عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-08-2021, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,755
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوعي النقدي وحدود التجديد في شعر علي أحمد باكثير

وفي هذا العام (1936م) أكمَلَ ترجمتَه لفصول مسرحيَّة شكسبير "روميو وجوليت"، وقد وصَف باكثير الظروفَ التي أحاطت بهذه الترجمة ووصفها بالمحاولة الجديدة[19]، مقارنة بترجمته السابقة لمشهد من مسرحيَّة شكسبير التي أشَرْنا إليها، وكانت هذه الترجمة فاتحةً للمعركة الأدبية والنقدية التي أُثِيرت لاحقًا حول البدايات الأولى (للشعر الحر) وفق التسمية التي شاعَتْ لاحقًا، ويمكن أنْ نعدَّ مقدمة ترجمته لـ"روميو وجوليت" أقدم وثيقة نقدية تقدم تنظيرًا واعيًا للأساس العروضي والإيقاعي لهذا الشعر، الذي اتَّضحت صورته في نهاية الأربعينيَّات وبداية الخمسينيَّات؛ إذ أورد في هذه المقدمة هذا الأساس موضحًا: "والنظم الذي تراه في هذا الكتاب هو مزيجٌ من النظم المرسل المنطلق والنظم الحر، فهو مُرسَل من القافية، وهو منطلقٌ لانسيابه بين السطور، فالبيت هنا ليس وحدةً، وإنما الوحدة هي الجملة التامَّة المعنى التي تستغرق بيتين أو ثلاثة أو أكثر دون أنْ يقف القارئ إلا عند نهايتها، وهو - أعني النظم - حر كذلك لعدم التزام عدد معيَّن من التفعيلات في البيت الواحد[20]، ويبدو أنَّ هذا الوعي النقدي لبنية الشعر الدرامي قد كان تتويجًا لتجاربه الشعريَّة بين عامي (1934-1936م)؛ إذ نلحظ - تأكيدًا لما سبقت الإشارة إليه - تحوُّلاً واضحًا في النسيج الفني لقصائده خلال هذه الأعوام من إقامته في مصر، ورافَق ذلك شيءٌ من التغيير في البناء والمعمار والصور والتراكيب، تدلُّ على ذلك قصائده: (الشاعر وسريره)، (بين الهدى والهوى)، (أغنية النيل حواء)، (غرور الفنان وعقابه)، التي نُشِرتْ على صفحات "الرسالة" في هذه السنوات من الثلاثينيَّات، إذا قارنَّا هذه القصائد بتلك التي كتَبَها قبل هجرته[21].

ونقتطع من قصيدته (أغنية النيل) هذا المقطع[22]:
وَالزَّوْرَقُ النَّاعِسْ
يَغْفُو عَلَى الْمَاءِ

كَالْبَائِسِ الْيَائِسْ
فِي وَسْطِ نَعْمَاءِ



يُرَتِّلُ الشِّعْرَ
مِجْدَافُهُ اللاَّغِبْ

يُشَيِّعُ العُمُرَ
وَيَنْدُبُ الصَّاحِبْ



يَجْرِي فَيَرْعَاهُ
فِي أَلَمٍ بَالِي

يُهِيجُ مَسْرَاهُ
ذِكْرُ الْهَوَى الْخَالِي



غَنَّى بِهِ الْمَلاَّحْ
أُغْنِيَّةَ الْحُبِّ

يُكَرِّرُ التَّصْدَاحْ
بِالنَّغَمِ العَذْبِ



يَمُدُّهَا: يَا لَيْلْ
يَا لَيْلِي يَا عَيْنِي

مُنَادِيًا بِالْوَيْلْ
مِنْ أَلَمِ البَيْنِ



ومن الدارسين مَن لاحَظَ في شِعره خِلال هذه السنوات صِراعًا حادًّا بين المحافظة والتجديد بالمعنى الفكري والفني، وربما كان كما يقول د. السومحي "ذا شخصيَّتين منفصلتين: شخصيَّة أدبيَّة محافظة، وشخصيَّة أدبيَّة مُتطلِّعة إلى التجديد، فكان ينشر شعره الوطني والإسلامي في مجلة "الفتح" و"المسلمون"، وينشر شعره المتجدِّد في موضوعاته وألفاظه والشعر الغزلي في مجلتي "أبولو" و"الرسالة"[23].

ولم يكن الشكل الإيقاعي الذي تَوصَّل إلى التنظير له إلا صورةً من صور تطلُّعه إلى التجديد، وهو يبحَث عن الشكل الملائم للدراما الشعريَّة وإيجادها في الأدب العربي الحديث، وكان هذا (الشعر المرسل) اكتشافًا يقدم البديل الإيقاعي الذي يتيح للقصيدة العربيَّة التطوُّر والنماء والاستجابة لحركة الحياة وتجدُّدها، لقد قادَت المحاولة الأولى لترجمة بعض أعمال شكسبير إلى الدخول في تجربة التأليف المسرحي الشعري، فكتب مسرحيَّته "أخناتون ونفرتيتي" 1938م، وقد كان تأليفها على وفق مفهومه الذي قدَّمَه بين يدي ترجمته "روميو وجولييت"، مستخدمًا في تجربته هذه تفعيلة بحر (المتدارك) فقط في المسرحية كلها، بخلاف ما استخدمه في ترجمته من الجمع بين عدَّة أبحر وفقًا لما يتطلَّبه كلُّ موقف، وكانت نتيجة تجربته في التأليف مريرة؛ إذ لم تلقَ الاستجابة التي كان يحلم بها، وهذا ما جعَلَه يصرف النظر عن التفكير في التأليف المسرحي على النمط الشكسبيري وجعلَتْه تجاربه يقطع بأنَّ "النثر هو الأداة المُثلَى للمسرحيَّة... وأنَّ الشعر لا ينبغي أنْ يُكتَب به غير المسرحيَّة الغنائيَّة التي يُراد لها أنْ تُلحَّن وتُغنَّي؛ أي: (الأوبرا)[24] لكن (باكثير) حين يعرض لجماليَّة الشعر والنثر، وتوظيفهما في الدراما يلتَفِت إلى مسألةٍ أعمق ربما التفت إليها الشعراء اللاحقون في سِياق التمييز بين التعبير الشعري والتعبير النثري عن الموضوع الدرامي الواحد، ويتمثَّل ذلك في أنَّ الشعر في المسرح قد "يمنَحُه قوَّة في التعبير لا يمنحها له الكلام المنثور"[25].

كما أنَّه قد أدرك أيضًا اضطراب مفهوم (المرسل) في التجارب التي سبقَتْه، وكان هذا الاضطراب أو سوء الفهم هو ما اتَّضح في تجارب شكري والزهاوي بين عامي (1905م-1909م) قبل ذلك[26]؛ إذ جاءت قصائدهم التي أطلقوا عليها تسمية (الشعر المرسل) أقرَب إلى رُوح القصيدة البيتيَّة، في حين أدرك باكثير أهميَّة التعليق أو التضمين الذي أشار إليه العروضيُّون؛ لأنَّ تسميته لهذا الشكل الشعري قد حددت بقوله: (المرسل المنطلق) Running Blank verse، وقد أوضحه بقوله: "وهو منطلقٌ لانسيابه بين السطور"، وهذه الخاصيَّة هي التي جعَلتْ وحدة القصيدة تتمثَّل في الجملة بدلاً من البيت، ويمكن أنَّ نلتَقِط مَدَى استِيعاب الشاعر لذلك من خِلال هذا المقطع الذي أورَدَه على لسان (بنفوليو) صديق روميو[27]:
تُطْفَأُ النَّارُ بِنَارِ ويسرس
ألم وقع سواءه، وَالأَسَى يَمْحُو الأَسَى
مَنْ يَدُرْ يَشْكُ دُوَارًا فَإِذَا ما
دارَ عَكْسَ الدَّوْرَةِ الأُولَى صَحَا
خُذْ بعَيْنَيْك سمامًا رُبَّمَا يَقضِي على السمِّ القَدِيم

وقد لفت استيعاب باكثير لتدفُّق المعنى نظَر بعض الدارسين الذين رأوا أنَّ عدم انتِظام عدد التفعيلات واطِّراد التضمين وجعل الفقرة وليس البيت أساس وحدة المعنى يبين أنَّ باكثير "استطاع أنْ يخطو بالشعر المرسل خُطوة ثوريَّة إلى الأمام، وذلك بتطويره إلى الشعر غير المنتظم (Verse Irregler)، وهي الطريقة التي واصَل استخدامها الشعراء الشبَّان الذين بدَؤُوا الكتابة في خواتيم الأربعينيَّات"[28].

ولأنَّ هذه التجربة كانت فاتحةً لحركة شعريَّة أوسع فقد استفاض كثير من الدارسين في تناولها، خاصَّة حين يتعلَّق الأمر بالرِّيادة " [29].

أمَّا خارج إطار التأليف المسرحي شعرًا الذي حسَم باكثير أمره بعد أنِ اتَّجه إلى النثر، فنجدُ باكثير يستَلهِم تجربته في الشعر المرسل كما قدَّمه لتوظيفها في الشعر الغنائي، ولماذا لا يتَّجه إلى ذلك وقد أحسَّ بنُشوء التجربة وجسارتها، وربما حاول أنْ يُؤسِّس له تاريخًا في تطوير القصيدة العربيَّة من خِلال إثراء بنيتها الموسيقيَّة، بعد أنْ خذلته تجربة المسرحيَّة الشعريَّة وإحساسه بالمرارة لضعْف الاستقبال عند نشره لـ"أخناتون ونفرتيتي" كما يذكر، وكان مصطلح الشعر الحر قد شاعَ مع تجارب أبي شادي خاصَّة في ديوانه "الشفق الباكي" 1926م، ومع انتشار حركة الترجمة الأدبيَّة وشيوع التأثير الأوربي في الأدب العربي في الربع الأول من القرن العشرين، وفي هذا الإطار ينشر باكثير قصيدة بعنوان (نموذج من الشعر المرسل الحر) ومنها نقدم المقطع الآتي[30]:
عَجَبًا كَيْفَ لَمْ تَعْصفْ بِالدُّنَى زَلزَلة
كَيْفَ لَمْ تهوِ فَوْقَ الثَّرَى شُهُبٌ مُرسَلة
يَا لَهَا مَهْزَلَة
يَا لَهَا سَوْءَة مُخجِلة
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]