عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-06-2021, 03:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة

الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة


د. إدريس مقبول


ثالثًا: الشخصيَّة اليهوديَّة ومنطق السِّمات المميزة:


كتَب الدكتور المسيري كتابًا نُشِرَ سنة 1997م تحت عنوان "مَن هو اليهودي؟"[27] وقد عرَض فيه لقضيَّةٍ غاية في الحساسية تخصُّ هوية اليهودي في العالم، وهي قضيَّة تسائل الطروحات الصِّهيَوْنية التي تُقدِّم نفسها باعتبارها قوميَّة اليهود، وأنَّ اليهود شعبٌ واحد موحد[28]، وقد بيَّن فيه المسيري - رحمه الله - كيف أنَّ اليهود واقعٌ إثني وعرقي متنوع، وأنَّ الطروحات الصِّهيَوْنية هي طروحات اختزاليَّة كاذبة.

كان المسيري - رحمه الله - يتحدَّث عمَّا يمكن تسميته بالسمات المميزة إذا شئنا الدقَّة التي تُميِّز الجماعات اليهوديَّة، هذه السِّمات التي قد يقومُ بينها بعض التناقُض والتدافُع في الشخصيَّة اليهوديَّة، وهو سرُّ تميُّزها، ومن هذه السِّمات التي نرى حُضورها من خِلال أدب باكثير - رحمه الله - والتي استمدَّها من دون شكٍّ من خلال معرفته المباشرة بواقع حال هذه الشخصيَّة، وأيضًا - وهذا أمر غاية في الأهميَّة - من خلال اطِّلاعه الدقيق على تصوير القُرآن الكريم لهم[29]:

أ- السمة الأولى: العنصريَّة:
من آيات العنصريَّة التي يمكن أنْ نعثر عليها - وهي كثيرةٌ - ما عبَّرت عنه الشخصيَّة العربيَّة من مُعاناةٍ أثناء الاشتغال المشترك في دوائر الوظيفة مع اليهود، يقول ميخائيل المسيحي العربي في مسرحيَّة "شيلوك الجديد" مشتكيًا ومتألمًا: "آه يا كاظم لو كنت موظفًا مثلي لشهدت بعيني رأسك كيف يتغطرَسُ الموظفون اليهود على الموظفين العرب كأنهم أصحابُ البلاد، وكأنَّ العرب غرباء فيها، والويل للموظف العربي إذا كان رئيسًا في المصلحة، ففي هذه الحال يتوقَّح مرؤوسوه اليهود عليه ويربكون عمله، ويُدبِّرون الخطط لإيقاعه، في زلَّةٍ تقع تبعَتُها عليه، فإذا قاوَمهم واستَعمَل سُلطَته عليهم أو شَكاهم فلا يلبثْ أنْ يُنقَل من منصبه، ويستبدل به رئيس يهودي، بدعوى الرغبة في انسجام العمل"[30].

وتمتدُّ العنصريَّة اليهوديَّة في مشهدٍ آخَر لتأتي الشهادة هذه المرَّة على لسان اليهودي إبراهام (اليهودي غير الصِّهيَوْني)؛ حيث يتمُّ التفريق بين العامل العربي والعامل اليهودي في الأجر، بل إنَّ السياسية العنصريَّة تذهب أبعد لمنع العمَّال العرب من العمل واستبدال عمال يهود بهم[31]، وهي الفكرة التي جاء بها "جوردن" اليهودي الصِّهيَوْني المعروف صاحب فلسفة "دين العمل" التي انبثقت منها نظريَّة العمل العبري، حيث ينبغي أنْ يقوم اليهودي بكافَّة الأعمال، ويعني ذلك ضمنًا عدم تشغيل اليد العاملة العربيَّة[32].

ولقد نجح باكثير أدبيًّا في رصد سمة العنصريَّة بما هي سمة مُتجذِّرة في الشخصيَّة اليهوديَّة التي تحظى سياقيًّا بالقوَّة[33] من داخل المجتمع الصِّهيَوْني ذاته؛ إذ يُعانِي اليهود الشرقيون (السفارديم)[34] من الإحساس بالدونيَّة والتهميش جرَّاء معاملة اليهود الغربيين (الأشكيناز)، نقرأ ذلك من خِلال الحوار الذي دارَ بين كوهنسون وكوهينيم في مسرحيَّة شعب الله المختار:
كوهنسون: لا تنسَ يا موسيو كوهينوف أنَّنا دولة يهوديَّة فيجب علينا أن نحترم السبت.
كوهينوف: رجعيَّة سخيفة لا تليق بدولتنا المتحضِّرة.
كوهينسون: هذا لو كان يهود إسرائيل كلهم ملحدين مثلك، لكنَّ فيهم المؤمنين المحافظين.
كوهينوف: تعني أولئك الرجعيين المنحطِّين من يهود العراق ويهود المغرب ويهود اليمن، هؤلاء يجب أنْ يكونوا تبعًا لنا، لا أنْ نكون نحن تبعًا لهم.
كوهان: أنا على رأي مسيو كوهينوف - أنَّه من أسخف السخف أنْ يُفرَض علينا نحن يهود أوربا وأمريكا بأنْ ننحطَّ إلى مستوى يهود اليمن"[35].

من خِلال هذا الحوار استَطاع باكثير - رحمه الله - ببراعةٍ أن ينقل لنا حدَّة الانقسام أو التناقُض بين اليهود الشرقيين والغربيين، هذه الحدَّة التي دفعت بعض الباحثين الإسرائيليين إلى التخوُّف من ظُهور إسرائيل شرقيَّة وأخرى غربيَّة مُستقبَلاً، ورغم أنَّ الشرقيين هم الأكثر عددًا إلا أنَّ الغربيين هم المُسَيطِرون سياسيًّا وثقافيًّا، وهم - أي: الغربيون - ينظُرون إلى الشرقيين نظرةَ المُتَعالِي؛ فهم في نظرهم مفتقرون للعقلانيَّة والتخطيط ويتَّسمون بخرافيَّة التفكير والذاتيَّة والعاطفيَّة وسُرعة الإحباط، بل هم أقرب إلى العرب، وقد بلَغ بهم الشطط أنهم يعتقدون أنَّ "العرب واليهود السفارديم يعمَلون معًا في خطَّة واحدة لتدمير الحضارة الأشكنازية"[36].

ب- السمة الثانية: تجاوز الأخلاق:
من وجهة نظَر وظيفيَّة يُعتَبر التجاوز الأخلاقي خُصوصًا مع الآخرين في الفكر اليهودي عملاً مقدسًا[37]، وصاحِبُه مبارَك، ووجهة النظر هذه إنما هي انعكاسٌ للواحديَّة الكونيَّة من جهة بما هي اختزالٌ لسائر الأبعاد، ومن جهةٍ أخرى لفكرة "الجوييم" الآخرين الذين يحلُّ فعل أيِّ شيء بهم، "إنهم يعتقدون أنهم هم وحدَهم البشر، أمَّا غيرهم فحيوانات مُسخَّرة لخدمتهم، هكذا يقول كتابهم التلمود"[38].

يُعبِّر عن هذه السادية كوهين في "التوراة الضائعة"؛ إذ هو يدعَمُ إسرائيل بأمواله من أجل أنْ يُمتَّع عينَيْه برؤية أعدائه وهم مهزومون مَسحُوقون وعلى رؤوسهم أحذية الجنود الإسرائيليين، يريد أنْ يشفي غليله بالانتقام لكلِّ ما أصاب شعب الله المختار في تاريخه الطويل من اضطهادٍ وإهانات[39]، إحساس مُتجذِّر بالتشفِّي لا يترك مجالاً للأخلاق أو للتراحُم والتعاطُف الإنسانيَّيْن، حتى إنَّ منظر الوجوه المشويَّة بالنابالم، ومنظَر البيوت العربيَّة المخربة والجثث، وصورة لهفة الفارِّين من بُؤس الحرب وآلامها تصيرُ منظرًا من وجهة نظره رائعًا؛ لأنَّه أشبه برواية مسلية هزليَّة تبهج النفس وتريح الأعصاب[40]!

إنَّ هذه الزاوية من نظَر الشخصيَّة اليهوديَّة للعالم وللعرب تحديدا تَفُوقُ أيَّ مستوًى لمفهوم التجاوُز الأخلاقي المتعارَف عليه، وتُذكِّرنا بما قاله أحدُ الشعراء اليهود وهو هاينريش الألماني عن اليهوديَّة، فهي عنده "مصيبةٌ وليست دينًا"، وقد كتب مرَّة يقول: توجد أمراض ثلاثة شريرة: الفقر والألم واليهوديَّة.

إنَّ إضفاء القَداسة في الفكر اليهودي على الفعل الخبيث (الذي يرمز لنوعٍ من التجاوز الأخلاقي) أو أي فعلٍ إنساني منحطٍّ مهما تناهَى في انحطاطه يوضحه على سبيل المثال ما قاله شايلوك بشأن راشيل: "إنَّك فتاة مباركة يا راشيل"[41].

لقد كان باكثير - رحمه الله - حريصًا على تعرية الشخصيَّة اليهوديَّة في هذا الجانب، فأجاد في كشف مستوى الفساد والتردِّي الأخلاقي الذي انحطَّت إليه الشخصيَّة اليهوديَّة في "شعب الله المختار"، حتى وصلت إلى حدِّ أنَّ الزوجة (سارة) تُعاشِر أعضاء الكنيسيت (كوهينسون وكوهين وكوهينوف وكوهان) وتدفَع ابنتها "راشيل" إلى أحضانهم وأحضان الميليونير الإيطالي، والفتاة تغازل المستثمر الأمريكي علنًا، وخطيبها "سيموت" يرى كلَّ هذا ويقبَله، وصاحب الفندق (حائم) لا يغضبه أنْ يرى زوجته تنتقل بين الحجرات ليلاً بقدر ما يغضبه أنها تُخفِي عنه كم نالت من كلِّ واحد من زبانئها، ويوافق على تقلُّب ابنته بين الرجال، كلُّ هذا من أجل المال.

وفي مسرحيَّة "التوراة الضائعة" ترتَمِي "بربارة" وهي المسيحيَّة التي تحوَّلت إلى اليهوديَّة في مستنقع الفساد مع يهودي "واعظ" غير زوجها "على الأرض المقدسة"، وتوهَّم زوجها أنَّ الولد ولده، وهي على وَضاعة فعلتها لا ترى أنَّ جرمها يستَوجِب النار أو العِقاب، فهي ستَدخُل الجنة لأنَّ زوجها يعتقد ذلك، وينتهي الأمر بحالةٍ من السيولة المتمثِّلة في الوُقوع في الإلحاد، حيث إنكار وجود الإله بالمرَّة[42].

لعلَّ ما يُفسِّر هذا الجموح الذي رصَدَه باكثير في الشخصيَّة اليهوديَّة للتجاوز الأخلاقي خُصوصًا في مسألة الدعارة والجنس ما نجده في مُدوَّنات اليهود وشروحهم التلموديَّة للمسألة؛ إذ لا يعتبر التلمود الزنا بامرأةٍ من الأغيار (غير اليهود) - متزوجة أو غير متزوجة - محرَّمًا، أمَّا التحريم في العهد القديم فيقتصر على "زوجة الأخ" لا زوجة الغريب، وفي إحدى الفتاوى جاء أنَّ إناث الأغيار "زوناه" وجمعها "زونوت"؛ أي: عاهرات، حتى لو تهوَّدن

كما يُمكِن ملاحظة أنَّ العهد القديم مَلِيءٌ بالأحداث الجنسيَّة المنافية للقِيَم الدينيَّة، والمعبِّرة عن سمة التجاوز الأخلاقي بامتيازٍ، من ذلك (اعتداء أحد أبناء يعقوب على جارية أبيه، العلاقة بين يهودا وثامارا زوجة ابنه، داود وامرأة أوربا الحيثي، إبراهيم وزوجته في مصر... إلخ)[43].

ت- السمة الثالثة: الاستغلال:
لعلَّ ألمع مثالٍ يحضر في أعمال الراحل باكثير مؤشرًا على الاستغلال في الشخصيَّة اليهوديَّة هو "شيلوك"، وقد أبدَعَ باكثير في رسم ملامحه وتدقيقها بما جعَلَ منه وحشًا كاسرًا لا يهمُّه سوى المال، ينشر وُكلاءَه في كلِّ مكان ليغرقوا البُسَطاء والمحتاجين في ديون لا تنتَهِي بهم إلا تحت رحمته، أو بتعبير أدق "قسوته"، يُؤكِّد هذا الأمر حديث "ميخائيل" في حديثه للشاب "عبدالله" عن شَراهة اليهود وكيدهم بكلِّ السبل؛ استغلالاً لضعف الفلسطيني في جرِّه لبيع أرضه لوكالات السمسرة الصِّهيَوْنية، يقول: "... نحن نُجاهِد اليوم يا بُنيَّ لنمنَع ما بقي لنا من أرض الوطن أنْ يتسرَّب إلى أيدي اليهود، إنَّنا نقف اليوم يا بُنيَّ في وجه الذهب اليهودي الذي يتدفَّق على بلادنا من كلِّ الجمعيات الصِّهيَوْنية في العالم ويغزو مَكامِن الضعف فينا بأسلحته الفتَّاكة ووسائل إغرائه الجهنميَّة"[44].

إنَّ الاستغلال في الشخصيَّة اليهوديَّة عند باكثير قد يأخُذ طابع القداسة من أجل إحداث حالةٍ من الرضا لإيقاع الظُّلم على الآخَرين بسلبهم ما يملكون أو تعريضهم للمتاعب والمصائب، كيف لا وموسى نفسُه فيما يدعونه "توراة" يأمُر أتباعه بسرقة حليِّ النساء المصريَّات ليلة الخروج، ألا يكون من الأتباع للموسوية نهج سبيله[45]، جاء في حوار "جيم" مع "جوزيف" في مسرحيَّة التوراة الضائعة:
"جوزيف: قال ميمانود: "إذا رَدَّ اليهودي إلى الأمي ماله المفقود فإنَّه يرتكب إثمًا كبيرًا، كَمِّل من عندك ألست تحفظ التلمود؟
جيم: (مكملاً) لأنَّه بعمله هذا يُقوِّي الكفار، ويعرب عن حبِّه للوثنيين، ومَن أحبَّهم فقد أبغَضَ الله"[46].

يبدو من تحليل هذا المقطع أنَّ أفظع أنواع الاستغلال وأشنعه ذلك الذي يعتَقِد فيه صاحبُه أنَّه يتعبَّد بهذا السلوك إلى ربه، ويتقرَّب به إلى مولاه؛ إذ هو يحرص أنْ يكون استغلاله للآخَرين (الأميين) على نحو مُتقدِّم وفي إبداعٍ وإتقان حتى يرتقي في مدارج القُرب من مولاه وربه، ويُكسب عمله وسُلوكه المادي الصرف غِلافًا مُقدَّسًا، وهذا الطابع أو السِّمة في الشخصيَّة اليهوديَّة ذكرها القرآن حين عبَّر عن تبريرهم بقوله: "ليس علينا في الأميين سبيل"، وقد كان باكثير - رحمه الله - متمثِّلاً هذه الآية تحديدًا في توصيفه لمنطق الشخصيَّة اليهوديَّة المستغلَّة، بل وأوردها على لسان صلاح الدين في حواره مع ريتشارد قلب الأسد: "يا عزيزي قلب الأسد، إنَّ لهؤلاء اليهود عذرهم فيما فعَلُوه، فهم يعتقدون أنْ ليس عليهم في الأميين سبيل"[47].

إنَّه ليس اعتذارًا لهم بقدر ما هو فضح وكشف لألاعِيبهم ومخطَّطاتهم ولنفسيَّاتهم المريضة، وقد كان باكثير في كثيرٍ ممَّا نقله عن الشخصيَّة اليهوديَّة موجهًا في تفسيره بروح القرآن الكريم ونصوصه التي رفعت الغطاء عن مَكنُوناتهم ودواخلهم، فصارت لِمَن يتأمَّل نصوص الوحي، التي هي بمنزلة المنظار الكاشف، واضحة في تفاصيلها المخزية والرديئة، والمعادية لكلِّ قيمةٍ إنسانيَّة سامية.

وقد أفلحت شخصيَّة "جيم" في التنبُّه إلى صُدور الشخصيَّة اليهوديَّة في الاستغلال عن نُصوصٍ مُقدَّسة ممَّا دَعاه للشك، كيف يكون دين سماوي من المفروض أنْ يدعو للتسامح والتعاون والرحمة نجدُه يدعو في المقابل لاغتنام كلِّ فرصة لنهب الآخرين وتضييع حقوقهم، أم كيف يجوز تصور موسى يتعبَّد الله بالاستغلال والعنصريَّة: "يا مستر جوزيف، إني قرأت عن الأديان كلها السماوية وغير السماوية، فوجدتها كلها تدعو إلى الإحسان والبر بالإنسان أيًّا كان جنسه ولونه ومعتقده، إلا هذا الدِّين اليهودي الذي أنتم عليه، فإنَّه لا يأمُر بالإحسان إلا لليهود وحدَهم، ولا ينهى عن ارتكاب الإثم إلا في حقِّ اليهود وحدهم، أمَّا غيرهم من بَنِي البشر فمُباح لليهودي أنْ يسرقهم أو يظلمهم أو يعتدي عليهم، بل واجبٌ عليه أنْ يفعل ذلك إذا أمن الوقوع تحت طائلة القانون"[48].

ث- السمة الرابعة: الطهرانية:
في الوقت الذي تُعلِن فيه "الشخصيَّة اليهوديَّة" أخذها بمبدأ التخلُّق في الممارسة العمليَّة، وانتهاجها سبل الاستقامة، تحرص في السر على خرق هذا الادعاء، بالارتماء في أتون الشهوة والفساد وهتك الحرمات، ولعلَّ السِّياق الاجتماعي في الواقع كما نقَلَه باكثير يرسخ هذا المعنى، من شواهد ذلك الحوار الذي جمع أمبرتو وكوهان:
أمبرتو: هل لك يا سيدي أنْ تخبرني عن هذه العادة الغريبة عندكم؟
كوهان: أي عادة يا سنيور؟
"أمبرتو: لقد طُفنا أنا وزوجتي يوم أمس بجميع فنادق المدينة فلم نجد فندقًا واحدًا يرضى أن يعطينا حجرة بسريرين أو سرير مزدوج.
كوهان: هذا ممنوعٌ هنا في تل أبيب.
أمبرتو: لكنَّها زوجتي.
كوهان: ولو، للرجال جناح وللنساء جناح.
أمبرتو: هذا أمرٌ لا نظير له في أيِّ بلد آخر، فما السر في ذلك؟
كوهان: السر واضح يا سنيور، رعاية للأخلاق ومحافظة على الشرف".
كلُّ هذا التبرير الطهراني ليكشف "أمبرتو" له في الأخير أنَّ "راشيل" عوَّضت زوجته ونابَتْ عنها تحقيقًا لشعار "أخلاقيَّة بدون أخلاق"، وحينها يتحوَّل الفندق الماخور إلى "أشرف فندق في العالم"[49].

إنَّ طبيعة "الشخصيَّة اليهوديَّة" طبيعة أبيقورية مُغرِقة في الأخْذ بمبدأ اللذَّة، حتى إنَّ أكثر الجماعات اليهوديَّة الصوفيَّة ادِّعاء للأخلاق والسمو والطهرانيَّة، وهي الحسيدية، تجد المنتمين إليها أكثر الناس تطرُّفًا في الشهوانيَّة والماديَّة.

هذه الطهرانيَّة - أي: طهرانيَّة العنصر اليهودي - جعلَتْه من أشدِّ الكائنات انغِماسًا في التناقُض بين الظاهر والباطن، وهو تطرُّف يُذكِّرنا بجماعات يهوديَّة مثل السكوبتسي والخليتسي التي تُحرِّم الجماع الشرعي من ناحية، ثم تُقِيم من ناحية أخرى احتفالات ذات طابع جنسي داعر، وقد تأثَّر يهود اليديشية بتلك الحركات، ولعلَّ كلَّ ذلك أدَّى إلى تهيئة الجوِّ لظهور شبتاي تسفي الذي نادَى بالترخيصيَّة وبإسقاط الأوامر والنواهي، وبدأ في ممارساتٍ جنسيَّة كانت تفسر تفسيرًا رمزيًّا من قِبَلِ أتباعه[50].

والطهرانيَّة التي سجلها أدب باكثير كسمةٍ للشخصيَّة اليهوديَّة كما تجدُ مستندها فيما ذكرنا، هي أيضًا ذاتُ طابع مُقدَّس؛ إذ كما تروي التوراة، فإنَّ نبيَّ الله هوشع أمره الله أنْ يتَّصِل بعاهرةٍ ويُنجِب منها أبناء، وقد فعل ذلك بحماسٍ أو بنشاط كما تحكي روايتهم "انطلق فاتَّخذ لك امرأة زنا وأولاد زنا، فإنَّ الأرض تزني عن الرب"[51]، وبذلك تُعبِّر هذه السمة عن حالة السيولة الشاملة التي بلغَتْها الشخصيَّة اليهوديَّة في التاريخ والثقافة.

ج- السمة الخامسة: اصطناع المظلوميَّة (الإحساس بالاضطهاد):
الإحساس بالاضطهاد مُكوِّن رئيس في الشخصيَّة اليهوديَّة[52]، وعليه يعيشُ اليهود في الدعاية الصِّهيَوْنية العالمية، يقول كوهين وهو أفضل مَن يُتقِن النواح والتعبير عن هذه السمة ضمن شخصيَّات باكثير: "أتعد قيام دولتنا واعتراف الأمم بكياننا القومي بعد ما قاسَيْناه من الاضطهاد الطويل لعنة علينا".

"مرحبًا بلعنةٍ تنصفنا وترفع عن ظهورنا سياط الاضطهاد"[53].

فاستمرار الوهم بالاضطهاد يخلق في الكائن اليهودي حالةً من عقدة الاضطهاد؛ إذ يتحوَّل العالم كله إلى شرٍّ يحيق باليهود واليهوديَّة، كما يتحوَّل معه أيُّ سلوك تواصلي في التأويل اليهودي إلى محاولةٍ للمحو من الوجود، وهكذا تصيرُ قاعدة التشكيك في النَّوايا واتِّهام الآخَرين بالظُّلم وإلقاء اللوم عليهم من الأسلحة النفسيَّة القريبة لكلِّ شخصيَّة يهوديَّة، كما يتحوَّل التبرير باعتباره آليَّة نفسيَّة مُؤقَّتة إلى سُلوكٍ يومي دائم، سُلوك للأخطاء ولتاريخ الحقد وتدشين لمجتمع الكراهية.

عقدة الاضطهاد لها منطقُها التفسيري الذي تواجه بها خُصومها المزعومين، وهي تعتبر أنَّ "بقاء اليهود على هذا الوضع المحزن مأساةٌ إنسانيَّة، ومن العار على بني الإنسان ولا سيَّما في هذا العصر الذي استيقظ فيه الضمير العالمي أنْ تستمرَّ هذه المأساة، إنَّ اليهود جنسٌ من البشر لا يختلف عنهم صورةً ولا يقلُّ عنهم ذكاء ومواهب، ولا يتخلَّف عنهم في رِكاب الثقافة والحضارة، ولا ينقص عنهم شعورًا بحقِّه في الحياة، ولكنَّ اليهودي ما برح منذ القدم ينظر إليه بعين الريبة والحذر في كلِّ بلدٍ يحلُّ به كأنَّه من طينةٍ أخرى غير طينة البشر، فإذا تمكَّن بالرغم من ذلك من النجاح في معترك الحياة بجدِّه وذكائه عُدَّ ذلك ذنبًا عليه، فكرهوه على الأقل إنْ لم يضطهدوه"[54].

وفي مسرحيَّة "التوراة الضائعة" نستَمِع للحوار الخيالي الذي دارَ بين زعيم النازيَّة هتلر وزعيم الصِّهيَوْنيَّة هرتزل فيما يُشبِه لقاءً في يومٍ من أيَّام القيامة على طريقة أبي العلاء في رسالة الغفران أو دانتي في الكوميديا الإلهية حيث جمعت الزبانية بين العدوَّيْن اللدودين جمعًا يكشف عن وعي هتلر بما تُظهِره "الشخصيَّة اليهوديَّة" من الاستضعاف المزيف من أجل الاستقواء فيما بعدُ على غيرها.

"هرتزل: اضربني لكي يرثوا لحالي فيعيدونا كما كنَّا.
هتلر: هيه! هذه طريقتكم تفتعلون الاضطهاد لاستدرار العطف"[55].

إنَّ هذا الحوار الذي تخيَّله باكثير وجمع فيه بين شخصيتين لم يجمعهما التاريخ حقيقةً، له ما يُبرِّره فنيًّا وفلسفيًّا؛ إذ إنَّ باكثير أراد من خلاله نقل رسالة للعالم بأنَّ الأيديولوجيَّة الصِّهيَوْنيَّة قامت على مُبرِّرات غير واقعيَّة ومُفتَعلة، وقد نجحَتْ في كسب التعاطُف بما صنعته من سيناريوهات صوَّرت اليهودي بأنه مُضطهَد مُطارَد بئيس صاحب حقٍّ ضائع، كما يُبيِّن من جهةٍ أخرى أنَّ النازية في حربها على اليهود كانت واعيةً بخطَرِهم الداهم على الحضارة، وهي مسألةٌ لم يكن هتلر ليُخفِيها في كتابه الشهير كفاحي؛ إذ اعتبرهم سوس الحضارة الإنسانيَّة وسبب خرابها.

ح- السمة السادسة: النبوءة:
استطاع باكثير - رحمه الله - تجسيد هذه السمة في الشخصيَّة اليهوديَّة من خِلال عدَّة ملامح أهمها قضيَّة "شعب الله المختار" التي كتب مسرحيَّة بعنوانها، وفي الوقت ذاته وببَراعة فنيَّة تمكَّن من تفنيد هذه النبوءة بفنيَّة من طريق نقل حالة الصِّراع التي تغلي بها إسرائيل خُصوصًا بين اليهود الشرقيين والغربيين، والتي عكست تشظِّي هذه النبوءة ذاتيًّا؛ إذ ينكر اليهود الشرقيون أنْ يكون خُصومهم الغربيون ممَّن يشملهم وصف "شعب الله المختار"، فهم في النهاية جماعة "مفاليك صعاليك" من نسلٍ مختلط لا يصح أن يرقوا إلى مرتبة الاصطِفاء.

عزرائيل: أنتم سبب الانحطاط يا إشكنازيم، ما دمتم في إسرائيل فلن يتمَّ لها مجدها الموعود أبدًا.
كوهين: أتستطيع يا عزرا أنْ تقول لنا لماذا؟
عزرا: لأنكم لستم من شعب الله المختار، أنتم دُخَلاء من نُطَفِ السلاف والصقالبة واللاتين والجرمان ومَن شئتم من الأمم!
كوهينسون: ومَن هم شعب الله المختار إذًا؟
كوهان: أنتم!
عزرا (محتدًّا): نعم نحن.
الأربعة (ساخرين): أنتم؟"[56].

يرد على لسان كوهين في مسرحيَّة شيلوك تأكيدٌ على أنَّ حق "اليهودي" وحق "إسرائيل" في الوجود والسِّيادة حقٌّ مُقدَّس جاءت به النُّبوءات القديمة: "إنَّ حقَّ اليهود في فلسطين ثابتٌ بالكتاب المقدَّس، وقد قامَتْ فيها مملكة إسرائيل العظيمة، وظهَر فيها أنبياء بني إسرائيل، ونحن وَرَثة داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء والرسل"[57].

وهذا الذي ذكَرَه باكثير عن نبوءات "اليهودي" مستمدٌّ - من غير شكٍّ - من خِلال اطِّلاعه على نُصوص التوراة والتلمود التي تغرس الخرافات في أذهان وعقول اليهود عبر التاريخ، جاء في سفر التثنية على سبيل المثال: "لأنك شعبٌ مُقدَّس للرب إلهك، وإيَّاك اصطفي الربُّ أنْ تكون له أمَّة خاصَّة من جميع الأمم التي على الأرض"[58].

ومثله أيضًا ما جاء في سفر الأخبار: "أنا الرب إلهكم الذي فرزكم من بين الأمم، وقد ميَّزتكم لتكونوا لي"[59].

وإسرائيل كما هو معروفٌ - فيما يعتبرونه نبوءات - لا تقفُ عند حُدود بلاد فلسطين، "إنَّ إسرائيل لن تقفَ عند حُدودها الحاليَّة، ولن تهدَأ حتى تُهَيمِن على سائر أرض الميعاد من النيل إلى الفرات"[60]، وهذه النبوءات تسكن العقل الباطن للشخصيَّة اليهوديَّة وتُحرِّك سواكنه في لحظات الانفِعال سواء بالفَرح أو الغَضب.

"كوهان: لنرقُص جميعًا، لترقُص إسرائيل، لترقُص أرض الميعاد (ينطلق إلى أقصى اليسار) من الفرات (ثم ينطلق إلى أقصى اليمين) إلى النيل"[61].

إنَّ الحلم بـ"أرض الميعاد" حلمٌ بتهويد الجغرافيا والتاريخ واللسان والإنسان، حتى تصير العبرية في المستقبل "هي اللغة الرسمية في جميع أرض الميعاد"[62].



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]