عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 31-08-2021, 12:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,975
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القول المبين في الإكراه وأثره في التصرفات عند الأصوليين

القول المبين في الإكراه وأثره في التصرفات عند الأصوليين
رمضان محمد عيد هيتمي


ثالثًا: أنواع الإكراه عند الشافعية:

يقسم الشافعية الإكراه باعتبار المكره به إلى نوعين:
النوع الأول: الإكراه الملجئ.
وهو الذي ينتهي إلى حد الإلجاء، بأن لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، فيكون الفعل الصادر من المكره اضطراريًّا لا مندوحة له عنه بحال، وذلك نحو إلقاء شخص من شاهق على شخص آخر ليقتله، فالشخص الملقى لا قدرة له على الوقوع لا فعلًا ولا تركًا، حيث إن حركة هبوطه بعد إلقائه اضطرارية.
وحكم هذا النوع: أنه يزيل الرضا والقدرة والاختيار، فيمنع من التكليف بالفعل الملجأ إليه، وبنقيضه، لعدم قدرته على ذلك؛ لأن الملجأ إليه واجب الوقوع ونقضيه ممتنع الوقوع، ولا قدرة له على واحد من الواجب والممتنع، فيمتنع تكليفه بالهبوط القاتل للغير، وبالكف عنه في المثال السابق.
فالمكره هنا مسلوب القدرة والاختيار، فهو آلة محضة كالسكين في يد القاطع، فلا ينسب إليه فعل، وحركته كحركة المرتعش.
وهذا هو ما ذهب إليه جمهور الشافعية، وهو الصواب.
وذهب البعض الآخر إلى جواز التكليف للمكره الملجأ بالفعل الملجأ إليه وبنقيضه، بناء على جواز التكليف بما لا يطاق.
ولضعف هذا الرأي قال ابن التلمساني: وهذا القسم لا خلاف فيه[64].
النوع الثاني: الإكراه غير الملجئ.
وهو الذي لا ينتهي إلى حد الإلجاء، وذلك بإسقاط الرضا دون القدرة والاختيار، بأن يكون للمكره مندوحة عن الفعل بالصبر على ما أكره به، كالتهديد بالقتل أو الضرب، حيث إن المكره في هذه الحالة غير مسلوب القدرة والاختيار، إذ يمكنه أن لا يفعل المكره عليه بالصبر على المكره به، وحركة القتل الصادرة عنه -لو نفذ مراد المكره- حركة اختيارية مقدورة له إن شاء الله فعلها، وإن شاء تركها.
وحكم هذا النوع: أنه يزيل الرضا فقط دون القدرة والاختيار، وعليه فإنه لا يمنع التكليف عند أهل السنة مطلقًا، أي: لا بالفعل المكره عليه ولا بنقيضه، وسواء أكان المكره عليه طاعة أم معصية.
فيجوز تكليف من أكره على الزكاة والإسلام بالزكاة والإسلام، ويثاب عليهما ثواب الواجب إذا فعلهما امتثالًا للتكليف لا للإكراه.
ويجوز تكليف من أكره على قتل شخص عدوانًا، بالكف عن القتل وبالصبر على الإيذاء. يثاب حينئذ على كل من: الصبر على الإيذاء، والكف عن المحرم، وذلك لأن الفاعل يفهم، وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه.
وهذا هو رأي أهل السنة، ومفهوم كلام البيضاوي، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي وإمام الحرمين وأبو إسحاق الشيرازي والغزالي وغيرهم[65].
وذهبت المعتزلة إلى أنه يمتنع التكليف بالفعل المكره عليه، ويجوز بنقيضه، حيث إنهم يشترطون في المأمور به أن يكون بحال يثاب على فعله.
أما إذا أكره على عين المأمور به، فالإثبات به لداعي الإكراه لا لداعي الشرع، فلا يثاب عليه، فلا يصح التكليف بخلاف ما إذا أتى بنقيض المكره عليه، فإنه أبلغ في إجابة داعي الشرع.
وأيد الإسنوي ذلك بقوله وقال الغزالي: «إن الآتي بالفعل مع الإكراه، كمن أكره على أداء الزكاة مثلًا إذا أتى بد لداعي الشرع فهو صحيح، أو لداعي الإكراه فلا»[66].
وقد نسب صاحب جمع الجوامع وشارحه إلى المعتزلة القول بمنع التكليف بالمكره عليه وبنقيضه حيث يقول: «ويمتنع التكليف بالمكره عليه أو بنقيضه على الصحيح لعدم قدرته على امتثال ذلك، فإن الفعل للإكراه لا يحصل به الامتثال، ولا يمكن الإتيان معه بنقيضه»[67].
تقسيم الإكراه غير الملجئ:
ثم يقسم الشافعية الإكراه غير الملجئ باعتبار المكره عليه إلى قسمين:
القسم الأول: الإكراه بحق.
وهو الإكراه على أمر واجب شرعًا؛ كإكراه القاضي المدين على بيع ماله وفاء لدينه، وإكراه المولى على طلاق زوجته بعد مضي مدة الإيلاء، فباع وطلق، صح البيع والطلاق؛ لأنه قول حمل عليه بحق فصح قياسًا على الحربي والمرتد إذا أكرها على الإسلام.
وحكم هذا النوع: أنه لا يؤثر في الأقوال والأفعال، فلا يؤثر في الاختيار بحكم الشرع؛ لأنه كان يجب على المكره شرعًا أن يختار بيع المال وطلاق زوجته؛ لأنه واجب عليه، فالإكراه على أداء الواجبات لا يفسد الاختيار، فلا تبطل التصرفات التي أكره عليها، فهنا يحكم الشرع بعدم فساد الاختيار؛ لأن ما أكره عليه المدين والمولى كان واجبًا عليه، فكان الطلاق والبيع باختياره؛ لأنه يجب عليه أن يختار أداء الواجب، فإذا لم يختر أجبره الشارع عليه، وجعل هذا الإجبار غير مفسد للاختيار.
وهكذا كل حق واجب امتنع عنه من عليه الحق، فإنه يجبر على أدائه، وقد جرى الفقهاء على استعمال لفظ «الإجبار» بدل «الإكراه» في كل ما كان على أمر واجب شرعًا.
القسم الثاني: الإكراه بغير حق.
وهو الإكراه على أمر منهي عنه شرعًا، كالإكراه على القتل والزنا وشرب الخمر والكفر وغيره.
وهو نوعان:
أولهما: إكراه على فعل أباح الشرع الإقدام عليه عند الإكراه، كالإكراه على النطق بكلمة الكفر، أو أكل الميتة، أو شرب الخمر.
والإكراه هنا عذر شرعي مبيح للفعل والقول المنهي عنه، فهو جار مجرى الرخص، وله حكم الضرورات.
والإباحة هنا بمعنى رفع المؤاخذة والإثم فقط، لا بمعناها الأصلي، وهو استواء الفعل والترك، فيكون المكره غير مكلف، فلا تترتب على أفعاله وأقواله أية آثار أو أحكام.
ثانيهما: إكراه على فعل لم يبح الشارع الإقدام عليه عند الإكراه، كالإكراه على القتل والزنا، فإنه لا يباح للمكره القتل أو الزنا بالإكراه، فيكون المكره هنا مكلفًا بالكف عن الفعل مع الإكراه، لما في الكف عنه من مصالح ترجح في نظر الشارع على مصلحة دفع الأذى عن نفسه[68].
وتقسيم الشافعية للإكراه باعتبار المكره عليه إلى إكراه بحق، وإكراه بغير حق، هو الذي سار عليه الحنابلة أيضًا[69].
رابعًا: أنواع الإكراه عند الظاهرية.
قسم الظاهرية الإكراه إلى قسمين:
القسم الأول: إكراه على الكلام.
وحكم هذا النوع: أنه لا يجب به شيء وإن قاله المكره، كالكفر، والقذف، والإقرار، والنكاح، والرجعة، والطلاق، والبيع، والنذر، والأيمان، والعتق، والهبة، وغير ذلك.
واستدلوا على ذلك بدليلين:
1- أن المكره على القول إنما هو حاك للفظ الذي أمر أن يقوله، ولا شيء على الحاكي بلا خلاف، ومن فرق بين الأمرين فقد تناقض قوله.
2- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى"[70]، فصح أن كل من أكره على قول ولم ينوه مختارًا له، فإنه لا يلزمه.
القسم الثاني: الإكراه على الفعل.
وهو ينقسم إلى قسمين:
إحداهما: كل ما تبيحه الضرورة، كالأكل والشرب، فهذا يبيحه الإكراه؛ لأن الإكراه ضرورة، فمن أكره على شيء من هذا فلا شيء عليه؛ لأنه أتى مباحًا له إتيانه.
ثانيهما: ما لا تبيحه الضرورة، كالقتل، والجراح، والضرب، وإفساد المال، فهذا لا يبيحه الإكراه، فمن أكره على شيء من ذلك لزمه القود والضمان؛ لأنه أتى محرمًا عليه إتيانه[71].
الفصل الرابع: الوعيد هل يعتبر إكراهًا أم لا؟ والوسائل التي يحصل بها الإكراه
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: الوعيد هل يعتبر إكراه أم لا؟
اتفق العلماء على أن الوعيد إن اقترن بنوع من العذاب؛ كالضرب والخنق والحبس والغط في الماء -كان إكراهًا.
واستدلوا على ذلك بما روي أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر -رضي الله عنه- وأكرهوه على الكفر، فنطق به مع اطمئنان قلبه بالإيمان، فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينه ويقول: "أخذك المشركون، فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا، فإن عادوا فعد"[72].
وبما جاء في الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: «ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أوجعته، أو ضربته، أو أوثقته»[73].
ولكنهم اختلفوا في الوعيد المجرد:
1- فذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد إلى أن الوعيد المجرد يعد إكراهًا[74].
2- وذهب أبو إسحاق الشيرازي والإمام أحمد بن حنبل في الرواية الثانية إلى وجوب اقتراب الوعيد بنوع من العذاب حتى يعد إكراهًا[75].
استدل الإمام أحمد وأبو إسحاق الشيرازي على ما ذهبا إليه بقولهما: إن الشرع إنما أجاز للمكره استعمال الرخصة إذا اقترن توعده بنوع من العذاب، وثبوت الرخصة له في هذه الحالة دليل على اعتبار الإكراه إذا جاء بهذه الصفة.
وأيدا قولهما هذا بما ثبت في حديث عمار بن ياسر المتقدم، وبما جاء في الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أيضًا.
بينما استدل الحنفية والمالكية والشافعية والإمام أحمد في الرواية الأولى له بقولهم: إن الشرع أباح للمكره فعل ما أكره عليه ليدفع عن نفسه العقوبة أو العذاب، أو ما توعده به المكره، وهذا لا يتأتى إلا إذا أبيح له أن يفعل ما أكره عليه قبل أن يصاب بأي نوع من أنواع العذاب.
وأيضًا: فإنه متى توعده بالقتل وعلم أنه سيقتله إذا لم يبح له فعل المكره عليه بمجرد الوعيد، أفضى ذلك إلى قتله وإلقائه بنفسه إلى التهلكة، كما لو أكرهه على الطلاق، وعلم المكره أن المكره قاتله إن لم يمتثل أمره، فإذا لم يبح له التلفظ بالطلاق بمجرد الوعيد أفضى ذلك إلى قتله، وتنتفي بذلك فائدة ثبوت الرخصة للمكره ليدفع عن نفسه الضرر.
وثبوت الرخصة في حق المكره الذي نيل بشيء من العذاب لا ينافي ثبوتها في حق غيره ممن توعده المكره ولم يمسه بعذاب؛ لما ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه قضى برد امرأة طلقها زوجها وهو مكره بالوعيد فقط، فقد تدلى رجل ليشتار عسلًا فوقفت امرأته على الحبل، وقالت: طلقني ثلاثًا وإلا قطعته، فذكرها الله والإسلام، فقالت: لتفعلن أو لأفعلن، فطلقها ثلاثًا، فرده إليها، ولم يعتبره عمر - رضي الله عنه - طلاقًا[76].
فدل ذلك على ثبوت الرخصة في حق المكره بالوعيد فقط كما ثبت في حق غيره الذي نيل بشيء من العذاب.
فإن قيل: إن المكره لا يقطع بتحقيق الوعيد إلا إذا باشر المكره بتنفيذ نوع من العذاب يضطره به إلى عمل ما أكرهه عليه، وهذا أبلغ في تحقيق الاضطرار من مجرد الوعيد.
فالجواب: أنه يكفي لثبوت الرخصة أن يغلب على ظن المكره أن ما توعده به المكره واقع ونازل به إن لم يجبه إلى طلبه، وهو شرط من الشروط التي يجب تحققها في المكره لتحقق الإكراه كما تقدم[77].
ولهذا نرى أن ما ذهب إليه الجمهور -وهو تحقق الإكراه بمجرد الوعيد فقط- هو الراجح. والله أعلم.
المبحث الثاني: الوسائل التي يحصل بها الإكراه
إذا نظرنا إلى الوسائل والأساليب التي يحصل بها الإكراه، نجد أنها كثيرة ومتنوعة، وبالتالي فلا يمكن حصرها، لكونها قابلة للابتكار والتجديد، وقد يظهر في عصر ما من العصور منها ما لم يكن موجودًا من قبل.
وإليك بيان أهم هذه الوسائل في كل مذهب على حدة، لاستنباط الضابط الجامع بينها لما يصلح أن يكون التهديد به إكراهًا.
أولًا: في المذهب الحنفي:
يتحقق الإكراه عند الحنفية بأمور ثلاثة:
الأمر الأول: بما يحصل به بالضرورة والخوف والإلجاء إلى الفعل؛ كالتهديد بالقتل أو إتلاف عضو ولو أنملة؛ لأن حرمته كحرمة النفس، وكذلك الضرب المبرح الذي يؤدي إلى تلف النفس، أو عضو من الأعضاء.
وهذا ما يسمى عندهم بالإكراه التام أو الملجئ، وهو الذي يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
الأمر الثاني: ما لا يحصل به، الاضطرار ولكن يحصل به الاغتمام البين؛ كالحبس المديد، والقيد الطويل والضرب الذي لا يخشى منه التلف.
وهذا ما يسمى عندهم بالإكراه الناقص، أو غير الملجئ، وهو الذي يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.
أما الضرب الهين وحبس يوم أو قيد يوم، فلا يعتبر إكراه إلا في حق صاحب الجاه والمروءة دون أراذل الناس، وذلك لمكانة صاحب الجاه، فيلحقه الاغتمام لأدنى حرج يصيبه مما يمس جاهه ومروءته.
الأمر الثالث: ما لا يحصل به الاضطرار ولا الاغتمام البين، ولكن يحصل به الهم والحزن؛ كالتهديد بحبس الوالدين، أو الابن أو الزوجة، أو كل ذي رحم محرم.
وهذا لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار.
والقياس: أنه ليس بإكراه؛ لأنه لا يلحق المكره ضرر بذلك، بل الضرر لاحق بغيره.
والاستحسان: أنه إكراه حيث يلحقه بحبسهم من الحزن والهم ما يلحق بحبس نفسه أو أكثر[78].
ثانيًا: المكره به عند الشافعية:
اختلف الشافعية فيما يتحقق به الإكراه، يقول السيوطي: يقول الرافعي: الذي مال إليه المعتبرون أن الإكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه القتل، وأما غيره ففيه سبعة أوجه:
الأول: لا يحصل إلا بالقتل.
الثاني: القتل، أو القطع، أو ضرب يخاف منه الهلاك.
الثالث: ما يسلب الاختيار ويجعله كالهارب من الأسد الذي يتخطى الشوك والنار ولا يبالي، فيخرج الحبس، والتخويف بالإيلام الشديد، فإنه ليس بإكراه.
الرابع: اشتراط عقوبة بدنية يتعلق بها قود، فيخرج عنه ما لا يتعلق ببدنه، كأخذ المال وقتل الوالد والولد والزوجة والضرب الخفيف، والحبس المؤبد، إلا أن يخوفه بحبس في قعر بئر يغلب منه الموت.
الخامس: اشتراط عقوبة شديدة تتعلق ببدنه؛ كالحبس الطويل، والقتل والقطع، والضرب الشديد، ويخرج منه ما خرج عن الوجه الرابع، ويخرج أيضًا التخويف بالاستخفاف بإلقاء العمامة والصفع، وما يخل بالجاه. أما التخويف بالنفي عن البلد، فإن كان فيه تفريق بينه وبين أهله، فكالحبس الدائم، وإلا فوجهان، أصحهما: إكراه؛ لأن مفارقة الوطن شديدة، ولهذا جعلت عقوبة للزاني.
السادس: أن يحصل بما ذكر، وبأخذ المال، أو إتلافه، والاستخفاف بالأماثل وإهانتهم، كالصفع بالملأ، وتسويد الوجه، وهذا اختيار جمهور العراقيين، وصححه الرافعي.
السابع: وهو اختيار النووي في الروضة: إنه يحصل بكل ما يؤثر العاقل الإقدام عليه، حذرًا مما هدد به، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، والأفعال المطلوبة والأمور المخوف بها، فقد يكون الشيء إكراهًا في شيء دون غيره، وفي حق شخص دون آخر.
فالإكراه على الطلاق يكون بالتخويف بالقتل، والقطع، والحبس الطويل، والضرب الكثير، والمتوسط لمن لا يحتمله بدنه ولم يعتده، وبتخويف ذي المروءة كالصفع في الملأ، وتسويد الوجه، ونحوه، وكذا بقتل الوالد وإن علا، والولد وإن سفل على الصحيح، لا سائر المحارم، وإتلاف المال على الأصح.
وإن كان الإكراه على القتل، فالتخويف بالحبس، وقتل الولد ليس إكراهًا.
وإن كان على إتلاف المال أو أكثره كالإكراه على بيع أو شراء أو إتلاف مال الأجنبي، فالتخويف بجميع ذلك إكراه.
قال النووي: وهذا الوجه أصح، لكن في بعض تفصيله المذكور نظر، والتهديد بالنفي عن البلد إكراه على الأصح؛ لأن مفارقة الوطن شديدة، ولهذا جعلت عقوبة للزاني.
وكذا تهديد المرأة بالزنا، والرجل باللواط[79].
ثالثًا: في المذهب المالكي:
يتحقق الإكراه عند المالكية بما يحصل به الخوف المؤلم: كالتهديد بالقتل، أو الضرب المؤلم قليلًا كان أو كثيرًا، أو السجن أو القيد الطويلين.
أما السجن أو القيد القليلين فإنهما لا يعدان إكراه إلا إذا كان المكره من ذوي القدر، بخلاف ما إذا كان من رعاع الناس، فلا يعد ذلك إكراهًا.
وأما الصفع على القفا، فإن كان كثيرًا فهو إكراه مطلقًا، سواء كان في الملأ أو في الخلاء لذي مروءة وغيره.
وأما الصفع القليل فليس بإكراه مطلقًا إن كان في الخلاء، وإن كان في الملأ فهو إكراه لذي المروءة لا لغيره.
والتهديد بقتل الولد يعتبر إكراهًا، وكذا التهديد بعقوبته إن كان بارًّا، والولد يشمل الذكر والأنثى وإن نزل.
وكذلك التهديد بقتل الوالد من أب أو أم فقط، أما غيرهما كالأخ والعم والخال، فإن التهديد بقتلهم لا يعتبر إكراهًا.
وأما التهديد بإتلاف المال، ففيه ثلاثة أقوال:
قيل: إكراه، وقيل: ليس بإكراه، وقيل: إن كثر فإكراه وإلا فلا.
الأول لمالك، والثاني لأصبغ، والثالث لابن الماجشون.
أما المتأخرون فمنهم من جعل الثالث تفسيرًا للأولين، وذلك كابن بشير ومن معه، وعليه فالمذهب على قول واحد، ومنهم كابن الحاجب من جعل الأقوال الثلاثة متقابلة إبقاء لها على ظاهرها[80]).
رابعا: في المذهب الحنبلي:
يتحقق الإكراه عند الحنابلة بما يستضر به ضررًا كثيرًا، كالقتل والضرب الشديد، والحبس والقيد الطويلين، وأخذ المال الكثير.
وأما الضرب اليسير، فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان من ذوي المروءات على وجه يكون إخراقًا بصاحبه وغضًّا له، وشهرة في حقه، فهو كالضرب الكثير في حق غيره.
وأما السب والشتم وأخذ المال اليسير، فليس بإكراه.
وأما التهديد بضرب الولد وحبسه ونحوهما، فهو إكراه على الصحيح من المذهب؛ لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله، وقيل: ليس بإكراه؛ لأن الضرر لاحق بغيره.
وكذلك ضرب الوالد ونحوه وحبسه، كضرب الولد.
وكذلك كل من يشق عليه تعذيبه مشقة عظيمة من والد الزوجة وصديق[81].
وبالنظر في هذه الوسائل التي وضعها العلماء لتحقق الإكراه نلاحظ ما يأتي:
أولًا: لم تتفق كلمة العلماء على تحديد ضابط معين «للمكره به».
فالحنفية قالوا إنه: ما يحصل به الاضطرار والإلجاء والخوف، أو يحصل به الاغتمام البين، أو الهم والحزن.
والشافعية قالوا: إنه ما يؤثر العاقل الإقدام عليه حذرًا مما هدد به على ما رجحه النووي.
والمالكية قالوا: إنه الخوف المؤلم.
والحنابلة قالوا: إنه ما يستضر به المكره ضررًا كثيرًا.
فهذه الوسائل وإن كانت مختلفة في ألفاظها، إلا أنها متقاربة في معناها، وإن جاء بعضها أعم وأدق من الآخر.
وعليه فإنه يمكن استخلاص ضابط من بينها للمكره به، وهو: «كل ما يجعل المكره مضطرًّا وخائفًا إن امتنع عن تنفيذ ما هدد به أن يصيبه ضرر كبير، أو مشقة عظيمة، تجعله يؤثر الإقدام على فعل ما أكره عليه طلبًا للنجاة والخلاص».
ثانيًا: إن تنوع وسائل الإكراه واختلافها من مذهب إلى آخر، وعدم إمكان حصرها في وسيلة واحدة يرجع إلى أمرين:
الأول: اختلاف حال المكره بين غنى وفقير، وبين أن يكون من ذوي الجاه والمروءة، وبين أن يكون من الأراذل والسوقية، وبين أن يكون قادرًا على تحمل المكره به من عدمه، إلى غير ذلك من الاختلافات التي تجعل وسيلة الإكراه تختلف من شخص لآخر.
الثاني: اختلاف المكره به بحسب اختلاف المكره، فإن الإكراه على القتل مثلًا يختلف عن الإكراه على الطلاق، ومن ثم فإن الأمر الذي يهدد به المكره المكره سيختلف، فإذا أكره على الطلاق بالتهديد بالصفع، أو الضرب اليسير، فإن العاقل يؤثر الصبر على الصفع أو الضرب اليسير، بخلاف ما إذا هدد بالقتل مثلًا، فإنه يضطر إلى إجراء لفظ الطلاق محافظة على النفس، ودفعًا للهلاك.
ثالثًا: يرجع اختلاف العلماء في تحديد ضابط «للمكره به» إلى عدم ورود نص صريح ومعين بذلك، ولكن يمكن من خلال بعض النصوص الواردة في الإكراه أن يفهم هذا المعنى:
من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه))[82]. فالحكم الأخروي للفعل الواقع إكراهًا في حقوق الله - تعالى -يعتبر عذرًا بالنسبة لسقوط الإثم في الآخرة؛ لأن العقوبة الأخروية تبنى على الإرادة والقصد، فيكون المقصود بالرفع هنا هو الإثم؛ لأن الإكراه إذا وقع لا يرتفع؛ لأن الواقع لا يرفع.
أما الحكم الدنيوي للإكراه فهو محل البحث.
ومن ذلك أيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق))[83]، أي: في إكراه، ومعنى الإغلاق: الإكراه؛ لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه، وتضيق عليه تصرفه، كأنه يغلق الباب ويحبسه، ويضيق عليه حتى يطلق[84].
ومن ذلك أيضًا بعض الآثار التي رويت عن الصحابة منها:
قول ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر، وابن الزبير، والشعبي، والحسن[85].
قول عمر - رضي الله عنه -: «ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن، أو أوثق، أو عذب»[86].
وقول ابن مسعود: «ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلمًا به»[87].
الفصل الخامس: أثر الإكراه في التصرفات
يقسم الأصوليون تصرفات المكره إلى قسمين:
1- تصرفات قولية.
2- تصرفات فعلية.
وسوف نوضح ذلك في مبحثين
المبحث الأول: أثر الإكراه في التصرفات القولية
تنقسم التصرفات القولية الصادرة عن المكره إلى قسمين:
القسم الأول: التصرفات القولية التي لا تحتمل الفسخ، ولا تتوقف على الرضا.
وذلك كالطلاق ونحوه من الأمور العشرة التي يجمعها قول القائل:
طلاق عتاق والنكاح ورجعة *** وعفو قصاص واليمين وكذا النذر
ظهار وإيلاء وفيء فهذه *** تصح مع الإكراه عدتها عشر
فهذه التصرفات لا تحتمل الفسخ، وتتوقف على الاختيار دون الرضا، ولهذا لو طلق، أو أعتق، أو تزوج بالإكراه وقع التصرف صحيحًا، ولا تأثير للإكراه فيه، سواء أكان الإكراه ملجئًا أم غير ملجئ.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
(أ) بالقياس على الهزل، وذلك أن هذه التصرفات تصح ولا تبطل مع الهزل، مع أنه يعدم الاختيار بالحكم، فلأن لا يبطل بما لا يعدم الاختيار -وهو الإكراه- أولى.
(ب) أن المكره قصد إيقاع التصرف في حال أهليته؛ لأنه عرف الشرين: الهلاك، والتصرف، واختار أهونهما، واختيار أهون الشرين دليل القصد والاختيار، إلا أنه غير راض بحكمه، فيقع تصرفه.
وهذا ما ذهب إليه الحنفية.
بينما ذهب الجمهور: إلى بطلان هذه التصرفات وعدم وقوعها.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه))[88].
فقد دل هذا الحديث على أن الإكراه جعل عذرًا في الشريعة.
2- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق))[89] أي: في إكراه.
3- بأن الإكراه يبطل القصد والاختيار، وصحة القول بالقصد والاختيار، ليكون القول باعتبار القصد ترجمة عما في الضمير ودليلًا عليه، فيبطل القول عند عدم القصد، ألا يرى أن الكلام لا يصح من النائم لعدم الاختيار، ولا من المجنون لعدم القصد الصحيح، فعرفنا أن صحة الكلام باعتبار كونه ترجمة عما في القلب، والإكراه دليل على أن المكره متكلم لدفع الشر عن نفسه، لا لبيان ما هو مراد قلبه.
4- أنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يثبت له حكم؛ ككلمة الكفر إذا أكره عليها.
وأما قياس الحنفية المكره على الهازل فهو قياس مع الفارق، فيكون غير صحيح، وذلك لأن الهازل ينطق بالصيغة وهو راغب في التكلم بها، ومختار اختيارًا صحيحًا، إلا أنه لا يريد ما يترتب عليها، وإنما يريد شيئًا آخر هو الاستهزاء واللعب، ومثل هذا يناسبه التغليظ والتشديد عليه، وذلك بجعل عبارته صحيحة، وعدم الاعتداد بهزله ولعبه.
أما المكره فليس له رغبة ولا اختيار صحيح في النطق بالصيغة، ولا يقصد من الإتيان بها استهزاء ولا لعبًا، وإنما يقصد دفع الأذى الذي هدد به عن نفسه، ومثل هذا يناسبه التخفيف وعدم التشديد، وذلك بإلغاء عبارته وعدم الاعتداد بها.
القسم الثاني: التصرفات القولية التي تحتمل الفسخ وتتوقف على الرضا.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]