة المعترضة.[26]

والاعتراض في كلام العرب "كثيرٌ قد جاء في القرآن، وفصيح الشِّعر، ومنثور الكلام، وهو جارٍ عندَ العرب مجرى التأكيد، فلذلك لا يُستنكَر عندهم أن يُعترض به بين الفعْل وفاعله، والمبتدأ وخبره، وغير ذلك ممَّا لا يجوز الفصْل فيه بغيره، إلا شاذًّا أو متأولاً".[27]

ومن شواهده في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران: 36]، وفائدة الاعتراض التنبيهُ إلى سبق عِلم الله بذلك.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، والاعتراض للمبادرة ببعْث المسرَّة والطمأنينة إلى قلوب المستغفِرين التائبين.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران: 127 - 128]، جاء الاعتراض ليدلَّ على أنَّ النصر أو الهزيمة مِن عند الله، لا من عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة: 75 - 77].

قال الزمخشري: "وقوله: ﴿ وإنَّه لقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، اعتراض في اعتراض؛ لأنَّه اعترض به بين المقسَم به، وهو ﴿ مَوَاقِع النجوم ﴾، والمقسَم عليه، وهو قوله: ﴿ إنَّه لقرآنٌ كريم، واعترض بقوله: {لو تعلمون} بين الموصوف وصِفته"[28]، وقد أفاد الاعتراضُ الأول لفْتَ الأنظار إلى أهمية القَسَم، كما أفاد الاعتراضُ الثاني التهويلَ من شأن القَسَم.

ومِن بلاغة النظم في الاعتراض المناسبةُ بين المقسَم به، وهو النجوم، وبين المقسَم عليه، وهو القرآن؛ لأنَّ الله قد جعل النجوم ليهتديَ الناس بها في ظلمات البر والبحر، كما جعل القرآن ليهتديَ به الناس في ظلمات الجهل والضلال، فتلك ظُلمات حِسيَّة، وهذه ظلمات معنوية، فجاء القَسَم هنا جامعًا بين الهدايتين (الحِسيَّة للنجوم، والمعنوية للقرآن)، فهذا وجه المناسبة، والله أعلم.


[1] "يتيمة الدهر" (4/202).

[2] "لسان العرب" - مادة: (ب و ب).

[3] "البرهان في علوم القرآن" (1/71)، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" (7/103).

[4] راجع "لسان العرب" - مادة (غدا)، و"الصاحبي" (ص: 384)، و"المزهر" (1/339).

[5] "بيان إعجاز القرآن" - ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز - (ص: 24 - 26) بتصرف.

[6] "معاني القرآن" (3/267).

[7] "البحر المحيط" (8/475).

[8] انظر: "تفسير القرطبي" (20/76)، و"تفسير النيسابوري" (30/120)، و"البرهان في علوم القرآن" (1/62).

[9] "الكشاف" (4/352، 353).

[10] "البحر المحيط" (8/334)، ويُنظر: "الكشاف" (4/163).

[11] "المفردات في غريب القرآن" (ص: 480).

[12] "تفسير الطبري" (3/162)، ويُنظر: "تفسير القرطبي" (18/197).

[13] ينظر على الترتيب: الثعالبي: "فقه اللغة" (2/579)، وابن سيده: "المحكم" (1/241)، وابن سنان: "سر الفصاحة" (ص: 173)، والنيسابوري: "غرائب القرآن" (12/108)، والفخر الرازي: "مفاتيح الغيب" (31/209)، والسيوطي: "الإتقان" (3/342)، و"المعترك" (1/36)، وسيِّد قطب: "التصوير الفني في القرآن" (ص: 89).

[14] "معاني القرآن" (3/273)، و"غرائب القرآن" (30/108).

[15] انظر: "التفسير البياني" (1/35)، 36)، و"الإعجاز البياني" (268، 269).

[16] فاضل السامرائي: "التعبير القرآني" (ص: 197).

[17] مجلة منبر الإسلام (ص: 16) من مقال للدكتور/ عبدالعزيز المطعني بعنوان: خصوصيات الرسم العثماني.

[18] "البرهان" (1/403).

[19] "الكتاب" (4/185).

[20] "معاني القرآن" (3/260).

[21] "معاني القرآن"؛ للفراء (2/350)؛ يقصد بالقطع: "الوقف".

[22] "البيان في روائع القرآن" (ص: 283، 284).

[23] "أسرار التعبير القرآني" (ص: 102).

[24] "تفسير غريب القرآن" (ص: 440).

[25] "البيان في روائع القرآن" (ص: 386).


[26] "البديع في نقد الشعر" (ص: 130).

[27] "الخصائص" (1/335).

[28] "الكشاف" (4/58، 59).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]