شمول وصف الآيات لكثير من أفراد النصارى
بهذا عرفنا فيمن نزلت هذه الآية، وهي أيضاً عامة، فكم من قسس ورهبان لما وصلتهم دعوة الرحمن على أيدي أصحاب رسول الله وأحفادهم بكوا ودخلوا في الإسلام وانتظموا في سلك المؤمنين، مئات الآلاف، وإلى الآن لولا السياسة المنتنة واللعبة اليهودية لما ترددوا في قبول دعوة الله لو عرضت عليهم كما هي، فاليهود هم الذين فعلوا ما فعلوا، وما زالوا يعملون على تحقيق أملهم في إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تحكم الناس من الشرق إلى الغرب، ولكن عندنا تعاليم وأخبار نبوية صادقة، واسمعوها بالحرف الواحد: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم ) أي: تقتلونهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، ولا عجب أن تنطق الأشجار والأحجار؛ إذ هي آيات النبوة المحمدية، والزمان قريب، ولا نقول: مع المهدي ولا مع عيسى، والله! ما هي إلا أن نسلم في صدق لله قلوبنا ووجوهنا، في يوم واحد والزمان متقارب والبلاد واحدة، ما هي إلا أن يجتمع المسلمون في روضة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلن عن وحدتهم وإقامة دين الله بينهم، ثم يزحفون، فيقتلون اليهود حتى ما يبقوا منهم أحداً إلا من هرب وشرد. واليهود يعرفون هذا أكثر مما يعرفه مدرسكم فضلاً عنكم، فلهذا يعملون على نشر الخبث والظلم والشر والفساد والسحر والباطل وحب الدنيا والشهوات والأطماع؛ حتى لا توجد الفئة المؤمنة التي ينطق لها الشجر والحجر كرامة لها، وليس هذا فقط في بلاد المسلمين، بل في العالم بأسره ما يريدون الطهر ولا الصفاء، ولعلكم تسمعون عن أندية اللواط في أوروبا، من أنشأها؟ والبنوك والربا من أنتجه وأخرجه إلى حيز الوجود؟ وقل ما شئت، لا يريدون الطهر ولا الصفاء؛ لأن الطهر والصفاء ينهي وجودهم، وخاصة بين المسلمين.
فاسمع ما يقول أولئك النصارى: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ )[المائدة:84]، من هم القوم الصالحون؟ الذين أدوا حقوق الله كاملة فعبدوه بما شرع وحده لا شريك له، وأدوا حقوق عباده فلم يظلموا أحداً، لا بإفساد عقيدته ولا بطمس النور من قلبه بتكفيره ولا بسحره، ولا بظلمه بأخذ حقه أو انتهاك حرماته، هؤلاء هم الصالحون، ونحن إن شاء الله منهم، وفي آية الأنبياء قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ )[الأنبياء:105].
تفسير قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ...)
ثم قال تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا )[المائدة:85]، أي: جزاهم بما قالوا ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:85]، عجب هذا الكلام! ( وَذَلِكَ )[المائدة:85]، أي: الجنة دار النعيم جزاء من؟ هل جزاء المسيئين المفسدين، أم المحسنين؟ جزاء المحسنين. من هم المحسنون؟ المحسنون -يا أهل الإحسان- هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، ففعلت فيهم تلك العبادة فعلها، أحالت نفوسهم وقلوبهم إلى نور وطهر وصفاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو يسأله عن الإحسان: ( فأخبرني؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه )، فإن عجزت عن هذه المرتبة فانزل إلى التي تحتها فاعبده وأنت تعلم أن الله يراك، والذي يرزق هذه المراقبة لله ويصبح لا يقول ولا يفعل إلا تحت رقابة الله هل مثل هذا يسيء؟ والله ما يسيء، هذا الذي دائماً مع الله إن قال لا يقول حتى يعرف هل الله أذن له أو لم يأذن في القول، لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يأخذ إلا تحت رقابة الله إن أذن الله في العطاء أعطى، وإن لم يؤذن له ما أعطى، إن أذن له في الكلام تكلم وإن لم يأذن سكت، هذا هو الإحسان وهو ثلث ملة الإسلام، الإسلام مركب من الإيمان والإسلام والإحسان، الدين الإسلامي مركب أو مكون من ثلاثة:
أولاً: الإيمان.
ثانياً: الإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله.
ثالثاً: الإحسان.
وقد قال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )، يقيناً كاملاً جازماً، وقبل ذلك سأله عن الإسلام فقال: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وبعد ذلك سأله عن الإحسان فقال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي يعبد الله في الصلاة، في الوضوء، في الجهاد، في الكلام، في كل العبادات كأنه يرى الله هل يمكن أن يخطئ، أو يزيد وينقص أو يقدم أو يؤخر؟ الجواب: لا، فإن عجز عن هذه المرتبة السامية فهو يعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، فكذلك لا يمكن أن يسيء في عبادته.
عرف هذا إخواننا القسس والرهبان المؤمنون فقالوا: ( وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:84-85]، اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)
ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:86] أولاً، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[المائدة:86] الحاوية لشرائعنا وهداياتنا وتعاليمنا فلم يعملوا بها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86]، الجحيم: النار الملتهبة المتقدة، التي لا يقدر اتقادها، مأخوذة من: جحمت في النار إذا اشتعلت واشتد اشتعالها، ( أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[المائدة:86] في العالم السفلي، نعوذ بالله من النار ومن الجحيم.الآن نسمعكم تلاوة الآيات فتأملوا: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:82-86] عياذاً بالله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
هذه الآيات بعد شرحها كما شرحنا نقول: فيها هداياتها، فانظروا كيف نجد الهدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين ] إذ هم المؤمنون.
[ ثانياً: قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين ]، أما الذين تحولوا إلى ماديين وبلاشفة وشيوعيون واستعماريين يريدون المال والسلطة؛ فهؤلاء انتهوا لا إحسان فيهم ولا رحمة في قلوبهم، كما هو الوقع.
[ ثالثاً: فضيلة التواضع، وقبح الكبر ]، لقوله تعالى: ( وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ )[المائدة:82].
[ رابعاً: فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها ]، لقولهم: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:83]، ومن هم الشاهدون؟ إنهم المؤمنون الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويطيعون الله ورسوله.
[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، أما قال تعالى من آخر سورة الحديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )[الحديد:28]، (كِفْلَيْنِ) أي: أجرين: أجر بإيمانهم بعيسى وموسى، وأجر بإيمانهم بمحمد وطاعته، ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الحديد:28]، ففرق بين مسيحي كان يعبد الله بالمسيحية فآمن فله أجران، ومن كان كافراً مشركاً ودخل في الإسلام فله أجر واحد.
[ خامساً: فضل الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه ]، بشرط أن يسلم قلبه ووجهه لله، ويحسن إسلامه فما يبقى لصاً ولا ماجناً.
[ سادساً: بيان مصير الكافرين والمكذبين، وهو خلودهم في نار الجحيم ] أبداً، خلود في نار جهنم.
[ سابعاً: استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد ]، ذكر الوعيد بعد ذلك الوعد العظيم، فقال: ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ([المائدة:86]، وهذا من أجل هداية الخلق، يرغب ويرهب، هذا الذي يريد الخير لك يرغبك في الخير ويخوفك من الشر، أما أن يرغبك في الخير فقط ولا يهددك بالشر فستبقى في شرك.
تذكير بطريق العودة إلى الله تعالى
معاشر المستمعين! يا أبناء الإسلام! أكرر القول: هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا قبل أن تفوت الفرصة، وهي تفوت يوماً بعد يوم، ما من يوم إلا ومات فلان وانقطع عمله، هيا نسلم قلوبنا لله فلا تتقلب قلوبنا إلا في طلب الله، ونسلم وجوهنا لله فلا ننظر إلا إلى الله، وهذا يتطلب منا أن نرجع إلى الطريق، فنجتمع في بيوت ربنا في مدننا وقرانا في صدق كاجتماعنا هذا، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وبنسائنا وأطفالنا أيضاً نجتمع في صدق نتعلم الكتاب والحكمة، ولنستمع إلى قول الله وهو يمتن علينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، دقت الساعة السادسة فوقف العمل، توضأنا وتطهرنا، وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى أين؟ هل إلى دور السينما، إلى المراقص والمقاصف كما يفعل الهابطون اللاصقون بالأرض؟ لا، وإنما نحملهم إلى بيوت الرب، وهل للرب من بيوت؟ إي والله إنها المساجد، ونوسعها حتى تتسع لأفرادنا ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، نصلي المغرب كما صلينا ونجتمع ويكون نساؤنا وراء ستار، والأطفال كالملائكة صفوفاً ننظمهم قبل أن نأخذ في تعلم الكتاب والحكمة، ويجلس لنا عالم رباني لا يقول: قال الشيخ ولا قال إمامنا ولا قال مذهبنا، وإنما قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلم الكتاب القرآن، والسنة، وقد حفظها الله فجمعت في الصحاح والسنن والمسانيد، وليلة آية من كتاب الله نتغنى بها ربع ساعة بنسائنا وأطفالنا ونحفظها، آية فقط، ونصلي بها النوافل فلا ننساها ونعرف مراد الله منها ماذا يريد من هذه الآية، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلن تحل إلى القبر، وإن كان واجباً عرفناه ومن ثم نعزم على فعله والنهوض به كيفما كانت حياتنا، وإذا كان محرماً مكروهاً لله مبغوضاً له تركناه وتخلينا عنه، إن كان خاتماً في أصبعي رميته كما رماه الصحابي، وإن كانت علبة سجائر دستها عند الباب، ونصدق في إقبالنا على ربنا عز وجل، والليلة الثانية نأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله المبينة لكتاب الله، الشارحة والمفسرة لمراد الله من كلامه، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، ونحن ننمو في صفاء أرواحنا وزكاة أنفسنا وآدابنا وأخلاقنا، والله الذي لا إله غيره! لن تمضي سنة على أهل الحي أو القرية إلا وهم ككوكب في هذه الدنيا، لم يبق خلاف ولا فرقة ولا نزاع ولا شقاق، لم يبق سوء في مظاهر حياتنا، لا خيانة، لا غش، لا كذب، لا خداع، لا زنا، لا فجور، لا ربا؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ فهل الكتاب والحكمة لا يزكيان النفوس؟ مستحيل، وينتهي الفقر والبؤس، ونصبح ككواكب في السماء، ويأتي الناس ويؤمنون بديننا ويدخلون في رحمة ربنا.هل هناك -يا شيخ- حل غير هذا؟ والله لا وجود له، ما هو إلا الكتاب والسنة، نتلقاها بصفاء الروح وصدق النية، وكلنا راغب في أن يسمو ويعلو في الملكوت الأعلى، فهيا نجرب، فالذين يحضرون هذا المجلس هل يوجد بينهم زان، سارق، كاذب، غاش، خادع، لوطي، سباب، شتام؟ لا يوجد، لأنهم تعلموا وعرفوا.
والله تعالى أسأل أن يمدنا بعونه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.