عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 06-07-2021, 02:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (13)
صـ195 إلى صـ 217

فصل

وأما كون المباح غير مطلوب الفعل ; فيدل عليه كثير مما تقدم ; لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء .

[ ص: 195 ] وقد استدل من قال : إنه مطلوب ، بأن كل مباح ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، فكل مباح واجب . . . ، إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه ، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح - مع قطع النظر عما يستلزم - مستوي الطرفين ، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح ; لوجوه : أحدها : لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة ; فلا [ ص: 196 ] يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا ، وهذا باطل باتفاق ; فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة ، كما تحكم عليها بسائر الأحكام ، وإن استلزمت ترك الحرام ; فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم ؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح .

والثاني : أنه لو كان كما قال ؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة ، وذلك باطل على مذهبه ، ومذهب غيره .

بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين ، كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا ; لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف ، وقد فرضناه واجبا ، فليس بمباح ، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا ; إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف .

والثالث : أنه لو كان كما قال ; لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية ; لاستلزامها ترك الحرام ، فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة ، وتصير واجبة .

فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه ; فهو باطل ; لأنه يعتبر جهة الاستلزام ، [ فلذلك نفى المباح ، فليعتبر جهة الاستلزام ] في الأربعة الباقية فينفها ، وهو خلاف الإجماع والمعقول ; فإن اعتبر في الحرام والمكروه [ ص: 197 ] جهة النهي ، وفي المندوب جهة الأمر - كالواجب - لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح ; إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما .

فإن قال : يخرج المباح عن كونه [ مباحا ] بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه ، فذلك غير مسلم ، وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، والخلاف فيه معلوم ، فلا نسلم أنه واجب ، وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر ، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات ، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين ، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع .

فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ، ولا في تركه دون فعله ، بل قصده جعله لخيرة المكلف ، فما كان من المكلف من فعل أو ترك ، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه ; فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة ، أيهما فعل فهو قصد الشارع ، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه ، ولا في الترك بخصوصه .

لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد ، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص ، وإلى تركه على الخصوص .

فأما الأول فأشياء ، منها : الأمر بالتمتع بالطيبات ; كقوله [ ص: 198 ] تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا [ البقرة : 168 ] .

وقوله : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [ البقرة : 172 ] .

وقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] .

إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال .

وأيضا ; فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها ، وقررت عليهم - فهم منها القصد إلى التنعم بها ، لكن بقيد الشكر عليها .

ومنها : أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات ، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم ، فقال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا [ الأعراف : 32 ] أي : خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] لا تباعة فيها ولا إثم ; فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها .

- ومنها : أن هذه النعم هدايا من الله للعبد ، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد ، هذا غير لائق في محاسن العادات ، ولا في مجاري الشرع ، بل قصد المهدي أن تقبل هديته ، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه ; فليقبل ، ثم ليشكر له عليها .

[ ص: 199 ] وحديث ابن عمر ، وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة - ظاهر في هذا المعنى ، حيث قال عليه السلام : إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه : أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؛ ألم تغضب ؟ ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .

[ ص: 200 ] وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب ; كالفطر في السفر أو التحريم ، كما قاله طائفة في قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] إلى آخرها ، وإذا تعلقت المحبة بالمباح ; كان راجح الفعل .

فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه .

وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص - فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة ، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة ، كالطلاق السني ; فإنه جاء في الحديث ، وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق ، ولذلك لم [ ص: 201 ] يأت به صيغة أمر في القرآن ، ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم ، وإنما جاء مثل قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] .

فإن طلقها فلا تحل له من بعد [ البقرة : 230 ] .

يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] .

فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 1 ] .

[ ص: 202 ] ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة ، وجاء : كل لهو باطل إلا ثلاثة .

وكثير من أنواع اللهو مباح ، واللعب أيضا مباح ، وقد ذم .

فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر ، وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا [ ص: 203 ] وتركا على غير الجهات المتقدمة .

والجواب من وجهين :

أحدهما : إجمالي ، والآخر : تفصيلي .

فالإجمالي أن يقال : إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين ، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا ; إما لأنه ليس بمباح حقيقة ، وإن أطلق عليه لفظ المباح ، وإما لأنه مباح في أصله ، ثم صار غير مباح لأمر خارج ، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة .

وأما التفصيلي ; فإن المباح ضربان :

أحدهما : أن يكون خادما لأصل ضروري ، [ أو حاجي ] أو تكميلي .

والثاني : أن لا يكون كذلك .

فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له ; فيكون مطلوبا ، ومحبوبا فعله ، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها - مباح في نفسه ، وإباحته بالجزء ، وهو خادم لأصل ضروري ، وهو إقامة الحياة ; فهو [ ص: 204 ] مأمور به من هذه الجهة ، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب ; فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد ، لا من حيث هو جزئي معين .

والثاني : إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة ، أو لا يكون خادما لشيء ، كالطلاق ; فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود ، وهو ضروري ، ولإقامة مطلق الألفة ، والمعاشرة ، واشتباك العشائر بين الخلق ، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما ، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ، ونقضا عليه - كان مبغضا ، ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى ; كالشقاق ، وعدم إقامة حدود الله ، وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ، وفي هذا الزمان - مباح وحلال ، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا ، وقد تقدم ، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري - كالدين على الكافر ، والتقوى على العاصي - كان من تلك الجهة مذموما ، وكذلك اللهو ، واللعب ، والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ، ولا يلزم عنه محظور - فهو مباح ، ولكنه مذموم [ ص: 205 ] ولم يرضه العلماء ، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ، ولا في إصلاح معاد ; لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية .

وفي القرآن : ولا تمش في الأرض مرحا ; إذ يشير إلى هذا المعنى .

وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة ، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث ، ليس له فيه فائدة ، ولا ثمرة تجنى ، بخلاف اللعب مع الزوجة ; فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا ، وهو النسل ، وبخلاف تأديب الفرس ، وكذلك اللعب بالسهام ; فإنهما يخدمان أصلا تكميليا ، وهو الجهاد ، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل ، وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه .

[ ص: 206 ] وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه [ ها ] هنا ، وهي :
المسألة الثانية

فيقال : إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي ، فالمباح يكون مباحا بالجزء ، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ، ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع .

فهذه أربعة أقسام :

فالأول : كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب ، والمركب والملبس ، مما سوى الواجب من ذلك ، والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه في محاسن العادات ، كالإسراف ; فهو مباح بالجزء ، فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه ; لكان جائزا كما لو فعل ، فلو ترك جملة ; [ ص: 207 ] لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ، ففي الحديث : إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن ؟ ، وقوله : إن الله [ ص: 208 ] جميل يحب الجمال بعد قول الرجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ، وكثير من ذلك ، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها .

والثاني : كالأكل ، والشرب ، ووطء الزوجات ، والبيع والشراء ، ووجوه الاكتسابات الجائزة ; كقوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] .

أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] .

أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة : 1 ] .

وكثير من ذلك ، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء ; أي : إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها ; فذلك جائز ، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان ، [ ص: 209 ] أو تركها بعض الناس - لم يقدح ذلك ، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل .

والثالث : كالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، واللعب المباح بالحمام ، أو غيرها ؛ فمثل هذا مباح بالجزء ، فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما - فلا حرج فيه ; فإن فعل دائما كان مكروها ، ونسب فاعله إلى قلة العقل ، وإلى خلاف محاسن العادات ، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح .

والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها ، وإن كانت مباحة ; فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة ، وأجري صاحبها مجرى الفساق ، وإن لم يكن كذلك ; ، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا ، وقد قال الغزالي : " إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة ، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة " ، ومن هنا قيل : " لا صغيرة مع [ ص: 210 ] الإصرار .

[ ص: 211 ]
فصل

إذا كان الفعل مندوبا بالجزء ، كان واجبا بالكل ، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها ، وصلاة الجماعة ، وصلاة العيدين ، وصدقة التطوع ، والنكاح ، والوتر ، والفجر ، والعمرة ، وسائر النوافل الرواتب ; فإنها مندوب إليها بالجزء ، ولو فرض تركها جملة ; لجرح التارك لها ، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه ، وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح ، فلا تقبل شهادته ، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين ، وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة ، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم ، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح ; فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو [ ص: 212 ] مقصود للشارع ; من تكثير النسل ، وإبقاء النوع الإنساني ، وما أشبه ذلك ، فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما ، أما إذا كان في بعض الأوقات ; فلا تأثير له ، فلا محظور في الترك .
فصل

إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل ; كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة ، وسماع الغناء المكروه ; فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة ; فإن داوم عليها قدحت في عدالته ، وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي ، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج : " إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة [ ص: 213 ] لم تقبل شهادته ، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة ، والحلول بمواطن التهم لغير عذر ، وما أشبه ذلك .
فصل

أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض ; فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء ; فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي ، وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا .

أما بحسب الجواز فذلك ظاهر ; فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف ؛ يأثم بتركها ، ويعد مرتكب كبيرة ، فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله ; فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك ، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه ، وما أشبه ذلك ; فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها .

وأما بحسب الوقوع ; فقد جاء ما يقتضي ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة : [ من ترك الجمعة ] ثلاث مرات طبع الله على قلبه ; فقيد [ ص: 214 ] بالثلاث كما ترى ، وقال في الحديث الآخر : من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا ، مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ، ولا مستخف ؛ لكان تاركا للفرض ; فإنما قال ذلك لأن [ تركها ] مرات أولى في التحريم ، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون ، وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته . قاله سحنون ، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون : إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته . وكذلك [ ص: 215 ] يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك : إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة ; فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته ، وصار في عداد من فعل كبيرة ; بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة .

وأما إن قلنا : إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال : إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل ، لا مانع يمنع من ذلك ; فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية ، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم ; فيقال في الفرض : إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل .

وهكذا القول في الممنوعات : إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء ، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما ؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر ، بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر ، وسائر الصغائر مع المداومة عليها ; فإن المداومة لها تأثير في كبرها ، وقد ينضاف الذنب إلى [ ص: 216 ] الذنب فيعظم بسبب الإضافة ; فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ، ولذلك عدوا سرقة لقمة ، والتطفيف بحبة - من باب الصغائر ، مع أن السرقة معدودة من الكبائر ، وقد قال الغزالي : " قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة ، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر - قال : - ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ، ولم يتفق عوده إليها ، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره " .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]