بيان سبب البلاء المسلط على أمة الإسلام في العصر الحاضر
واللطيفة التي لا ننساها: (كيفما تكونوا يولَّ عليكم)، لما فجرنا وفسقنا وأشركنا بربنا وعبدنا القبور، وظلم بعضنا بعضاً، وانتشر فينا الفساد سلط الله علينا أوروبا من هولندا إلى إيطاليا وأسبانيا فشردونا وحكمونا؛ لأننا انحرفنا وفسقنا وخرجنا عن طريق الله، ما أصبحنا أولياء لله، يوجد بيننا أولياء وصالحون رحمهم الله، فسلط أوروبا علينا حتى خف ذاك الضغط والتنكيل والتعذيب الذي كان بين المسلمين، وأنتم لا تعرفون هذا، كان الإنسان إذا أراد الانتقال من قرية إلى قرية لا يمر إذا لم يدفع جزية، اللصوص والمجرمون في الطرقات وفي كل مكان، في المدينة قالوا: كان المجرم يأخذ الباب ويبيعه، وإياك أن تقول: هذا بابي. هبطت هذه الأمة هبوطاً كاملاً.إذاً: فتدبير العلي العظيم الحليم الكريم أن سلط علينا من شاء أن يسلط، واقرءوا: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[الأنعام:129]، ولما استقللنا وتحررنا من هولندا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا؛ فبدل أن نشكر الله عز وجل ونقبل عليه بإنابة صادقة وإسلام صحيح حتى تنتصر دعوة الله وتعلو راية الإسلام، عملنا العكس: أقبلنا على الشهوات والمناصب والوظائف والتكالب على الدنيا وأوساخها حتى أصبحنا أسوأ مما كنا، ماذا نفعل؟ أسألكم بالله -يا عقلاء- أليس هذا هو الواقع؟
أما ينظر الله كيف نعمل بعدما نجانا من حكم الكافر، أما ينظر كيف نتصرف؟ ثم ينظر كيف تعملون، فبدل أن نشكر الله ونطبق شرعه ونستقيم على منهجه عكسنا القضية من جديد، وها نحن تحت النظارة، وسوف أموت وتذكرون، إما أن ينقذ الله العالم الإسلامي بتوبة صادقة وإما أن يسلط عليهم بلاء لا نظير له ما عرفوه.
والنجاة النجاة، كل بلد فيه مؤمن عليه أن يطلب النجاة لنفسه فيتبرأ من تلك التكتلات والأباطيل ويلزم باب الله عز وجل حتى يتوفاه الله مسلماً.
تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا...)
ثم قال تعالى: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ )[الأنعام:130]، يناديهم الرب تبارك وتعالى سواء بنفسه أو بواسطة ملائكته، هذا النداء في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء والحكم الأخير: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )[الأنعام:130]، هذا الاستفهام للتقريع والتقرير، ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ )[الأنعام:130].وهنا أنبه أنه لم يكن للجن أنبياء ورسل مصطفون، ولكن نذر يأخذون العلم من النبي والرسول الآدمي ويبلغونه.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي )[الأنعام:130]، كيف يقصونها؟ لأنهم يتتبعونها آية بعد آية، هذه في الطلاق، هذه في الحلال، هذه في الحرام، هذه في العقيدة، وهكذا قص وتتبع، ما هي مجرد تلاوة، يقصون كما تقص العثرة في الطريق، يتتبعون كل مقومات حياتكم من آداب، وأخلاق، وشرائع، وعقائد.
(وَيُنذِرُونَكُمْ )[الأنعام:130] أي: عواقب ( لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )[الأنعام:130]، أما كان الرسل والدعاة إلى اليوم ينذرون الناس من الفسق والفجور والظلم والشرك والباطل؛ لأن عواقب ذلك مرة مدمرة، ( وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )[الأنعام:130]، ووقوفكم بين يدي الله للحساب والجزاء، هل كان هذا أم لا؟ بلى ورب الكعبة، تم هذا وحصل.
معنى قوله تعالى: (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)
فماذا يقولون؟ ( قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا )[الأنعام:130]، بعثت إلينا رسلك، وأتونا وقصوا علينا كل ما تريد أن نعلمه ونعمل به ونتقيك به يا رب العالمين، ولكن هذا الذي حصل، ( شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا )[الأنعام:130].قال تعالى: ( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )[الأنعام:130]، غرتهم الحياة الدنيا أيام كانوا فيها، وشهدوا أمام الله على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، كافرين أولاً: بوحدانية الله عز وجل، ما كانوا يقولون: لا إله إلا الله.
ثانياً: كانوا كافرين برسلهم، ما آمنوا بهم ولا اتبعوهم.
ثالثاً: كانوا كافرين بلقاء ربهم هذا، كانوا كافرين بالشرائع والأحكام التي كانت تأتيهم ويؤمرون باتباعها والأخذ بها، كل هذا أعلنوا عنه أنهم كانوا جاحدين كافرين مكذبين.
مرة ثانية: في هذا الموقف العظيم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء يقول الرب تعالى: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ )[الأنعام:130]، لماذا بدأ بالجن؟ لأنهم وجدوا قبل الإنس. ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ )[الأنعام:130] عواقب ( لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )[الأنعام:130]؟ فهل اعترفوا أم لا؟
(قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )[الأنعام:130]، وهل الحياة الدنيا تغر وتخدع؟ أي نعم، لا تسأل، كل تارك صلاة كل مانع للزكاة كل متعاطي الربا كل متعاطي الحشيشة كل ظالم كل فاجر مغرور مخدوع، لو عرف الحياة الدنيا لبكى في موضعه وتاب إلى الله عز وجل، يظن أنه يعيش وما يزال العمر طويلاً وما إلى ذلك، لو فكر الظالم الفاسق المجرم الملازم للمعصية أنه قد يموت الآن ويلقى ربه لصرخ: أتوب إلى الله، أستغفر الله، ولخرج يجري في الشارع، لكن غرتهم الدنيا فلا تسمح لهم أن يفكروا هذا التفكير.
(وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا )[الأنعام:130] في دنياهم ( كَافِرِينَ )[الأنعام:130]، غير مؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)
قال تعالى: ( ذَلِكَ )[الأنعام:131] الذي سمعتم وعلمتم بسبب أنه ( لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ )[الأنعام:131] لم يكن الله ( مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )[الأنعام:131]، ليس من شأن الله تعالى ولا من سنته في خلقه أن يهلك أهل قرية بظلم منه وهم مستقيمون عابدون صالحون، أو لم يكن من شأنه أن يهلكهم قبل أن يبعث الرسل إليهم والنذر ينذرونهم ويخوفونهم، لا هذا ولا ذاك.(ذَلِكَ )[الأنعام:131]، الذي سمعتم بسبب أنه ( لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ )[الأنعام:131] تعالى يا رسول الله ( مُهْلِكَ الْقُرَى )[الأنعام:131]، ما المراد من القرى؟ العواصم والحواضر والمدن، والمراد من القرى أهلها وسكانها، وفي القرآن إيجازات عجب والمعنى لا يختلف، فليست المدينة فقط التي يدمرها، المراد المدينة ومن فيها من السكان.
ذلك سببه ماذا؟ أنه لم يكن من شأن ربنا عز وجل أن يهلك أهل القرى بظلم منه وأهلها غافلون، لا بد أن يرسل الرسل ويبعث النذر فيعلمون، فإن رفضت البلاد وأهلها سلط عليهم العذاب.
تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون)
ثم بعد ذلك ما الذي يتم؟ قال: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا )[الأنعام:132]، ولكل من الإنس والجن من الظلمة والمعتدين، من الكافرين والمؤمنين، من الصالحين والفاسدين ( دَرَجَاتٌ )[الأنعام:132]، لماذا ما قال: دركات أيضاً؟ يكفي ذكر الدرجات، والدركات معروفة، وما الفرق بين الدرجة والدركة؟الدرجات درجة فوق درجة إلى أن يصل إلى المكان العالي السامي، والدركات دركة واحدة تحتها واحدة وتحتها واحدة إلى نهاية السفلى، الدرج للصعود، والدرك للهبوط.
(وَلِكُلٍّ )[الأنعام:132] من الإنس والجن ( دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا )[الأنعام:132]، أي: بسبب عملهم، فمن آمن وعمل صالحاً واتقى الشرك والمعاصي يرفعه درجات، وكيف نعبر عن هذه الدرجات؟ إنهم ليتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب في السماء؛ لتفاوت علوها، ينظرون إلى منازلهم متفاوتة في السمو والعلو تفاوت الكواكب، درجات، والدركات لا تسأل عنها في عالم الشقاء النازل الهابط.
(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا )[الأنعام:132]، أي: من أعمالهم.
ثم قال تعالى: ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:132]، الإنس والجن، البررة والفجرة، المؤمنون والكافرون، الموحدون والمشركون، العالم كله بين يدي الله، وهو عليم بسلوكهم وأعمالهم، فلهذا يتم الجزاء وفق علم الله عز وجل، فآمنوا واطمئنوا.
اسمعوا تلاوة الآيات:
(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[الأنعام:129]، فحسنوا كسبكم إذاً.
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا )[الأنعام:130]، إي والله بعثت وأرسلت، هذا محمد صلى الله عليه وسلم فينا.
(قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:130]، ونعوذ بالله أن نكون ممن غرتهم الحياة الدنيا، فاشتغلوا بالباطل والشر والفساد معرضين عن ذكر الله ولقائه وعبادته. ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )[الأنعام:130].
(ذَلِكَ )[الأنعام:131]، السبب: ( أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )[الأنعام:131]، لا بد أن يرسل الرسل ويبعث النذر من الجن يعلمون ويقصون ويبلغون، ثم إذا أصر أهل البلاد على الكفر وعلى الشرك والباطل دمرهم، هذا في الدنيا.
(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ 9[الأنعام:131] يا رسول الله ( مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )[الأنعام:131].
وأخيراً: ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:132].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
هيا نستنتج نتائج هداية هذه الآيات، فتفطنوا.يقول: [ أولاً: بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن، فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد ].
من أين أخذنا هذه؟ هذه حقيقة تحلف بالله وتقول: هي حق، سنة الله في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن، فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل العمل الفاسد، إلى الآن بين الإنس والجن، لن تتبدل سنة الله، فهذا دل عليه قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[الأنعام:129].
[ ثانياً: التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا].
الآية فيها التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا، فالذين تكالبوا عليها وأعرضوا عن الآخرة ونسوها يعملون الليل والنهار، يشفون صدورهم في شهواتهم ولا يذكرون الله والدار الآخرة؛ مغرورون مخدوعون، فما هي بدائمة ولا باقية ولا أنتم فيها خالدون.
[ ثالثاً: بيان العلة في إرسال الرسل، وهي إقامة الحجة على الناس، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم ].
من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ )[الأنعام:131]، أي: أنه لم يكن ربك ( مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )[الأنعام:131]، لا بد من إرسال الرسل وإنذار النذر حتى يعرفوا ثم يهلكوا أو ينجوا.
[ رابعاً: الأعمال بحسبها يتم الجزاء، فالصالحات تكسب الدرجات] العلى [والظلمات] ظلمات الشرك والكفر [تكسب الدركات] السفلى، فالصاعدون بعملهم، والهابطون بعملهم، لكل نفس ما كسبت.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.