حول الاختلاف وضرورة الأدب الإسلامي
مصطفى بن عمور
الاختلافُ سرٌّ من أسرار الحياة، ولا يُمكِن تَصوُّرُ المأساة التي قد تَنجُم عن محو هذه الظاهرة الحيويَّة، التي تَشمَل كلَّ الكائنات الحية من أدناها إلى أعلاها، فوجوده دليلٌّ على "الفرادة" والذاتيَّة، وعلى التدافُع والمواجهة والتناظُر، الذي عن طريقِه تَتفجَّر الحياة ألوانًا من المذاهب، وتَتفتَّق عن أشكال من المشارب والمناهج، وتَتفرَّع عن أنواع من الرؤى والمواقف، وذلك سرٌّ من أسرار الحياة غَرستْه العنايةُ الإلهية؛ لِتنْمو وتَستمرَّ وتَتطوَّر.
والتاريخ الإنساني منذ آدمَ - عليه السلام - إلى الآن وليدُ هذا الاختلاف بخيره وشرِّه، وبدون هذه الحركيَّة لا يكون هناك تاريخ ولا مَعنًى للحياة، وهو يُخبِرنا عن تَضارُب الأمم والأفراد والحضارات؛ تَضارُب بالأجساد والسِّلاح، أو الأفكار والأقلام، فكلَّما حَدَث جُمودٌ في العقول أو النُّفوس، إلا وكان الاختلاف دافِعًا من دوافع الحركة والتَّجدُّد والتَّطوُّر؛ ذلك أنَّ الحقائق ما كانت لِتتمخَّضَ من تِلقاء نفسِها، وما كان الخير ليُسفِرَ بوجْهه على الناس، إلا بعد لَأْيٍ من التَّدافُع والتَّضارب كنتيجة ظاهرة لما هو عميق مَكنون في بِنية الحياة، ألا وهو سرُّ الاختلاف.
وفي حضارتنا الإسلامية - وبرؤية مَوضوعيَّة عادِلة - دلائلُ لا تُحصى على احترام هذا المبدأ الحيوي، الذي آمَن به المسلمون وهم في أَوْج قوَّتِهم وعزِّ سُلطانِهم، كان يَجول في أعماق نفوسهم أنَّ التدافُعَ سبيلٌ من أهمِّ سُبل الحياة في تَدفُّقِها واستمرارِها، وأُسٌّ من أُسس تطوُّرِها وتنوُّعِها، وكانوا على يَقينٍ بأنَّه لا إكراه في الدين؛ ولذلك لم يَسعَوا إلى الهيمنة على الآخر بقوة السلاح والغصْب؛ ممَّا فتَحَ أمام غير المسلمين أبوابًا فسيحة للتَّعبير عن كَينونتِهم، وما يَجيشُ في نفوسهم من إيمانٍ، أو عقيدة، أو رأي، دون قمْع أو كَبْت، وكلُّ هذا يُعبِّر عن تَطوُّر نفْسي وفِكْري لم يَتكرَّر في أمَّة من الأمم؛ لأنَّه وَليدُ عقيدة كانت قاعدتها: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، وهو المبدأ الذي كفَل لكثير من غير المسلمين أن يَتبوَّؤوا مَناصبَ عُليا في جميع المؤسسات العسكرية والسياسية والعلميَّة في الدول الإسلامية، وهو نفسه المبدأ الذي فتَح للأوربيِّين مجالَ النَّهل من المعارف الإسلامية، والعبِّ من مناهلِها، والتَّزوُّد من كُنوزها، فتطوَّرتْ أوربا في ظلِّه؛ حيث لَمْ يَتدخَّل المسلمون في شؤونِها الداخليَّة بالتجسُّس المقيت ووضْع العراقيل في طريقها؛ احترامًا للعهود والمواثيق؛ ممَّا ساهَمَ في تَطوُّرها داخليًّا، في الوقت الذي بدتْ فيه معالم التدهور ومظاهر التَّرهل تَحلُّ بالأمة الإسلامية؛ نتيجة لإلغاء الاختلاف، وسدِّ أبواب الاجتهاد وإعمال الفِكر، إلا ما كان يقوم به بعض العلماء الأفراد دون اعتماد على مؤسَّسات الدولة أو مَن يَقومُ مَقامَها، ونحن إذا وضَعْنا هذا الإيمانَ العميق بمبدأ الاختلاف ووظيفتِه في الحياة عند المسلمين بالأمس، بِجانب المبادئ التي يُؤمِن بها الغرب في عصورنا الحالية، لَرَاعنا هذا التغيُّر الجِذري الذي طَرأ عبْر الزمان على مفهوم الاختلاف وقيمتِه وتفعيله في حيواتِ الناس، فمنَ المفروض إنسانيًّا وحضاريًّا أنْ يَنهجَ الغرب اليوم تُجاه المسلمين والأمم الأخرى - ما نَهجوه معه بالأمس، لكن الذي حدَث هو العكس.
حدَث أنَّ هذا الغربَ الديمقراطيَّ والإنساني "جدًّا" قد خطَّط، ولا يَزال يُخطِّط لمحو كلِّ ما يُخالِفه في مبادئه وقِيمه وأفكاره بشتَّى السُّبل المرذولة، فعمِل على غزو كلِّ بلد آمن؛ لنهْب خيراته، وتذليل أصحابه، منذ غزو القَّارة الجديدة إلى غزو العالم بأسْره، وما صاحَبَ ذلك من سفْك لدماء الأبرياء بوحشيَّة لم يَعرفها البشر حتى في جاهليَّتِهم الأُولى، ومَحو الحضارات بكل ما تَختزنُه من ثروات الروح والفكْر والشعور، وعلى هامِش ذلك نِجد تَزويرًا للتاريخ كنتيجة حتميَّة لكلِّ ذلك.
وما يُدعى اليوم بالنظام العالَمي الجديد - ودون حاجة إلى نظريَّة المؤامرة - ما هو إلا خطوة جديدة في سبيل احتواء شرعيَّة وتاريخيَّة وحيوية الاختلاف، وخنْق براعمه في المَهد، بشتَّى الوسائل المُمكِنة، وأكثرِها وبالاً وفتْكًا، وهذا النظام الجديد "البدائي" ما هو إلا الوجْه الآخر للاستعمار البشِع، الذي لن تَنساه الإنسانيَّة مهما طال الزمنُ؛ لأنَّه تَسرَّب إلى أعماق وعْيها ولا وعْيها، والإنسانية اليومَ - خاصَّة الأمة الإسلامية - مُهدَّدةٌ بِهذا الطاعونِ الروحي الخَبيث، المُتقنِّع تحت بريق الشعارات وبَهرج المذاهب، والذي قد يأتي على أهمِّ مبادئ الحياة وقِيمها إذا لم يُوعَّ بخطورة مُنطلقاتِه وأهدافه وروحه السوداء، وإذا لم يتحصَّن ضدَّه بِموانع الموت والذَّوبان.
وإنَّها لخَسارةٌ كبيرة، ومأساة لا حدود لبشاعتِها، حين تُصبِح الأمم جميعها نسخة واحدة مشوَّهة لوجه واحد بشِع، يَحمِل في جذورِه رواسبَ الشرِّ والطغيان والموت.
ومن أجل التَّنبيه والتذكير، فإنَّ هذا النظام لا يكتفي بقوة الغزو العسكري الشرس لِنهْب خيرات الأمم عامة، والإسلامية بالدرجة الأولى؛ بل يَمدُّ قوتَه للنخر في مستويات المعرفة والثقافة التي تَنبَني عليها حضارة وقِيم الأمم الأخرى، بعد ما فَهِم الغربيُّون من خلال دراسات عديدة (الاستشراق) أنَّ استخدام المعرفة الغربيَّة كسلاح هو أنفذ وأشد لهدْم الآخرين وإضعافهم والاستحواذ عليهم؛ ليُصبِحوا لُقمة رخوة يَسهُل بلعها، ويُستساغ هضمُها، ولكي نُبرِز هذه الحقيقةَ رُغم جلائها؛ سنتسلَّل من عمومية الكلام السابق، لِنشرَع في الحديث عمَّا هو خاص ومحدَّد، وحديثُنا سيكون عن الأدب؛ بِما هو مادة لُغويَّة تتجسَّد فيها ثَقافة الأمة التي أنْتجتْه، كما تَتجسَّد فيها رؤيتُها لذاتِها ولتاريخها، ووعْيها بنفْسها وما حولها، وأيضًا بِما هو خلاصة تجرِبتها عبر قرونٍ مضتْ، خُلاصة لا تَرضى لنفْسها إلا التجلِّي بأسلوب خاصٍّ، يَضمَن لها التأثير المُستمرَّ، والديمومة الفاعِلة عبْر الزمن ودوراتِه، والقُدرة على الجَذْب القوي والموجَّه لأفراد الحضارة، التي اسْتُخلِصتْ منها، وصُفِّيت من بين فرْثها ودمِها.
هذا المعنى العميق للأدب، والمُمثِّل لحقيقة الاختلاف بين بني الإنسان وثقافاتهم وحضاراتهم - يَكاد يَتلاشى في ظلِّ الخطة العقيمة والمميتة الساعية إلى تأميم العمل الإبداعي، وخصوصًا جانبه الأكبر والأخطر، وهو الأدب (شعرًا ونثرًا ونقدًا)؛ باسم العالميَّة والانفتاح، وطمْس كلِّ ما يَتعارَض مع ذلك من خصوصيَّات ومُفارَقات، هي المُؤشِّر الأعمق على الإبداع والتميُّز، كما أنَّها دليلٌ على التدافُع الذي يَحفظُ للذَّات الحضاريَّة وعْيَها بكينونتِها وأصالتها في التاريخ ماضيه وحاضره ومُستقبله.
فالدعوة إلى عالمية الأدب أو عَولَمته، هي دعوة في ظاهرها الانفتاح والتكامُل والاستفادة المُتبادَلة، وفي باطنها من قِبَلها الاحتواء والتذويب والهضم المُمنهَج؛ لأنَّها تَسعى إلى تَسويد ونشْر أدب المركز المُسيطر بسلطاته المُتعدِّدة؛ أي: نشْر أدب له خصوصيَّات المركز الغربي حضاريًّا وثقافيًّا، ومِن ثَمَّ طمْس الآداب الأخرى التي تَختلِف عنه، بأسلوب ماكِر لا يَشي بالعنف المباشر، ولا يُوحي بالتهميش الفِعلي أو السلوك العُدواني الذي يَسكُنه ويُوجِّهه.
وقدِّر لنفسك أيّ مُصيبة مَعرفيَّة، وأيّ خسارة نفسيَّة وحضارية ستَحلُّ بالأمم المُخالِفة للمركز جِذريًّا، حين تتحوًّل بمشاعرها ورؤاها وإرثها الحضاري إلى لسانٍ يُردِّد خصوصيَّات ذلك المركز وثَقافتِه المُسيطِرة بحدِّ السلاح والمال والإغراء؟ إنَّه الموت المعنوي بكلِّ أبعاده، إنَّه الذَّوبان الذي يُغيِّر الملامح، ويُشوِّه المعالم، والطغيان الذي لا يَرعَى لسنَّة الاختلاف والتميُّز قِيمة، ولا يَترك لها مُتنفَّسًا، بل إنَّه المَسخُ الذي يحوِّل كلَّ شيء إلى صور مُتناسِخة مُتطابِقة (لنتذكَّر عملية الاستنساخ البيولوجي)، عديمة الكيف، مُتكاثِرة الكمِّ، مُتحجِّرة المعنى.
ولم تَجدْ هذه الدعوة فرصةً للإعلان عن نفْسِها وتَطبيق مُخطَّطها، إلا في هذا الزمن الذي تَفكَّكت فيه الُعرى - أو تكاد - بين الجماعات وإرثها الحضاري والثقافي، وضَعُف فيه الوعي أو انْعدم بالتميُّز والاختلاف الذي تُؤسِّسه قرونٌ من الفعل التاريخي مُتجذِّرة في الزمان والمكان؛ كل ذلك بفعْل الاستعمار الماديِّ والمعنويِّ، الذي أكلتْ نارُه أخضرَ الأمم ويابسَها، وانْفجرتْ تلك الدعوةُ بأفكارِها ومفاهيمها، يُعزِّزها طابورٌ طويل عريض من وسائل الإعلام وتِقنيَّاته كالسيل الذي لا يُردُّ، أو القَدَر الذي لا مَفرَّ منه إلا تَسليمًا وخضوعًا، وصَنعتْ لنفسها أُطرًا ومُؤسَّساتٍ في باقي الأمم تَمتلِك من الوسائل ما يَجعلها حاضرةً في الواقع بقوَّة، وخاصَّة في الواقع الثقافي، كما يُخوِّل لها سلطةَ التقرير والفعل، واحتواء العقول والقلوب والأقلام؛ لتفسح لنفسها وأطروحاتها أكبرَ مدى من الامتداد والتوسُّع والتغلْغل؛ (راجع كتاب فرانسيس سوندرز: من الذي دفع للدمار؟ الحرب الباردة الثقافية).
ولعلَّ وعْي هذه الدعوة بِخطورة الأدب ومَا يَحظى به كمعرفة ذات شعبيَّة عالية: تَمتزِج فيها القِيم بالجمال، وتَتضافر فيها المبادئ بالإبداع - لعلَّ ذلك ما دفَع أقطابَها من المُنظِّرين والأدباء - في الغرب خاصَّة، وفي الشرق تَبعيَّةً - إلى إنشاء نظريَّة للأدب ليس هدفَها - كما هو مُعلَن - تحقيقُ معرفة أدبيَّة تَمتاز بالعلميَّة والدِّقة، بل الأعمق من ذلك هو التحكُّم في إنتاج الإبداع الأدبي عالميًّا، وإخضاع حركته لقوالب أُنتجِت في بيئة لُغوية وثقافية خاصة، ومناخ معرفي آخر، له خصوصيَّاته التي تَكبَحه عن دعوى العالمية، وتَحدُّ من غُلواء دعاواه وشعاراته، التي تَسعى إلى تأميم الإبداع الأدبي بنظريات مُخالِفة لخصائص النشاط الأدبي في كثير من الأمم ذات الأُطُر الثقافية والحضارية والمعرفية المُختلِفة - وأحيانًا بشدَّة - مع المركز الغربيِّ.
بَيْدَ أنَّ من حِيلَ بينه وبين هذه الحقائق البينة، التي لا تَزال صُروف الدَّهر تَكشفُها وتُعرِّيها - يظن أنَّ الإبداع الأدبي كتابة ونقدًا يَظلُّ دائمًا مُستقِلاًّ عن مُؤثِّرات الحضارة التي نَجَم في أرضها، وتَنَفس في جوِّها، وتغذَّى من مشيمتِها، ومَقولة الاستقلالية هذه خُدعة أخرى يُراد بها إضفاء صفة الإطلاقيَّة على العمل الأدبي؛ حتى يَغترَّ الآخرون بعالميَّتِه وكونيَّته، وحتى تَنطلي على ذوي الانفصام المعرفي[1] تلك الخُدعةُ، ويَسهُل حشرُهم في دائرتِها، واستغلال عقولهم ونشاط إبداعهم؛ لِيكونوا نافذة يُطِلُّ منها المركز الغربي على أممٍ وحضارات أخرى، ويَنفُث فيها توجيهاتِه وقِيمَه وثقافته؛ من أجل الطمْس والتذويب، ثم الاحتواء في آخر المطاف.
فمقولة الاستقلاليَّة هذه هي التي جعلت الطريقَ مُمهَّدًا لبعض المعارف ذات الرؤية الغربيَّة مِن مِثلِ علْم النفس، وعلم الاجتماع؛ لِتشقَّ المسافةَ من مركزها الغربي "المُنتِج" نحو الأمم الأخرى "المُتلقِّية"، كما أنَّها أغرتْ كَثيرين من مَرضى الانْفصام المعرفي بتَلقُّف تلك المعارف من دون وعْي بخصوصيَّتها وإخلاصها الشديد للمركز الذي انبثقتْ منه، دون فلْي لعناصرها، أو تَفكيك لبِنيتِها؛ من أجل اصطفاء ما يُناسِب هذه الأمة أو تلك؛ حتى تكون الاستفادة واعية بذات المستفيد وكينونته، لا أنْ تكون عمياء تَحطِب الجيدَ والرديء، النافع والضار دون تَمييز، كأنَّ هناك تَماهيًا وتَوحُّدًا بين المركز الغربي وباقي الأمم والحضارات الأخرى، وهو أمْر تَمجُّه الحقيقة، ويَدمغُه الواقع بكلِّ مُكوِّناته.
يتبع