الحلقة (179)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْأَنْفَالِ
الاية8 إلى الاية 12
( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ( 8 ) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( 9 ) )
( ليحق الحق ) ليثبت الإسلام ، ( ويبطل الباطل ) أي : يفني الكفر ( ولو كره المجرمون ) المشركون . وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان .
قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم ) تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر . روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين ، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، واستقبل القبلة ومد يده فجعل يهتف بربه - عز وجل - : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه - عز وجل - مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله - عز وجل - " إذ تستغيثون ربكم " ( فاستجاب لكم أني ممدكم ) مرسل إليكم مددا وردءا لكم ، ( بألف من الملائكة مردفين ) قرأ أهل المدينة ويعقوب " مردفين " بفتح الدال ، أي : أردف الله المسلمين وجاء بهم مددا . وقرأ الآخرون بكسر الدال ، أي : متتابعين بعضهم في إثر بعض ، يقال : أردفته وردفته بمعنى تبعته .
يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم عمائم بيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ناشد ربه - عز وجل - وقال أبو بكر : إن الله منجز لك ما وعدك فخفق رسول [ ص: 333 ] الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة وهو في العريش ثم انتبه ، فقال : " يا أبا بكر أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا خالد ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : " هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب " .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا .
وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قد شهد بدرا أنه قال بعدما ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة .
( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ( 10 ) إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 ) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ( 12 ) )
قوله تعالى : ( وما جعله الله ) يعني : الإمداد بالملائكة ، ( إلا بشرى ) أي : بشارة ( ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )
( إذ يغشيكم النعاس ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " يغشاكم " بفتح الياء ، " النعاس " رفع على أن الفعل له ، كقوله تعالى في سورة آل عمران " أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم " ( آل عمران - 154 ) [ ص: 334 ] وقرأ أهل المدينة : " يغشيكم " بضم الياء وكسر الشين مخففا ، " النعاس " نصب ، كقوله تعالى : " كأنما أغشيت وجوههم " ، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الشين مشددا ، " النعاس " نصب ، على أن الفعل لله - عز وجل - ، كقوله تعالى : " فغشاها ما غشى " ( النجم - 54 ) ، والنعاس : النوم الخفيف . ( أمنة ) أمنا ( منه ) مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان .
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر ، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس إليهم الشيطان ، وقال : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين ، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟ فأرسل الله - عز وجل - عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا ، وتوضأوا وسقوا الركاب ، وملئوا الأسقية ، وأطفأ الغبار ، ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام ، وزالت عنهم وسوسة الشيطان ، وطابت أنفسهم ، فذلك قوله تعالى : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " من الأحداث والجنابة .
( ويذهب عنكم رجز الشيطان ) وسوسته ، ( وليربط على قلوبكم ) باليقين والصبر ( ويثبت به الأقدام ) حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض . وقيل : يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب .
( إذ يوحي ربك إلى الملائكة ) الذين أمد بهم المؤمنين ، ( أني معكم ) بالعون والنصر ، ( فثبتوا الذين آمنوا ) أي : قووا قلوبهم . قيل : ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم ، أي : ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين .
وقال مقاتل : أي : بشروهم بالنصر ، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم . ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) قال عطاء : يريد الخوف من أوليائي ، ( فاضربوا فوق الأعناق ) قيل : هذا خطاب مع المؤمنين . وقيل : هذا خطاب مع الملائكة ، وهو متصل بقوله " فثبتوا الذين آمنوا " ، وقوله : " فوق الأعناق " قال عكرمة : يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق . وقال الضحاك : معناه فاضربوا الأعناق ، وفوق صلة كما قال تعالى : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " ، ( محمد - 4 ) ، وقيل : معناه فاضربوا على الأعناق . فوق بمعنى : على . [ ص: 335 ]
( واضربوا منهم كل بنان ) قال عطية : يعني كل مفصل . وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك : يعني الأطراف . والبنان جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين . قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم الله - عز وجل - .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا زهير بن حرب ، ثنا عمرو بن يونس الحنفي ، ثنا عكرمة بن عمار ، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذا سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة " . فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال : إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : والله ، لقد رأيتنا يوم بدر ، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك ، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف .
وقال عكرمة ، قال أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إني لجالس أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري ، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب : إلي يا ابن أخي فعندك الخبر ، فجلس [ ص: 336 ] إليه والناس قيام عليه ، قال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك والله الملائكة ، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني ، وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة ، وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته " .
وروى مقسم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر ، كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا ، وكان العباس رجلا جسيما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي اليسر ، كيف أسرت العباس؟ قال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد أعانك عليه ملك كريم " .