
13-11-2021, 08:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة :
|
|
رد: المواساة نسيم الحياة
إن المواساة ما هي إلا سمو نفسِ وعظمةِ قلبِ وسلامةِ صدرِ ورجاحة عقلِ ووعي روح ونبلِ إنسانية وأصالة معدنِ يمتلكها الذي يواسي الخلق، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم واسودهم، حقيرهم ووزيرهم.
أنها تورث محبة الله عز وجل، وتورث محبة الخلق، وتشيع روح الأخوة بين المؤمنين، وتقوِّي العلاقات بين المسلمين، وتساعد على قضاء حاجات المحتاجين، وسد عوز المعوزين، تدخل السرور على المسلم، وترفع من معنوياته، وتشعره بالذين من حوله فيقبل على الحياة مسرورًا؟
من المواساةِ: مساعدةُ المحتاجين والفقراءِ واليتامى والوقوفُ بجانبِهم قال جل شأنُه في حقِّ الأبرارِ الذين يواسون الناسَ بالليلِ والنهارِ ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].
بل جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مواساةَ اليتيمِ سببًا لدخولِ جنةَ ربِّ العالمين وجارًا للنبي العدنان في الجنةِ فقال كما في حديثِ سَهْلٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"؛ رواه البخاري.
وورد أن جاءه رجل فقال: إن قلبي قاسٍ ليس له من شفاء؟! قال له صلى الله عليه وسلم: خذ اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلين لك قلبك وتبلغ ما تريد.
والمواساةُ تُشِيعُ روحَ الأخوَّةِ بين المسلمين وتقوِّي العلاقاتِ بين المسلمين وتدعو إلى الألفةِ وتؤكِّدُ معنى الإخاءِ وتنشرُ المحبَّةَ، وهذا ما دعا إليه الإسلامُ ونبيُّ الإسلامِ صلى الله عليه وسلم؛ كما في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".
والمواساةُ تجعلُ صاحبَها من المسرورين يومَ القيامةِ وكيف لا؟ والمواساةُ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وكيف لا؟ "وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ"؛ رواه مسلم.
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار - عندما وجدوا في أنفسهم شيئًا مما أعطاه لقريش يتألف قلوبهم، فجمعهم وحدهم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم، وقال: "ما كان حديث بلغني عنكم؟".
قال له فقهاؤهم: "أما ذوو آرائنا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا - أي الكبراء - وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم"؛ متفق عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟"، ثم قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله"، قال صلى الله عليه وسلم مواساةً لهم: "لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها"؛ متفق عليه.
وتتجلى المواساة في أبهي صورها عندما قال لهم: "إني أعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله..".
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا.
ومن المواساةِ أيضًا: جبرُ خاطرِ المسلمِ وإدخالُ السّرورِ على قلبهِ، وكلما كانتْ المواساةُ في أمرٍ ضروري كان وقعُها على النفسِ أشد، ففي حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَال: "أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ لَهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا"؛ رواه ابنُ أبي الدنيا.
ومن المواساةِ أيضًا: عيادةُ المريضِ واتباعُ الجنائزِ قال النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - يومًا لأصحابهِ؛ كما في الحديثِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ رواه مسلم.
وأولى الناسِ بالمواساةِ هم الجيران، كاد النبي صلي الله عليه وسلم أن يورثه، لما للجارِ من مكانةٍ عظيمةٍ عند اللهِ عز وجل، لكن - للأسف الشديد - في كثير من الأحيان تجد أحدُنَا إذا رأي لجارِه خيرًا كتمه، وإذا رأى لجارِه شرًّا أذاعه، إنَّ جاري وجارك قد يموتُ ولا نعلمُ بمرضه ولا موته، إن أحدنَا لا ينامُ الليلَ من شدةِ الحزنِ، إذا رأي جارَه في خيرٍ ولا يغمض له جفنٌ، إذا رأي جارَه في مصيبةٍ نامَ قريرَ العينِ هنيئًا، إلا ما رحم ربي!!
ومن المواساةِ أيضًا: مواساةُ الزوجةِ لزوجِها والزوجِ لزوجتِه فهذه خديجةُ رضى اللهُ عنها وأرضاها كانت نعمَ الزوجةُ المؤنسةُ لزوجِها ساعةَ القلقِ المطمئنةُ لزوجها ساعةَ الوحشةِ، المواسيةُ لزوجِها ساعةَ الحزنِ والألمِ عندما عادَ إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غارِ حراءٍ يرجفُ فؤادُه قالت له خَدِيجَةُ " كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"؛ متفق عليه.
المواساةُ تورثُ حبَّ اللهِ عزّ وجلّ وحبَّ الخلقِ ودليلٌ على حبِّ الخيرِ للآخرين. وصدقَ المعصومُ صلى الله عليه وسلم إذ يقولُ كما في البخاري من حديثِ أَنَسٍ رضى اللهُ عنه قال عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
المواساة تذهب الضغائن والأحقاد للسابقين واللاحقين، كيف؟! ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
لذا أمرنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمواساةِ الناسِ في جميعِ أحوالِهم وشؤونِهم، ففي صحيح مسلمٍ أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ".
مواساةُ المصابين ومواساةُ مَن ابتُلِي بفقدِ عزيزٍ، والتخفيفُ عن المنكوبين والمبتلين دليلٌ على إيمانِ العبدِ، وحسنِ فهمِه لمبادئِ الإسلامِ القويمةِ ومن صنائعِ المعروفِ التي يحبُّها اللهُ تعالى، فالدنيا كما وصفَها اللهُ تعالى دارُ ابتلاءٍ واختبارٍ، قال اللهُ: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، والمبتلى ليس وحدَه المبتلى؛ كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
لذا بيَّنَ اللهُ جزاءَ الصابرين مواسيًا إياهم ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وحرص النبي صلى اللهُ عليه وسلم على أنْ يمدَّ يدَ الرأفةِ والعطفِ؛ ليمسحَ بها دمعةَ الباكي، ويخففَ بها لوعةَ الشاكي، ولكي يفتحَ بابَ الأملِ لكل مصاب، ويثبِّت يقين كل مرتاب، فعلمنا صلى اللهُ عليه وسلم الصبرَ على الشدائدِ، وحبَّبَ إلينا ثوابَ الصابرين، ومواساةً لهم في مُصابهم، عليهم صلوات ربهم ولهم هداه ورحمته: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].
وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَا يُصِيبُ الْمسلِمَ مِنْ نَصَب، وَلاَ وَصَب، وَلاَ هَمِّ، وَلاَ حَزن، وَلاَ أَذىً، وَلاَ غَمّ، حَتى الشوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهِ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)؛ رواه مسلم.
المسلمون الأوائل عاشوا المواساة، لذلك رؤوسهم كانت مرفوعة، وكرامتهم مصونة، راياتهم خفاقة، أما حال المسلمين الآن في تشتُّت وتشرذُم، إلا ما رحم الله، تركوا المواساة والتعاضد والتعاون، فذهبت ريحهم، وضاعت نخوتُهم، وانمحتْ هيبتُهم، وتلاشت عزتهم، وأصبح المسلم بلا ثمن، يُقتل بلا ثمن، أرضه مستباحة، دياره مستباحة، ثروته مستباحة، كرامته مستباحة، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ومن الإيمان إلا رسمه، ومن القرآن إلا حرفه، همُّهم بطونهم، دينهم دراهمهم، قِبلتهم نساؤهم، لا بالقليل يقنعون، ولا بالكثير يشبعون، إلا من رحم ربي وعصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين منيبين مخبتين يا رب العالمين.
[1] بعض العبارات مأخوذة من خطبة "المواساة في القرآن الكريم" للدكتور محمد محرز بتاريخ 17 صفر 1443هـ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|