
12-07-2021, 02:06 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,755
الدولة :
|
|
كفايات المدرس بين التراث الإسلامي والمتطلبات المعاصرة
كفايات المدرس بين التراث الإسلامي والمتطلبات المعاصرة
د. مولاي المصطفى البرجاوي
المدرس والسيرورة التربوية
كفايات المدرس بين التراث الإسلامي والمتطلبات المعاصرة
على الرغمِ من أن لكلِّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ فكرَه التربويَّ الخاصَّ به، وأن ما يَصلُح لمجتمعٍ لا يَصلُح لآخرَ، فإن المتفحِّص لمناهجِنا التربويةِ في العالَمِ العربِيِّ يَجِدُها - في كثيرٍ من جوانبِها - متأثرةً بالفكر الغربي[1]، سواء على مستوى التوجهاتِ التربويةِ، أو على مستوى المواضيعِ والمضامينِ...؛ مما يَطرح أكثرَ من تساؤلٍ: كيف يمكن لأمةٍ أن تتقدَّم، ولا زالت عالةً على غيرِها حتى في نُظُمها التربوية؟ أم أن المغلوبَ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ على حدِّ تعبير المؤرِّخ المغربِيِّ الكبير ابن خلدون؟...
يُمثِّل الفكرُ التربويُّ الإطارَ النظريَّ لما يَحتَاجُه المجتمعُ في بناءِ نظامِه وبرامجِه التربويةِ، ووضع أسسِها وقواعدِها، بل أكثر من هذا إلى أن النموَّ الحضاري والنموَّ الفكري يسيرانِ جنبًا إلى جنبٍ، وما الفكرُ التربويُّ إلا نتاجُ حضارةٍ عريضةٍ، امتدَّت على مدار أربعةَ عشرَ قرنًا من الزمانِ، وقد استمدَّ قوَّته وحيويتَه من الدينِ، واستطاع الفكرُ التربويُّ الإسلاميُّ أن ينتجَ الإنسانَ الصالِحَ القادرَ على التكيُّف مع واقعِه[2].
* مصطلحات الدراسة:
• معنى التربيةِ لغةً واصطلاحًا:
لغةً: جاء في لسان العرب لابن منظور: "رَبَا يَربُو، بمعنى: زَادَ ونَمَا"، وفي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]؛ أي: نَمَت وَازْدَادَت، ورَبَّاه بمعنى: أنشأه، ونَمَّى قواه الجسديةَ والعقليةَ والخلقيةَ، والتربيةُ - بمعناها الواسع - تَعنِي: كلَّ عمليةٍ تُسَاعِد على تشكيلِ عقلِ الفردِ وجسمِه وخلقِه، باستثناءِ ما قد يتدخَّلُ فيه من عملياتٍ تكوينيةٍ أو وراثيةٍ، وبمعناها الضيِّق تَعنِي: غرسَ المعلوماتِ والمهاراتِ المَعْرِفيَّة من خلال مؤسَّسات أنشِئت لهذا الغرضِ كالمدارس، كذلك فإن تعريفَ التربية يَختَلِف باختلافِ وجهاتِ النظر، ويتعدَّد حسب الجوانبِ والمجالاتِ المؤثِّرة فيها، والمتأثِّرة بها.
واصطلاحًا: فالتربيةُ عمومًا تُعتَبَر عمليةً شاملةً، تتناولُ الإنسانَ من جميعِ جوانبِه: النفسيةِ، والعقليةِ، والعاطفيةِ، والشخصيةِ، والسلوكيةِ، وطريقةِ تفكيرِه وأسلوبِه في الحياة، وتعاملِه مع الآخرين، كذلك تناوله في البيتِ والمدرسةِ وفي كلِّ مكانٍ يكونُ فيه، وللتربيةِ مفاهيمُ فرديةٌ، واجتماعيةٌ، ومثاليةٌ[3].
• مفهوم "البيداغوجيا":
لقد وَرَد مصطلح "البيداغوجيا" في معجم علوم التربية بأنها لفظٌ عامٌّ يَنطَبِق على كلِّ ما له ارتباطٌ بالعَلاقةِ القائمةِ بين المدرِّس والتلميذِ؛ بغرضِ تعليمِ أو تربيةِ الطفلِ أو الراشدِ، وبالانطلاقِ من مستوياتٍ مختلفةٍ[4].
• الفكر التربوي.. إشكالية المصطلح:
ونظرًا لإشكالية المصطلحِ من زواياه المختلفة، أحببتُ - دفعًا لكلِّ لَبْسٍ - عرض هذا التعريف، فهو: عبارةٌ عن جزءٍ من فكرٍ إنسانِيٍّ مبدعٍ، يتَّسم بالديناميكيةِ، والتطورِ المستمرِّ في مَيدانِ التربيةِ، ويَستَندُ إلى تاريخِ المجتمعِ، وفلسفتِه، وثقافتِه، وصفاتِه، وحاجاتِه[5].
• تعريف الكفايات في مجالِ الثقافة العربية الإسلامية:
في هذا السياقِ أقتصرُ فقط على تعريفِ العلامة ابن خلدون:
يقول عبدالرحمن بن خلدون: "الحذقُ في التعليمِ، والتفنُّن فيه، والاستيلاء عليه - إنما هو بحصولِ مَلَكةٍ في الإحاطة بمبادئه، وقواعدِه، والوقوفِ على مسائله، واستنباطِ فروعِه من أصولِه، وما لم تَحصُل هذه المَلَكة لم يكن الحذقُ في ذلك الفنِّ المتناوَلِ حاصلاً، وهذه المَلَكة هي في غيرِ الفهمِ والوعي؛ ولأنا نجدُ فهمَ المسألةِ الواحدةِ من الفنِّ الواحدِ ووعيها مشتركًا بين مَن شَدَا في ذلك الفنِّ... والمَلَكة إنما هي للعالِمِ أو الشادِي في الفنونِ دون من سواهما".
• كفايات المدرِّس في الفكرِ التربويِّ الإسلاميِّ:
كثيرًا ما يتمُّ الحديث وفقَ المقارباتِ "البيداغوجية" عمَّا يسمَّى بالمثلَّث الديداكتيكي: المدرِّس، والمتعلِّم، والكتابِ المدرسيِّ، كمنظومةٍ متكاملةٍ لإنجاحِ التعليم، فالتلميذُ يعدُّ قطبَ العمليةِ التربويةِ ومحورَها والتعليمية خاصَّة، فهو الذي يتلقَّى المعلوماتِ والمعارفَ ويتعلَّمها، أما المدرِّس - الذي حَرَصت أطرافٌ متعدِّدة حاليًّا على تشويهِ سمعتِه؛ تنكيثًا وإعلاميًّا - بطبعِه قيادةٌ فكريةٌ، فهو بحكمِ عملِه، ومهنتِه، وتخصصِه، واتصالاتِه، وعلاقاتِه - قائدٌ بالطبيعة أو مستعدٌّ للقيادةِ بالطبيعةِ...؛ لأن رسالتَه لا تَقِف عند حدِّ العلم وتعليمِه، وإنما هي تتعدَّاهما إلى غيرِهما، كالقيادةِ"[6].
لكن في هذه المنطقةِ البحثيةِ سأركِّزُ على كفاياتِ المدرِّس في الفكرِ التربوي الإسلامي.
وحسبُنا أن "شوقي" لم يبالِغ كثيرًا حينما قال: كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا.
لإدراكِه التامِّ لحقيقةِ الرسالةِ الإنسانيةِ المقدَّسة الملقاةِ على عاتقِه، والمكانةِ الاجتماعيةِ التي حَظِي بها كمصلحٍ ومرشدٍ ومؤتَمَنٍ على فلذاتِ الأكبادِ، خاصَّةً أن المرحلة العمرية للمتعلِّم في طفولته تمثِّل الأفقَ الأرحبَ للتفتُّحِ على المستقبلِ بوعيٍ متَّقدٍ لقول ابنِ خلدون: "إن التعليمَ في الصغرِ أشدُّ رسوخًا وهو أصلٌ لما بعده"[7].
إن نجاحَ هذه الرسالةِ مرهونٌ بقدرةِ المعلِّم على غرس التربيةِ الأخلاقيةِ والثقافيةِ والعلميةِ في نفوسِ الناشئة.
إذًا ما الكفاياتُ اللازمةُ لغرسِ هذه التربية بكل ضروبِها؟
تنقسِم كفاياتُ المدرِّس- حسب ما جاء في التراث الإسلامي - إلى كفاياتٍ متعدِّدة، لكن أقف في هذه الورقةِ عند الكفاياتِ الأخلاقيةِ، والعلميةِ، والمِهْنِية.
1- الكفايات الأخلاقية: ومن الكفاياتِ الأخلاقية التي يجب توفُّرها في المعلِّم المسلم:
أ- الإخلاصُ في العملِ: إن إتقانَ العملِ لا يكونُ إلا بالإخلاصِ والتقوى.
وشعورُ المعلِّم بأن ما يقومُ به هو رسالةٌ ساميةٌ يستحقُّ عليها الأجرَ والثوابَ من الله - تعالى - يدفعُه للعملِ بفاعليةٍ وكفاءةٍ وإتقانٍ؛ امتثالاً لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يُحِبُّ إذا عَمِل أحدُكم عملاً أن يتقنَه)).
ب- القدوة:
يظلُّ هذا العنصرُ من أهمِّ ركائزِ التربية في بُعدِها الإسلامي؛ فالمعلِّم لا بدَّ أن يمثِّل النموذجَ المحتذى والمقتدى خُلُقًا، وعلمًا، وتعليمًا، ففي القرآنِ الكريمِ حرصٌ شديدٌ على تبنِّي هذه القيم، دون الإخلالِ بها، وقد قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2]، وللهِ دَرُّ الشاعرِ، إذ يقولُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ 
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ 
لذلك فالإسلامُ يحثُّ على أعظمِ الوسائلِ نجاحًا في التربية وأجداها في توصيلِ المبادئِ والقيمِ، وهي القدوة... وهذا نَلمَسُه في منظومة حياتِنا، فلو سألت أحدَ المتعلِّمين عمن تريدُ أن تكونَه في المستقبلِ، لردَّ عليك إما يريد أن يكونَ أستاذًا، أو طبيبًا، أو مهندسًا؛ وذلك تبعًا للقدوة طبعًا.
ج- حبُّ المتعلِّمين، وحسنُ التعامُلِ معهم:
بحكم تعاملِ المدرِّس اليومي مع متعلِّميه كان لزامًا عليه أن يكونَ قريبًا منهم، وأن يتفهَّم عصرَهم وعقليتَهم، كما قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: "علِّموا أطفالَكم لزمانِهم؛ فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غيرِ زمانِكم"، كما أن حبيبَنا - صلى الله عليه وسلم - كان القدوةَ والمثالَ في التعليمِ والتعلُّم، في التعاملِ الرائعِ والرقراقِ مع الأطفالِ، قبل أن تظهرَ النظرياتُ الغربيةُ التي تحاولُ فهمَ شخصيةِ المتعلِّم السيكولوجية والنمائية (بياجي...)، فقد رَوَى البخاري عن أبي هريرة أنه قال: "قبَّل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بنَ عليٍّ، وعنده الأقرع بن حابسٍ التميميُّ جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولدِ ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((مَن لا يَرحَم لا يُرحَم))، وفي حديثٍ آخرَ: ((ليس منَّا مَن لم يَرحَم صغيرَنا، ويَعرِف حقَّ كبيرِنا))، رواه أبو داود والترمذي، فالمدرِّس يجب أن يكونَ رحيمًا بتلاميذِه، فذلك أدعى أن يكونَ مَحبوبًا ومتفاعلاً مع تلاميذه، بل يُقبِلون على تعلُّم ما يَدرُسه لهم.
2- الكفاياتُ العلمية:
ويعني ذلك أن يكون المعلِّم مثقفًا ثقافةً عامَّة بحكمِ كونِه مربيًا.
وثقافةُ المعلِّم عاملٌ مؤثِّر في نضوجِ شخصيتِه، واتساعِ أفقهِ، وسَعةِ مداركِه، حتى ينجحَ في مهمتِه التربويةِ والاجتماعيةِ مع الأبناء والآباء والزملاء، وأهمُّ ثقافةٍ يجبُ أن يلمَّ بها المعلِّم إلمامًا جيدًا هي الثقافة النفسيةُ للأطفالِ ومَن يعلِّمهم، كذلك العلمُ بمواهبِهم واستعداداتِهم وقدراتِهم الذهنية، كذلك معرفةُ قدرٍ من العلوم الإنسانية كالتاريخِ، والاجتماعِ، والاقتصادِ، والسياسةِ، والأدبِ، إضافة إلى إجادةِ اللغة العربيةِ، والتحدُّثِ بها للتلاميذ[8].
كما شدَّدت كتبُ التراثِ الإسلامي فيما يخصُّ الكفاءةَ العلمية؛ أن يكون المعلِّمُ غزيرَ المادَّة العلمية، يَعرِفُ ما يعلِّمه أتمَّ معرفةٍ وأعمقَها، وعلى المعلِّم ألا ينقطعَ عن التعليمِ، وأن يداومَ على البحثِ، والدراسةِ، وتحصيلِ المعرفةِ، دوامَ الحرصِ على الازديادِ، بملازمةِ الجدِّ، والاجتهادِ، والاشتغالِ قراءةً، وإقراءً، ومطالعةً، وتعليقًا، وحفظًا، وتصنيفًا، وبَحثًا، ولا يُضيِّع شيئًا من أوقات عمرِه في غير ما هو بصدده من العلم إلا بقدر الضرورةِ.
فالمعلِّم إذا شاء أن ينجحَ في تعليمِه، فلا مفرَّ له من أن يُقبِلَ على الاستزادةِ من العلمِ بمادَّتِه وتخصصِه، ولتكن همتُه في طلبِ العلمِ عاليةً، وعليه أن يبادِر أوقاتَ عمرِه إلى التحصيلِ، ولا يغترَّ بخدعِ التسويفِ والتأمل.
3- الكفاءة المهنية:
ويقصدُ بها مهارات التدريسِ التي يَجِب توافرها في المعلِّم؛ لكي يَستَطِيع أن يؤدِّي عملَه على أكمل وجهٍ؛ لتحقيقِ أهدافه التربوية، ومن هذه المهارات:
(أ) استثارةُ الدافعيةِ عند التلاميذ ووجودها عنده؛ فالمفكِّرون التربويونَ يَنصَحُون المعلِّم بأن يُثِير دافعيةَ المتعلِّم، وأن يرغبَه في العلمِ في أكثر الأوقاتِ بذكرِ ما أعدَّ الله للعلماءِ: من منازلِ الكراماتِ، وأنهم ورثةُ الأنبياءِ، وعلى منابرَ من نورٍ يَغبِطهم الأنبياء والشهداء.
(ب) مراعاة الفروق المهنية:
أو ما يسمَّى حاليًّا "بالبيداغوجيا" الفارقية، فلا يَنبَغِي للمعلِّم أن يشركَ الطالبَ عالِيَ التحصيلِ مع متدنِّي التحصيل؛ وذلك لاختلافِ قدرةِ كلٍّ منهما، ففي ذلك عدمُ إنصافٍ، ويؤكِّد الغزالي بقولِه: "ضرورة مخاطبتهم على قدر عقولهم".
(ج) طريقة التدريس:
حيث أشار المفكِّرون إلى أهميةِ طريقةِ التدريسِ للمعلِّم بألاَّ ينقلَهم من علمٍ إلى علمٍ حتى يُحكِمُوه، فإن ازدحامَ الكلام في القلبِ مَشغَلةٌ للفهمِ، طبقًا للقاعدة التي تقول: "الاستيعابُ شرطٌ للتجاوزِ".
ومن طرقِ التعليمِ التي استخدمها المعلِّمون المسلمون - أمثال ابن سينا - هو التعليمُ التعاوني، فيقول: "إن الصبي عن الصبي أَلقَنُ، وهو عنه آخَذ به، وآنَس... ".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|