الحلقة (166)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَعْرَافِ
الاية108 إلى الاية124
( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( 108 ) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ( 109 ) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ( 110 ) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ( 111 ) يأتوك بكل ساحر عليم ( 112 ) )
( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) فأدخل يده في جيبه ثم نزعها ، وقيل : أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس ، وكان موسى آدم ، ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت .
( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ) يعنون أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض ، ويري الشيء بخلاف ما هو به .
( يريد أن يخرجكم ) يا معشر القبط ، ( من أرضكم ) مصر ، ( فماذا تأمرون ) أي : تشيرون إليه ، هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره ، وقيل : هذا من قول الملأ لفرعون وخاصته .
( قالوا ) يعني الملأ ( أرجه ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء ، وقرأ الآخرون بلا همز ، ثم نافع برواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسرا ، ويسكنها عاصم وحمزة ، ويختلسها أبو جعفر وقالون .
قال عطاء ، معناه أخره . وقيل : احبسه ، ( وأخاه ) معناه أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل ، ( وأرسل في المدائن حاشرين ) يعني الشرط والمدائن ، وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر ، قالوا : أرسل إلى هذا المدائن رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة ، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ، فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر . [ ص: 264 ]
فذلك قوله : ( يأتوك بكل ساحر عليم ) قرأ حمزة والكسائي : " سحار " هاهنا وفي سورة يونس ، ولم يختلفوا في الشعراء أنه " سحار " .
قيل : الساحر : الذي يعلم السحر ولا يعلم ، والسحار : الذي يعلم ، وقيل : الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحار من يديم السحر .
قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي : قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى : إنا لا نغالب إلا بمن هو أعلم منه ، فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرحاء يعلمونهم السحر ، فعلموهم سحرا كثيرا ، وواعد فرعون موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاءوا ومعلمهم معهم ، فقال له : ماذا صنعت؟ قال : قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء ، فإنه لا طاقة لهم به ، ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به .
واختلفوا في عددهم ، فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين ، اثنان من القبط ، وهما رأسا القوم ، وسبعون من بني إسرائيل .
وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى ، وكانوا سبعين غير رئيسهم .
وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفا . وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفا .
وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفا . وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا ، وقال مقاتل : كان رئيس السحرة شمعون . وقال ابن جريج : رئيس السحرة يوحنا .
( وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( 113 ) قال نعم وإنكم لمن المقربين ( 114 ) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( 115 ) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( 116 ) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ( 117 ) )
( وجاء السحرة فرعون ) واجتمعوا ، ( قالوا ) لفرعون ( إن لنا لأجرا ) أي جعلا ومالا [ ص: 265 ] ( إن كنا نحن الغالبين ) قرأ أهل الحجاز وحفص : " إن لنا " على الخبر ، وقرأ الباقون بالاستفهام ، ولم يختلفوا في الشعراء أنه مستفهم .
( قال ) فرعون ( نعم وإنكم لمن المقربين ) في المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر ، قال الكلبي : يعني أول من يدخل وآخر من يخرج .
( قالوا ) يعني السحرة ( يا موسى إما أن تلقي ) عصاك ( وإما أن نكون نحن الملقين ) لعصينا وحبالنا .
( قال ) موسى بل ( ألقوا ) أنتم ، ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) أي : صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل ، وهذا هو السحر ، ( واسترهبوهم ) أي : أرهبوهم وأفزعوهم ، ( وجاءوا بسحر عظيم ) وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا . وفي القصة أن الأرض كانت ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس .
( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ) فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق . قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية . ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا ، ( فإذا هي تلقف ) قرأ حفص : " تلقف " ساكنة اللام ، خفيفة ، حيث كان ، وقرأ الآخرون : بفتح اللام وتشديد القاف ، أي : تبتلع ، ( ما يأفكون ) يكذبون من التخاييل وقيل : يزورون على الناس . فكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا ، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت .
( فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ( 118 ) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ( 119 ) وألقي السحرة ساجدين ( 120 ) ( قالوا آمنا برب العالمين ( 121 ) رب موسى وهارون ( 122 ) قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ( 123 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ( 124 ) )
( فوقع الحق ) قال الحسن ومجاهد : ظهر الحق ، ( وبطل ما كانوا يعملون ) من السحر [ ص: 266 ] وذلك أن السحرة قالوا : لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله .
( فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) ذليلين مقهورين .
( وألقي السحرة ساجدين ) لله تعالى . قال مقاتل : ألقاهم الله . وقيل : ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا . وقال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا .
( قالوا آمنا برب العالمين ) فقال فرعون : إياي تعنون فقالوا ، ( رب موسى وهارون )
( رب موسى وهارون ) قال مقاتل : قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك؟ فقال : لآتين بسحر لا يغلبه سحر ، ولئن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر .
( قال ) لهم ( فرعون ) حين آمنوا ( آمنتم به ) قرأ حفص " آمنتم " على الخبر هاهنا وفي طه والشعراء ، وقرأ الآخرون بالاستفهام أآمنتم به ، ( قبل أن آذن لكم ) أصدقتم موسى من غير أمري إياكم ، ( إن هذا لمكر مكرتموه ) أي : صنيع صنعتموه أنتم وموسى : ( في المدينة ) في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر ، ( لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ) ما أفعل بكم .
( لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ) وهو أن يقطع من كل شق طرفا . قال الكلبي : لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى ، ( ثم لأصلبنكم أجمعين ) على شاطئ نهر مصر .